بقراءة نقدية لغالبية أدبيات الخطاب السكراني، نستطيع تكشّف ملامح المنهج الثاوي خلفها، المنهج الذي ندعوه هنا (تزييفي) لأنه يتعامل مع الأدوات البحثية وكأنها حلي، يتزين بها، دون الاستسلام لها ذلك الاستسلام العلمي والموضوعي… فالنتيجة في هذا الخطاب مقررة مسبقا. وأبرز ملامح هذا المنهج هي كالتالي:
أ-مصارعة الأشباح.
فالذي يطالع ما يكتبه السكران، يجده محاربا لا يمل عن مصارعة مخالفيه الذين يكتفي بتصنيفهم وإيراد مقولاتهم دون التعريف بهم ودون توثيق هذه المقولات وهو المولع بتوثيق كافة الاقتباسات الأخرى في أبحاثه. وهذه الطريقة تتيح للسكران الهرب من تهمة (إساءة الفهم) و(التجني) و(التشفي) لأن القارئ لا يمكنه أبدا معرفة من هو المنقود حتى يستطيع التأكد والتثبت من مدى فهم السكران لمقولاته ومدى أمانته في نقلها- خصوصا أننا جربنا مثل هذا الفهم المغلوط وهذا النقل مع القرآن نفسه. وفي نفس الوقت الذي تتيح له هذه الطريقة هذا الهروب، فهي كذلك تعطيه الحرية في التفنن في توليد المقولات على لسان هذا المنقود… بحيث يقوم بإيراد عدد من المقولات على ألسنة هؤلاء المنقودين ويجيب عنها ويفندها… دون أن يعلم القارئ: هل حقا قال هؤلاء المنقودون ما يقولهم إياه السكران؟ وهل هذه فقط (أقوى) حججهم واستدلالاتهم؟ كل هذا لا يستطيع القارئ معرفته، لأن الناقد- الذي هو السكران- حريص أشد الحرص على إخفاء منقوده. فمن هم (االمناوئون للخطاب الشرعي)؟ ومن هم (المنتسبون إلى البحث الشرعي)؟ ومن هم (الإصلاحيون)؟
ب-(ما في الجبّة إلا الله)
لا توجد مبالغة في كتابات السكران أشد من المبالغة في ادعائه تمثيل (أهل السنة والجماعة)، ولا توجد طرافة أشد من طرفة إخراجه (الديمقراطيين والاصلاحيين والفكريين ومتفقهة التغريب وادعياء الوسطية وأدعياء الاصلاح السياسي والوطنيين) من دائرة أهل السنة والجماعة. ففي كل مقالة يكتبها سكران، يخرج فريقا من المسلمين من السنة إلى البدعة، ومع كل ورقة ينشرها تضيق دائرة السنة شيئا فشيئا، حتى إني لأخشى أن يأتي اليوم الذي لا يستوعب قطرها أحدا سوى السكران نفسه. هذا الإغراٍق في ادعاء التمثيل المساوق لهذا الشغف بإخراج الآخرين من دائرة أهل السنة، لا يتأتى إلا عبر الانطلاق من تمويه أساسي يستخدمه السكران، ألا وهو (التماهي مع الشريعة). فكما الحلولية القديمة التي ادعى أفرادها التوحد مع الله والفناء فيه، نجد السكران في كتاباته يطرح آراءه واجتهاداته الشخصية على أنها هي الشريعة وهي الوحي وهي مذهب أهل السنة الجماعة. فإن كان الصوفيّ القديم قد ذهبت بعقله سكرة الوجد وحب الإله ليدعي دعاواه المجنونة، فإنه التزييف وحده الذي حدا بالسكران للتماهي مع الشريعة والوحي وعدم الفصل بين (اجتهاداته) وبينها.
جـ-القرص/السحر.
ما هو السحر في كتابات السكران؟
يمكن لأي شخص أن يقرأ (احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي) أو (من اخترع لفظ الاختلاط) ليجد نفسه مأسورا بهذا الكم الهائل من العناوين والدراسات والأبحاث المتنوعة والاقتباسات العديدة من المراجع المتنوعة… وأن يجرفه بسرعة هذا التيار الهائل من (التوثيق) ليتقبل ما يمرره السكران من دعاوى ومقولات. هذا باختصار سحر السكران، مجموعة من الأقراص المدمجة يحسن البحث فيها ويرص نتائجها المنوعة بطريقة أخاذة ليمرر من خلالها مقولاته وآراءه… وهذا (التوثيق) و(التعديد) و(الحشد) هو ما يسميه السكران علمية… وسيتبين في النماذج التالية أمثلة على هذا التوظيف التزييفي لمفهوم العلمية عبر الاتكاء على هذه الأقراص المدمجة التي يسرت لنا التقنية الحديثة خلالها سهولة البحث في نصوص عدد هائل من الكتب المتنوعة.
د-المانوية.
السكران مغرم بالثنائيات: (طريق المادة/طريق الإيمان)، (المدنية/العبودية)، (الاحتساب الكفائي/تبعيض الوحي)، (معظمة السلف/مزدري السلف)، (المحور الموضوعي/المحور الفني…إلخ). وكان نواف القديمي في (المدنية الموبوءة) قد أثار هذه النقطة على بحثه (مآلات الخطاب المدني)… فما كان من السكران في تعقيبه على نواف إلا أن ادعى (أن المقابلة بين الثنائيات منهج قرآني نبوي) في عادته الحلولية في نسبة آرائه واجتهاداته إلى الوحي مباشرة.
ولإثبات دعواه الحلولية يستدل السكران بآية (من كان يريد حرث الاخرة نزد له في حرثه ما نشاء ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) كدليل على المقابلة بين الدنيا/الآخرة، دون أن يلتفت لآيات كثيرة أخرى لا تعارض بين الدنيا والآخرة كـ(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسى نصيبك من الدنيا) وآية (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب) وآية (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك) وهذه الآية تنقل دعاء موسى عليه السلام عندما جمع سبعين من خيرة قومه ليطلب عفو الله عما فعل السفهاء منهم.
ويستدل بآية (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم في الآخرة هم غافلون) على المقابلة بين العلم المدني/العلم الإلهي. وهذا تحميل للآية ما لا تحتمل: فالآية تعيب الاكتفاء بعلم الظاهر من الحياة الدنيا دون العلم النافع في الآخرة، أي أنها ضمنيا تثني على من يجمع الأمرين، فكيف تكون دليلا على المقابلة بينهما؟
ويتابع السكران استدلالاته التي لا علاقة لها بالمدلول، فهو يعتبر أي آية تقابل بين أمرين.. بين الاستقامة والانحراف وبين الحق والباطل، أن هذا دليل على أن (المقابلة بين الثنائيات منهج قرآني نبوي). وهذه سفسطة، لأن كافة الأدلة التي أوردها هي أدلة تقابل بين نقيضين، وإثبات أن النقيضين يتقابلان، أمر معروف ليس بحاجة لإستدلال قرآني.
مشكلة السكران هي أنه يجعل من غير المتناقضات: متناقضات: كوضعه للمدنية كنقيض للعبودية، أو الدنيا كنقيض للآخرة… رغم أنه بالإمكان الجمع بينهما، بل إن غالب الآيات التي يستدل بها السكران على اعتبار الدنيا مقابلة للآخرة، هي آيات تعيب الاكتفاء بالدنيا دون الالتفات للآخرة…. أي أنها ليست ضد الاهتمام بالدنيا، بل هي ضد الاكتفاء بها.
والمشكلة الأخرى هي اختصار الخيارات المتعددة بخيارين اثنين… فالناشط السياسي إما (مبعض للوحي) أو (محتسب كفائي)… إما أبيض أو أسود، ولا وجود لكافة ألوان الطيف الأخرى। وهذه الطريقة يلجأ إليها من يريد إغلاق باب الحوار، وتحويله إلى نوع من المفاصلة على طريقة جورج بوش: أنت معنا (حيث كل الحق) أم ضدنا(حيث كل الباطل)؟
هـ-غزالي جديد؟
عندما نتذكر أبا حامد الغزالي، فنحن نتذكر (حجة الإسلام) الذي كتب (تهافت الفلاسفة) و(فضائح الباطنية) وغيرها من الكتب التي تدافع عن (العقيدة). لكن، أيضا، عندما نتذكر أبا حامد، فنحن نتذكر الرجل الذي أدخل المفاهيم المنطقية والفلسفية والصوفية إلى العلوم الشرعية في كتب كثيرة كـ(إحياء علوم الدين) و(المستصفى) وغيرها. ولهذا قال عنه تلميذه ابن العربي (شيخنا أبو حامد ابتلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع). ومثل الغزالي لكن في فضاء ديني مختلف نجد توما الإكويني أشهر المدافعين عن المسيحية، والذي حاول مقاومة التيار المتأثر بابن رشد، فكتب ضد ابن رشد ليعيد ادخاله من جديد عبر الباب الخلفي للكنيسة.
مثل هؤلاء – كما لاحظ أحد الأخوة- هو السكران الذي ابتلع ميشيل فوكو وأراد أن يتقيأه فما استطاع… فتجد في كتاباته إقحاما لمفاهيم حداثية ومابعد حداثية لعل أشهرها مفهوم (الخطاب) الذي يردده كثيرا عندما يتحدث عن النتاج الديني المعاصر كما في بحثه (احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي). وأنا في الحقيقة لا أعتقد أنه بالإمكان سلّ مفهوم الخطاب الفوكويّ عما يحيط به من إشكاليات الحقيقة وارتباطه بالقوّة وتشابكه مع السلطة وانبناؤه على الفروض الأساسية الغير مثبتة…إلخ، لا يمكن سلّه هكذا ومن ثم دسّه بسهولة في المجال الديني ووصفه بالشرعي، إن هذا العمل، لو أدرك (محامو العقيدة) خطره، لنال السكران النصيب الأكبر من الردود والانتقادات.
هكذا… بتحويل المنقود إلى شبح وإبعاده عن دائرة السنة والتحوّل إلى الممثل الحصري للسنة والتماهي مع النصوص المقدسة وإغلاق الحوار عبر اختصار الدنيا في لونين اثنين، بهذا المنهج التزييفي يعتمد السكران في كتاباته التي يدعوها (علمية) و(موضوعية)! هذا المنهج يمكن لكل من يملك أدنى نظرة نقدية أن يكتشفه ويستوضحه.
وسنقوم بإيراد نموذجين لتوضيح تهافت دعوى (العلمية) و(الموضوعية)، وأنها ليست سوى كتابات تزييفية… وهذان النموذجان (من اخترع لفظ الاختلاط) و (ذرائع الإصلاحيين).