كنّا قد وضحنا أكثر من مرّة أن محاكمة السكران للحضارة وتبيان موقف الشارع منها، انبنت على أصلين فاسدين: النظر للحضارة بمنظور دنيوي، وإلباسها الاحكام التي أطلقها الشارع على النظرة الدنيوية. وهذين الأصلين ، بالاضافة إلى الانحياز للإيديويلوجيا الزهدية، أثرت بشكل كبير على تعامله مع نصوص الشارع، وعلى الاحكام النهائية التي خرج بها. وهذا التأثير سنجده بشكل أوضح في الفقرة التي عنونها بـ “الافتتان بالقوة المادية لخصوم الرسل”، بل سنصدم به مباشرة مع اول سطر من هذه الفقرة إذ يقول: ” كاد أن يكون جوهر الصراع القرآني أساساً بين المظاهر المادية” و “المبدأ الديني” أو ما يسميه القرآن الدنيا/الآخرة”(ص29). هكذا ، وبجرّة قلم كما يقولون، تصبح المظاهر المادية هي الدنيا، والمبدا الديني هو الآخرة. وهذا تسطيح واختزال من عدّة وجوه :
فأولا ، وكما وضحنا كثيرا ، أن القرآن لا يضع الدنيا في صراع مع الآخرة، بقدر ما يضع “الدنيوية” ، أو التوجه الذي يقتصر على الدنيا معتبرا إياها غاية وحيدة ونهائية؛ يضع القرآن هذه الدنيوية مقابل “الجمع ما بين الدنيا والآخرة”.
وثانيا، لا يمكن بحال جعل الافتتان بالدنيا مقصورا على الافتتان بالقوة المادية، فالدنيا ليست مظاهر ماديّة فقط … وسنوضح هذه القضيّة أثناء استعراضنا للأدلّة التي استدل بها السكران.
ثالثا، أن المبدأ الديني ، لا يعني بالضرورة التوجه للآخرة فقط، بل يتضمن التوجه للدنيا أيضا. وهذه قضيّة مهمّة سنتعرض لها في مبحث خاص لاحقا.
وهنا ، بعد تبيين هذا الإختزال والخلط بين هذه المفاهيم الأربعة، تصبح استدلالات السكران غير ذات معنى، فهو لا يفهم من قول قوم نوح ” لا نراك إلا اتبعك أراذلنا” إلا المعنى الماديّ فقط، وهذا تخصيص لا أعلم له دليلا. فقد يكون الأرذل هنا هم العبيد ، فتكون الحريّة هي مصدر الافتتان، وقد يكون الأرذل هنا هم الأضعف نسبا ، فيكون النسب هو مصدر الافتتان. بل لو تجولنا في أقوال المفسرين القدامى فإننا لا نجد أيا منهم حصر هذا المعنى بالقوّة الماديّة، ليستنتج بعد ذلك أن هذا الافتتان “قانون تاريخي” كما يفعل السكران.
بل على العكس من ذلك تماما، نجد أن الأنبياء يستخدمون هذا “التفوّق” المادي لأممهم، وسيلة للدعوة .. فلو كانت هذه “القوّة الماديّة” هي سبب فتنتهم ورغبتهم عن الوحي، فلا معنى من التوسل بها لدعوتهم، وهذا الذي نفهمه من قول هود لقومه : ” واذكروا اذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح، وزادكم في الخق بسطة” وقوله : “أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لكم لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين” .. وهنا، بعد أن يُذكّر النبي هود قومه بكل هذه النعم، ماذا يقول ؟ هل يقول: احذروا ان تفتنكم هذه القوّة ؟ كلا .. بل نجده يقول : ” فاتقوا الله وأطيعون، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بانعام وبنين ، وجنات وعيون”.
ونجد السكران كذلك يوهم قارئه بأن قول الله: “وأترفناهم في الحياة الدنيا”، محصور بالترف المادي .. لكي يؤكد قانونه بأن القوّة الماديّة هي مصدر الافتتان. ونحن نفهم منها معنى اوسع، ونقول أن كل من ستتضرر مصالحهم من الدعوة الدينية، هم المقصودون هنا. سواء كانت مصالح ماديّة او معنوية ، أو غيرها. وان المصالح المهددة هي سبب من ضمن أسباب العزوف عن الوحي.
وهكذا نجد السكران إما يخصص مدلولا عاما بغير دليل، أو يحمل دليلا ما لا يحتمل، كل هذا ليؤكد قانونه .. فنجده يفهم من قول الله: “كذبت ثمود بالنذر، فقالوا أبشر منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر، أؤلقي عليه الذكر من بيننا بل هو كذّاب اشر” ، أقول : نجد السكران يفهم من هذه الآيات أن ثمودا جحدوا “الوحي الذي أتى به نبي الله صالح عليه السلام، واستنكروا أصلا أن يختص من لم يتميز بمظهر مادي بالوحي والنبوة”. وهنا ، في قوله : “من لم يتميز بمظهر مادي” … نجده يحمّل النص ما لا يحتمل. فالنص لم يذكر المظهر المادي لا من قريب ولا بعيد، بل ذكر أن تكذيب ثمود كان بسبب شبهة أن يكون الرسول من البشر وأن يكون شخصا واحدا وأن يلقى عليه الوحي من بينهم، وليس من بين هذه الشبه كلها أي إشارة للفروقات المادية.
وعندما يصل في استقراءه لسير الأنبياء إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، نجده يلوي أعناق الآيات لتتكيّف مع ما يريد إيصاله. وسأقدم نموذجا على ذلك يوضح هذه المسألة كأفضل ما يكون التوضيح. يقول السكران – وسأقتبس نصّه كاملا :
“وبكل صراحة ووضوح واجهوه (= أي كفار قريش، واجهوا الرسول) بأنه لا يملك “ثروة مادية” يستحق بها أن يتبعوه كما ساق تعالى احتجاجهم في سورة الفرقان بقولهم: ” أو يلقى عليه كنز، أو تكون له جنّة ياكل منها” وبعد هذه الآية مباشرة يعقب سبحانه وتعالى على هذا الاحتجاج المادي الرخيص بكونه لا يعجزه سبحانه ذلك ولكنه أراد اختبارهم وامتحانهم فقال سبحانه وتعالى: ” تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا” “(ص32)
قبل أن نعلق على هذا النص، سنقبتس آيات سورة الفرقان، يقول الله تعالى : “وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يلقى إليه كنز، أو تكون له جنّة ياكل منها، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا”. لنعيد ترتيب احتجاجات قريش:1- ان ينزل إليه ملك يكون نذيرا معه، 2- أن يلقى عليه كنز، 3- أن تكون له جنّة. لنتسائل الآن: بالنظر لهذه المطالبات هل يمكن أن نقول أن مصدر احتجاج قريش : أن الرسول لا يملك ثروة مادية، كما يقول السكران؟
الجواب طبعا لا، فالمطالبة بنزول ملك ليكون مع الرسول نذيرا ، لا تدخل ضمن “الثروة المادية”، والسكران لم يذكر هذه المطالبة ، لأنها – ببساطة – تلغي كافة استدلاله ، وتحوله إلى أن مطالبات قريش لم تكن مطالبات مادية بقدر ما كانت مطالبات تعجيزية، كنزول ملك من السماء ، أو أن يلقى عليه كنز ، فالمطلوب “أن يلقى عليه” ، لا أن يكون لديه كنز، أو ان تكون له جنّة ، وكلنا يعلم أن المطالبة بـ “جنّة” في بيئة صحراوية ، كمكّة، هي مطالبة هدفها التعجيز لا الاحتجاج على افتقار الرسول للثروة المادية. بل إننا لو تفحصنا مطالبات قريش الأخرى ، سنجدها كلها تدعم القول أن اعتراضهم الرئيسي ليس كون الرسول بلا ثروة مادية، بل اعتراضهم هو أن يكون الرسول بشرا مثلهم لا يتوفر على أي خاصيّة يستحق من خلالها اختياره للنبوة أو حتى معجزة تؤكّد ما يقول. فهم طلبوا منه أن يفجر لهم من الأرض ينبوعا، وطلبوا منه أن تكون له جنّة يفجر خلالها الأنهار تفجيرا، وطالبوه كذلك بأن يكون له بيت من زخرف، أو أن يرقى للسماء، وأن يؤكّد رقيّه بأن يأتيهم منها بكتاب .. وهذه المطالبات مذكورة كلها في سورة الإسراء (90-93). ولا نحتاج لمزيد بيان، لكي نؤكّد أن مثل هذه المطالبات هدفها التعجيز، ولم تكن منطلقة من افتقار الرسول للثروة المادية. ليس هذا فقط، بل إن المتتبع لسيرة الرسول، سيرى أن الرسول لم يكن فقيرا ماديا، بل إنه متزوج من خديجة، المرأة الغنيّة التي كان يتاجر بأموالها، بل إن الله قالها صريحةً له ” ووجدك عائلا فأغنى”. فكيف يُقال لنا أن الرسول كان بلا ثروة ، وان افتقاره للثروة هو سبب انصراف قومه عنه واحتجاجاتهم عليه ؟ بل الادهى من ذلك كلّه ان قريشا عرضت على الرسول ، في محاولاتها لثنيه عن دعوته الجديدة، أن يكون ملكا عليها .. فكيف تكون الثروة المادية هي التي فتنتهم، في الوقت التي يعرضونها على الرسول؟
هذا فيما يتعلق بـ “الافتتان بالقوّة المادية لخصوم الرسل”، أما بخصوص “دلالة جدلية الخيرية/المدنية” .. فملخص كلام السكران فيها هو التالي: أننا نلاحظ أن المدنيّة الإسلامية كانت تتطور في الوقت الذي كانت الخيرية فيه تتناقص. ويبني على هذه الملاحظة “أن الحضارة والمدنية المادية ليست المقياس الإلهي لقيمة المجتمعات والأمم”. ونستطيع ان نقلب الاستدلال ونقول : أن تطوّر المدنيّة كان نتيجة هذه الخيرية، فبناء أسس الحضارة والمدنيّة والتوسع العسكري وهزيمة أكبر الامم ، تم في خير القرون، وهكذا .. نستطيع ان نقول أن العصر العباسي المتقدم مدنيا إنما هو نتيجة لتلك الاعمال والتضحيات التي تمّت في القرون المفضّلة. ونبني على هذا الربط كلّه: أن المقياس الإلهي يقصد بالخيرية هي تلك الفعالية الحضارية التي تنتج المدنيّة والحضارة، تماماً كما فعلت القرون المفضلّة والخيّرة. وبهذا القلب ، تصبح هذه الظاهرة، شأنها شان أي ظاهرة تاريخية، قابلة لأكثر من تفسير ودلالة، وبالتالي لا فائدة من الاستدلال بها.
والآن، بعد أن فرغنا من توضيح زيف هذه الاستدلالات، وما انبنى عليها، سننتقل لمناقشة ما ذكره السكران حول آية العمارة والاستخلاف.