ففي بحث (من اخترع لفظ الاختلاط) يقوم السكران بانتقاد مقولتين محددتين:
الأولى: وهي مقولة (المنتسبين إلى البحث الشرعي) ومفادها أن الاختلاط مصطلح غير معروف في مدونات الفقه التراثية.
أما المقولة الثانية: فهي مقولة (المنتسبين إلى البحث الفكري)، ومفادها أن الغرب المعاصر لا يعرف التعليم غير المختلط.
بعد تحديد المقولات دون نسبتهما إلى أصحابهما- كما هي عادة السكران- فنحن لا نعرف تحديدا من هم هؤلاء المنتسبون للبحث الشرعي وأولئك المنتسبون للبحث الفكري؟ لا نعرف: ما قالوا؟
وكيف قالوا؟
وبم استدلوا؟
وما مدى تحكّم السكران في انتقاء أجزاء من أقوالهم وترك أجزاء؟
كل هذا بحكم الغيب بالنسبة لنا كقراء… لكن الطريف في الأمر، أنه وعلي الرغم من إخفاء هوية المنقودين، وانتقاء المقولة المنقودة بعناية إلا أن السكران يفشل في نقدها.
ففي نقده للمقولة الأولى، عوّم المسألة، فالمقولة تتحدث عن (مصطلح الاختلاط)، عن كون الاختلاط مسألة تدرس بعينها، كمسائل الطهارة والمسح على الخفين والبيع والطلاق والديون وغيرها… فهل كان الاختلاط مصطلح شرعي يدل دلالة واضحة على منكر معروف مسبقا عند الفقهاء الأوائل؟ هذا السؤال الذي يقفز فوقه السكران ليخرج لنا – والفضل في ذلك طبعا للأقراص المدمجة- من مدونات التراث كل جملة ورد فيها لفظ (اختلط) و(يختلط) وكل اشتقاقات الجذر (خ ل ط) معتبرا أن مجرد وجود اللفظ بمعناه العام أمر كاف لتقرير أن (الاختلاط منكر شرعي نصت عليه كافة المذاهب الأربعة لأهل السنة والجماعة). بهذه الطريقة السكرانية، يمكن إثبات أن كل مصطلح حديث قد تم تناوله في السابق، بمجرد إيجاد إحدى اشتقاقات الجذر اللغوي بنفس المعنى العام للمصطلح، دون الاهتمام بهل كونه درس كمصطلح بعينه، أي كمسألة قائمة بذاتها.
باختصار: لا يستطيع السكران أن يورد تعريفا اصطلاحيا للاختلاط من أي من الكتب التراثية، مهما أشقى نفسه في البحث بين أقراصه المدمجة! ومن هنا تصبح النتيجة: صفر، فوجود اللفظ لا يعني أبدا أن المسألة مدروسة ومعروفة في كتب الفقه. والسكران في الاقتباسات المتعددة من الكتب التراثية المختلفة التي أوردها لم يثبت إلا ما أراد نقضه، فكون الاختلاط لم يرد إلا كلفظ عابر داخل مسائل السفر والقضاء وغيرها، يعني أنه لم يدرس كمسألة بعينها.
أنا هنا لست أنصر المقولة التي تقول (كونه لم يذكر في الكتب الأولى إذن فهو مباح)، بل أتعجب جدا من هذه الرغبة الغريبة في الاحتكام لمدونات الفقه… إذ أن السلفية المعاصرة لم تقم بعمل أفضل وأعظم من حربها الضروس ضد المذهبية، والرجوع المباشر لمصادر الوحي. لو كنت مكان السكران، لأجبت عن هذه المقولة التي تقول (إن الاختلاط غير معروف في الكتب الأولى) بأن هذا أمر طبيعي مثله مثل أحكام الصلاة في الطائرة وغيرها، لأن المجتمع القديم ليس كالمجتمع الحديث. ففي المجتمع القديم، مجتمع الشافعي وأحمد وغيرهم، المجتمع الزراعي التقليدي كانت مساحات الالتقاء بين الذكر والأنثى مساحات عابرة، في سوق، في سفر، في حج، عند المسجد، عند القاضي… وغيرها، ويمكن تكشف ذلك في أبيات الغزل فغالبا كان العاشق لا يجد حبيبته إلا في هذه الأماكن، التي كان الالتقاء فيها عابرا. لكن بمقابل انحسار هذه المساحات العامة، كانت الفضاءات الخاصة في المجتمعات التقليدية القديمة مأهولة بالاختلاط… فالبيت التقليدي القديم، كان يعيش فيه الأب وزوجته وابنائهما وابناء ابنائهما… وللجميع تخيل كيف كان الوضع في اوقات الاكل والاجتماع والمسامرة. ومع تغير الظروف العالمية، وبداية تشكل الدولة الحديثة القائمة على تقسيم العمل الغير معتمد على جنس محدد والمعتمدة على أجهزة بيرقراطية بحاجة إلى تعليم وما إلى ذلك، ازدادت المساحات العامة لالتقاء الذكر بالانثى في التعليم والعمل واماكن الترفيه وما إلى ذلك، بل زاد الأمر تعقيدا مع ثورة التقنية، ففضاءات الانترنت والاتصالات أوجدت مساحات جديدة للاختلاط المسمى زماني، ففي منتديات الانترنت وعبر برامج المحادثة المباشرة يتحدث الرجال والنساء. فالمسألة برمتها حادثة، ولابد من النظر إليها نظرة علمية فقهية معاصرة تتناسب والمجتمع الحديث: أما أن يقبل الفقهاء بالدولة الحديثة ويباركونها، ويضطرون الناس للعيش وفق أنماط المجتمعات التقليدية: فهذا هو الجمود والتخلف بعينه. وبدل التفتيش في الكتب القديمة عن الاختلاط والاحتجاج بوجودها في تلك الكتب على حرمتها، والاحتجاج بانعدام وجودها على اباحتها… بدلا من ذلك كان من المفترض أن يبحث الفقهاء عن هذه الصيغ الجديدة وبحث آداب التواصل بين الرجال والنساء في الاماكن العامة.
هذا فيما يتعلق بالمقولة الأولى، أما بخصوص نقد السكران للمقولة الثانية المنسوبة للمنسوبين إلى (البحث الفكري)، والتي مفادها ( أن الغرب المعاصر لا يعرف التعليم غير المختلط)؛ فقد قام بتزييف كامل المسألة. فالمقولة تتناول (التعليم غير المختلط) والسكران يتحدث عن (التعليم الأحادي الجنس)، وهو أمر مختلف عن (التعليم غير المختلط) الذي هو ترجمة السكران المتواضعة للمصطلح الانجليزي ( single-sex education)… إذ أن هناك فرق بين الأمرين. ففي التعليم الأحادي الجنس يكون طلاب الفصل كلهم من جنس واحد، لكن هذا لا يمنع أن يكون الاستاذ رجلا، ولا يمنع أن يكون المدير رجلا.. ولا يمنع أن تختلي الطالبة باستاذها في مكتبه لتسأله عن هذا الأمر أو ذاك، ولا يمنع أن تكون المدرسة لكلا الجنسين لكن الفصول خاص بجنس بعينه. والسكران يتعمد ترجمة (single-sex) بـ (غير المختلط)… وهذا فيه تزييف واضح للمسألة. فالمشكلة التي نشأت في المدارس التي تكون لكلا الجنسين، هي مشكلة التنميط. ففي هذه المدارس، يخجل الطالب الذكر من الانضمام للفرق الموسيقية والاندية الموسيقية لأنها تم اختزالها لدى الطلاب على أنها أنشطة (بناتية). ونفس الأمر بالنسبة للأنشطة الرياضية التي تجد الفتاة صعوبة في اقتحامها، بسبب كونها مصنفة على أنها أنشطة بنينية أو للبنين. هذا التنميط وغيره من المشاكل، هو السبب الرئيسي خلف فكرة المدارس أو الفصول أحادية الجنس في الغرب، أما السبب الذي حاول السكران اقحامه كمبرر لهذا الاتجاه وهو (حمل المراهقات في التعليم المختلط الذي يكبد المجتمع خسائر صحية واقتصادية) فأنا في عملية البحث المتواضعة التي قمت بها لم أجد مثل هذا المبرر، وبقليل من التفكير فيه نجد أنه مبرر- وإن صح- فهو ثانوي تعرض لعملية تضخيم سكرانية لإثبات المتلازمة الصحوية التالية: الاختلاط يجر إلى الانحلال الاخلاقي. إذ أن المراهقة التي تريد ممارسة الجنس في الغرب لن تعدم الحيلة في دولة تعتبر ذلك حقا يستوجب الحماية، فغير المدرسة هناك الحي والحديقة وأماكن الترفيه ومؤسسات العمل التطوعية… أي كل جانب من الجوانب المجتمع.
وهكذا يتبين لنا حجم التزييف في هذا المبحث… فهو أثبت وجود اللفظ اللغوي في الوقت الذي كان يتوجب عليه اثبات وجود المسألة أو المصطلح بعينه، وهو استفاد من الخلاف حول المدارس الأحادية الجنس أو المتنوعة ليتاجر بثقة القارئ به مصورا أياه خلافا بين المدارس المختلطة وغير المختلطة، ففكرة (غير المختلط) بمعنى أنه مكان لا يتواجد فيه إلا أفراد من جنس واحد ويتغيا أهدافا أخلاقية لمثل هذا العزل بين الجنسين، أي يتغيا منع الانحرافات والشرور التي يعتبرها لوازما للاختلاط، فهذه الفكرة لا توجد في الدول الحديثة إلا في المؤسسات الدينية الكنسية، كدير الراهبات وغيره