كالعادة يبدأ السكران بالحديث عن أشباح، يسميهم هذه المرة بـ(الإصلاحيين السياسيين)، ويضعهم كمقابلين لأهل السنة والجماعة. ثم بعد ذلك يُعمل مبضعه المانويّ ليجعل الإصلاحيين (مبعضين للوحي) وأهل السنة (محتسبين كفائيين). وعبر هذه الثنائية الجديدة يحدد مشكلة (أهل السنة) مع هؤلاء الإصلاحيين بأنها ليست في اهتمامهم بالإصلاح السياسي بقدر ما هي في (جحد أو التهوين من أمر أبواب أخرى للدين). والغريب أن السكران في كل مرة يصل عند هذه المسألة لا يوضح بالضبط كيف يهوّن الإصلاحيين من أبواب الدين الأخرى؟
ما هو ذاك الباب الذي يجحده الإصلاحيين، كما يجحد الرجل الذي في مثاله الذي أورده الزكاة رغم تركيزه على الصلاة؟
كل ما نجده كلمات عامة كـ (هم مجموعة من الناقمين على الخطاب الشرعي السلفي) و (ضلال كثير من أدعياء الاصلاح السياسي…. لجحدهم أبواب الدين الأخرى كتعظيم العقيدة وتوقير السلف ونحوها) وأنهم يتهكمون بقضايا (العقيدة والفقه ومقاومة التغريب) وأن جوهر الخلاف معهم (استخفافهم بأبواب الشريعة الأخرى وجرأتهم العظيمة على السلف) وأن مشكلتهم (لمزهم وتهكمهم لجهود حفظ العقيدة وحفظ الأعراض)، وأنهم (يلمزون الطحاوية والواسطية والتدمرية ونحوها من كتب العقيدة… ويلمزون أئمة السلف لاشتغالهم بقضايا كخلق القرآن…). فقط في الخاتمة نجد تفصيلا أكثر عند حديثه عن مآل من أشرب هواه حب الديمقراطية الغربية، فهو يتحول إلى (كثرة الحديث المنبهر المهزوم عن الحياة السياسية الغربية، والمساواة بين الكافر والمسلم في الحقوق السياسية على أساس المواطنة، والتهوك في حرية الأحزاب العلمانية في الدعوة والتغيير، واستباحة الإمامة العامة للمرأة، وجحد حد الردة، ولمز نصوص الطاعة السياسية في النصوص والسنن، واعتبار فتاوى أهل السنة والجماعة عن الخروج المسلح تكريسا للاستبداد، والتهكم بكتب العقيدة والفقه، إلخ).
فإذا اعتبرنا التفصيل الاخير هو توضيح للإجمالات السابقة: فهل الانبهار بالغرب ، وتبني أحكاما فقهية مخالفة للاحكام التي يتبناه السكران في مسائل ولاية المرأة والردة والمساواة المدنية بين المسلم وغيره، وتأويل بعض الاحاديث… هل هذا كله يستحق أن يوصف بأنه (تبعيض للوحي)؟
وألا يخرج السكران بهذا الحكم غالبية الإسلاميين والفقهاء والمفكرين المعاصرين من دائرة (أهل السنة والجماعة) لتبقى محصورة في مجموعة صغيرة جدا من السعوديين؟
تنقسم هذه المقالة إلى قسمين: قسم يتناول مسألة (تهوين شأن العقيدة والاستخفاف بها) عند الإصلاحيين، وقسم يتناول (الديمقراطية) عندهم.
في القسم الأول يضع مقولات في فم هؤلاء الذين يسميهم (إصلاحيين سياسيين) ويرد عليها. وبكل صراحة، نجد كافة المقولات التي ذكرها على لسان هؤلاء لا تضاهي مقولة خطيرة كالقول بـ(خلق القرآن)، وهي التي نقل السكران في بحثه (احتجاجات المناوئين للخطاب الشرعي) تبني عدد من العلماء المعاصرين لها، ولكنه في الوقت نفسه كان لا يذكر اسم الواحد منهم إلا مسبوقا بنعت الإمام أو العلامة ومتبوعا بالدعاء له وليس هذا فقط بل اعتذر لهم واستغفر لهم ولم يخرجهم من أهل السنة والجماعة ولم يتهمهم بتبعيض الوحي. فالسؤال: لماذا لم يسع السكران مع عبدالله الحامد وجماعته – إذ هم الوحيدون في الساحة المحلية ممن ينطلقون في إصلاحهم السياسي من مرجعية إسلامية- ما وسعه مع القرضاوي وابو زهرة وعاشور وغيرهم؟
هل القول بخلق القرآن أهون لديه أم اعتبار الكافر والمسلمين متساوين في الحقوق؟
هل تأويل آيات الله المفضي لتعطيل اسماءه وصفاته أهون لدى السكران أم تأويل حديث الردة بأنه خاص بالمرتد المحارب؟ وتأويل حديث ولاية المرأة بأنه محصور في حادثة امرأة الفرس؟
هذا فيما يتعلق بالقسم الأول، أما في القسم الثاني، فالسكران هذه المرة لم يستطع اخفاء منقوده جيد، فبحسب تسلسل الحجج المدافعة عن الديمقراطية التي أوردها، فإننا نستطيع بسهولة أن نستنتج أنه نفس التسلسل الموجود في كتاب (أشواق الحرية) لكاتبه نواف القديمي، أي أن القديمي عند السكران أحد الخارجين عن أهل السنة والجماعة والمبعضين للوحي! وهو الذي وصفه ذات مرة بأنه – والحديث للسكران- (أحد أساتذتي الذين استفدت منهم ولا زلت، وكل من اقترب منه علم ما تنطوي عليه نفسه من سمو ومروءة، ما أندر أن تجدها في غيره)!
مخيفة تقلبات الأحكام السريعة هذه!
لا علينا، فالمهم في حديثنا هذا هو المنهج المتبع، فالسكران تبنى صورة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم بأنه عبارة عن عقد، مثله مثل أي عقد بين فرد وبنك. ولم يقدم أي دليل شرعي على هذه الصورة، سوى آية (إن الذين يبايعونك)، والآية بتمامها تقول (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله…الآية) وواضح أن المقصود بها مبايعة المؤمنين للرسول في الحديبية على الموت، ولم تكن بيعة تولية ولا علاقة لها بإنشاء الدولة، ولكنها العادة السكرانية في قصقصة الآيات لتتوافق وما يريد اثباته. ومن هذا التصوير للعلاقة بأنها عقد شرعي، راح يحاكم كل ما أتى به القديمي في كتابه، معتبرا- انطلاقا من حلوليته التي وصفناها آنفا- أن تصوراته المستندة لأقوال ابن تيمية والفقهاء: وحي يوحى من السماء! والأدهى من ذلك أنه عندما تحدث عن (المطلوب) أي ما وصفه (السياسة الشرعية) اكتفى بتعريفها بالسلب بأنها (ليست هرقلية….. وليست ديمقراطية).
وهذه النقطة الأخيرة، هي التي انطلق منها القديمي في كتابه، فهو أكد على قضيتين: الأولى، أن الشريعة جاءت بأفضلية اختيار الحاكم على تغلبه، والثانية، أنها لم تمنع (إن لم تكن تحث) على مراقبة الحاكم. ثم تساءل: ما هو أقرب نظام لتحقيق هذين المبدأين؟ فوجد أن الديمقراطية هي أقرب النظم لهذين المبدأين، رافعا تساؤلا عاما: إن كنت تتفق على هذين المبدأين وترفض الديمقراطية، فما هو النظام – ولو بخطوط عامة- التي تراه مناسبا لتطبيق هذين المبدأين؟ وهذا الذي لم يورد عليه السكران سوى كلمتين لا يعلم معناهما إلا الله ثم السكران: (السياسة الشرعية).
هكذا رأينا في هذا النموذج تحقق غالبية الملامح التي استعرضناها لمنهجه التزييفي: مصارعة الاشباح (الاصلاحيين السياسيين) والمانوية (تبعيض الوحي/الاحتساب الكفائي) والحلولية (اعتبار خضوع علاقة الحاكم بالمحكوم لصورة العقد الشرعي، جزءا من الوحي، لا مجرد اجتهاد)، إدماج المفاهيم الحداثية (كمفهوم السيادة الغربي ذو الاصول اللاهوتية المسيحية كما أثبت ذلك كارل شميت)…إلخ.