“ما هي وظيفة الإنسان؟” يقول السكران أن هناك “اتجاهان رئيسيان في الجواب على هذا السؤال”(ص17)، وهما الاتجاه المدني- الذي يرى أن الغاية من خلق الانسان هي العمارة وكل ما سوى ذلك وسيلة لها- والاتجاه الشرعي – الذي يرى أن الغاية هي “العبودية” وكل ما سواها ، بما في ذلك العمارة والمدنية الدنيوية، وسيلة لها. والعبوديّة – بحسب الاتجاه الثاني – “نظام من الشعب التدريجية الشاملة” بحيث “إذا تزاحمت شعبتان من شعب العبودية فلا يقدم ما يتعلق بالشأن المادي مطلقا”(ص18). ويقرر السكران أن هذه القضيّة محسومة بشكل يقينيّ بالقرآن، ويسوق الأدلّة التي تؤكد كلامه.
بعد ذلك يؤكّد السكران أن الحضارة ذات قيمة تبعية في سلم الوحي. وذلك انطلاقا من كون القرآن جاء بتأسيس مركزيّة الآخرة على مركزيّة الدنيا. ويسوق الادلّة على أن موارد الارض وامكانياتها إنما المراد بها الابتلاء لا الرفاه. وبعد ان يؤكد هذا ، ويؤكد أن الأدلّة جاءت برقي المؤمن “الذي لا يشغله النشاط الاقتصادي عن الغاية الحقيقية العبادية”(ص21). ويؤكّد أن القرآن ما انفك يؤكد على أن كل ما في الدنيا لا يتجاوز كونه “لذة مؤقتة”. وكذلك يسوق السكران الأدلة على أن الانحراف في التاريخ مردّه إلى “الانبهار بالمظاهر المادية”(ص22).
وبعد هذا يطرح السؤال التالي – وهو سؤال بعض الشباب المسلم : “ما الموقف من الحضارة المعاصرة ؟ “(ص24). ويجيب السكران على هذا السؤال بأن التأمل الصادق المتجرد لمنهج تعامل الانبياء مع المنجزات الحضارية، يوصلنا للموقف الذي يرضاه الله لنا. فيؤكّد أن دعوة النبي محمد لم تكن دعوة لاقتفاء آثار الحضارات التي كانت معاصرة له – رغم كل ما وصلته من رقي في العلوم – بل على العكس فقد أخبر الله “نبيه عن القيمة المنحطة في ميزان الله لكل تلك المدنيات التي عاصرت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم”(ص25). ويحشد السكران الأدلة التي تؤكد أن تلك الحضارات هي “ظلمات” بحاجة إلى التنوير. وهذا “الانتقاص والاستعلاء الشرعي على المنجزات الحضارية … ليس ذما لتلك المنجزات لذاتها، وإنما لأن أصحابها لم يتزكوا ويتنوروا بالوحي والعلوم الإلهية”(ص26). ونستخلص من هذا الموقف النبوي أن الانتفاع بما لدى الغير يكون لتعزيز غاية العبودية، لا للانبهار بهم وتعظيمهم. وهذا الموقف النبوي ينسحب لكافة الأمم السابقة التي بعث إليها الأنبياء، إذ كانت لا تخلوا من حضارة ومدنية. ومن هنا يتبيّن فساد الاتجاه المدني، إذ مؤداه – طالما أن العمارة هي الغاية – ان ارسال الرسل كان لغايات ثانوية ليست أساسية.
وبعد توضيح الموقف من الحضارة، ينتقل السكران لتبيين أن أصل الصراع القرآني كان دائرا بين “المظاهر المادية” و “المبدأ الديني” (ص29). فمن أشد ما يفتن الناس عن حقائق الوحي أنه يغلب على الرسل ألا يتمتّع أصحابهم بالمظاهر المادية الباذخة، كما هو الحال عند غيرهم. ومن يتأمل في تجارب الأنبياء يجدها “تمثالا ناطقا للصراع بين داعي “الوحي الالهي” وفتنة “القوة المادية””(ص29). ثم بعد ذلك، يستشهد السكران بسير الانبياء لتأكيد مقولاته.
وقبل أن يبطل كون “الإسلاميين ضد الحضارة”، يعرّج على قضيتين : الأولى أن المدنيّة في التاريخ الإسلامي تزايدت ، في الوقت الذي تناقصت فيه الخيريّة. مما يعني أن التقييم الإلهي لا ينبني على “المدنية” و”الحضارة” . والثانية أن تعلّق “غلاة المدنية” بآية العمارة والاستخلاف لإثبات أولوية المدنية ، هو تعلق فاسد ، لا من ناحية فهمهم لـمعنى “واستعمركم فيها” و لا فهمهم لآية الاستخلاف.
وفي سبيل إبطال دعوى أن الاسلاميين ضد الحضارة، يقرر السكران الركائز الثلاث التي في استيعابها استيعاب للموقف “الاسلامي المعاصر من الحضارة والمثاقفة عموماً والحضارة الغربيّة خصوصا” (44). وهذه الركائز هي : أولا ، التمييز بين الحضارة كغاية والحضارة كوسيلة، بأن تكون الحضارة “موجهة بهدف “تحقيق العبودية” ” (ص44)، وثانيا ، التمييز بين الوجه العلمي والفلسفي والسياسي . وثالثا ، التمييز بين الانتفاع والانبهار.
هكذا يتناول السكران قضيّة “الحضارة في الإسلام” من حيث أولويتها الغائيّة، ومن حيث مكانتها الشرعيّة ، ومن حيث الموقف منها متجسدةً في الحضارة الغربيّة.
والآن جاء دورنا ، لنفكك هذه المنظومة التي نزعم انها منظومة قائمة على كثير من الاستدلالات المبتسرة، والخلط الفجّ بين المفاهيم، واغتصاب النصوص وليّ اعناقها لتتوافق مع هذه الرؤية المشوّشة للحضارة والمدنيّة.