لا أشك للحظة بأن السكران من أكثر الكتاب ذكاء ومعرفة وعلما، ولعلي لا أكتم سرا إن صرحت بأن الدافع الخفي وراء هذا النقد هو الحسرة على المآل الذي وصل إليه هذا الكاتب!
وقد يتساءل من يقرأ هذا النقد: هل يعقل ذلك؟ هل يعقل أن يكون شخص ما بهذا التناقض الصارخ؟ وكيف يمكن الجمع بين الاعتراف بألمعيته وذكاءه ومعرفته وبين هذا المنهج التزييفي الذي تم إبرازه؟
باختصار وبشكل مباشر: ما الذي يجعل السكران ينهج هذا النهج؟
إن جانبا كبيرا من الإجابة على هذا السؤال تقع في باب الظنون والتخرصات والتحليلات النفسية، وهذا مزلق لن ألج فيه، ولكن سأركز على جانب صغير جدا قد يكون مفتاحا للإجابة على هذا السؤال. فالمنطلق الرئيسي لهذا النقد هو اختبار دعوى العلمية والموضوعية في كتابات السكران، والنتيجة التي توصلنا إليها هو أن كتابات السكران أبعد ما تكون عن العلمية والموضوعية، وأنها فقط تتزيّا بالأدوات العلمية لتمرير مقولات مقررة مسبقا.
فالسؤال إذن: إن كانت كتاباته لا تنتمي إلى العلمية والموضوعية، فإلام تنتمي؟
في الحقيقة إن أقرب مجال يمكن إدراج الكتابات السكرانية تحته هو (الكتابات التربوية)، التي تستهدف مجموعة محددة من المنضوين في لواء تنظيم ما أو حركة ما أو تيار ما، ومحاولة (تحصينهم) من كل ما يظن أنه عامل جذب لهم.. قد يصرفهم عن هذا التنظيم أو الحركة أو التيار. ولهذا تجد شدة السكران على التنويريين والدستوريين والحقوقيين أشد بكثير من شدته على اللبراليين والعلمانيين، لمعرفته بأن قدرة الأوائل على الجذب أكبر.
إن هذه الكتابات بالنسبة للشاب الصحوي تعزز وتدعم عنده اليقين بما لديه من قناعات يحتمل أن تزعزعها بريق الشعارات الدستورية والتنويرية الجديدة… إن هذه الكتابة منظور إليها بعينيّ هذا الشاب الصحوي والذي غالبا تكون بضاعته مزجاة من الاطلاع على عالم الأفكار من حوله تبدو شديدة التماسك والمنطقية. كما أن احتمالات التزييف والخداع والتشويه غير مطروحة أبدا، لأن هذا الشاب ينطلق في قراءته للسكران مدفوعا لا بعين نقادة لما تقرأ، بقدر ما هو مدفوع بثقة مطلقة بالكاتب.
والسكران يستغل كل هذا: ثقة القارئ به، وجهله بما يتحدث عنه، واستغلال تجربته السابقة التي تحول عنها، ليبيح لنفسه كل هذا التزييف الذي يمارسه لهدف تربوي محدد وواضح: الحفاظ على هؤلاء الشباب. من هذه الزاوية يمكن فهم هذه الحدة والمفاصلة عندما يكون الحديث عن القديمي والحامد وغيرهم، والتي تتحول إلى تفهم واعتذار عندما يكون الحديث عن شخصيات بعيدة مثل القرضاوي والميداني وعاشور.
إن الكتابات التربوية التي تصر على ربط المتربين بالمربين ربطا عضويا، بحيث يتم تصويرهم بأنهم القدوة المطلقة، العارفة بكل شيئ ومصدر المعرفة الكلية… هذا النوع من التربية يستمرئ بسهولة تشويه المنافسين والافتراء عليهم وتزييف أطروحاتهم، لأن نمط التربية الذي اتبعوه يجعل إتباع الأتباع لهم مرهونا بعزلهم عن غيرهم… فلا يهم تضليل هؤلاء الاتباع، ولا يهم الكذب عليهم، ولا تمرير وعي زائف إليهم، طالما أن المحصلة النهائية هي الحفاظ على هؤلاء الاتباع في حظيرة التيار أو المذهب أو التنظيم.
ولكن ما مآل هذا النوع من التربية الشمولية التشويهية القائمة على العزل والاحتكار والتلقين والتعبئة الدائمة؟
ما مآلها في زمن لا يمكن أبدا ضبط تنقل المعلومات وعزل الافراد عن كافة المؤثرات المتنوعة؟
إن مآلها- باختصار شديد- الفشل الكامل.
ففاشلة تلك التربية التي تنهار كليا مع أول اطلاع أو مواجهة مع أي طرح مستنير.
فاشلة تلك التربية التي لا تزرع في أفرادها استقلالهم وقدرتهم الذاتية على تفحص المقولات وتوليد القناعات، أفراد لم يتم بعد فطامهم معرفيا..
فاشلة تلك التربية القائمة كلها على الثقة بقدوة مزيّف يستمرئ الافتراء والتشويه المتعمد من أجل تسكين شكوك أتباعه وتعزيز يقينهم وثقتهم!
كتب السكران مرة مقالة بعنوان (منجزات الصحوة) وراح يتغزل ويتفنن في المديح للصحوة ومنجزاتها، وبغض النظر عن الخلط بين الصحوة والسلفية واعتماد معايير لتحديد المنجز فيها الكثير من التحكم، بغض النظر عن هذا كله، ولنقبل بكل المنجزات التي أوردها السكران وبمنجزات أخرى لم يفكر بها… كل هذا سنقبل به، لكن المسألة الخطيرة التي فات السكران تورطه بها هي التالي: ماذا يعني الحديث عن المنجزات؟
ألا يعني بالضبط الحديث عن وصول الشيء لنهايته، عن موته، وبالتالي يتم استذكار ماضيه تحديدا دون حاضره أو مستقبله؟
باعتقادي أن السكران يخوض المعركة الخاطئة: معركة الحفاظ على المكتسبات من هيمنة التيارات الجديدة، التي دفعته للقول بالشيء ونقيضه والتزييف والافتراء والتشويه… في حين أني أعتقد أن المعركة الحقيقية لإنقاذ الصحوة هي في الحديث عن مستقبلها، في تحديث برنامجها المعطل منذ التسعينات، في بث الروح بها من جديد، بمراجعة نقدية لتاريخها، لا للمنجزات بقدر ما تكون مراجعة للإخفاقات، لأن الميت وحده هو من تذكر محاسنه، أما الحي فالمفترض من أجل تطويره أن يتم التركيز على إخفاقاته على العطل الكبير الذي أدى به إلى هذا الانحسار السريع والمفاجئ… وهذا هو الموضوع الذي سأحاول الكتابة فيه في قابل الأيام.