“ولا يجرمنكم شنآن قومٍ على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى … “
متى يفشل الناقد؟
ببساطة، يفشل الناقد إذا انساق خلف مقولات ومفاهيم منقوده وخضع لسلطتها، هو في هذه الحالة يكفّ عن ان يكون ناقدا ، ليتحول لمجرد “مدقق” يعيد النظر في نطاقات تلك المفاهيم وتنزيلها على الوقائع. وهذا هو الذي وقع فيه “المبرك” فهو- على سبيل المثال- لم يخالف السكران على “مركزية” 11 سبتمبر ، بقدر ما خالفه حول “تفسير هذه المركزية”.
ولهذا، وقبل أن نبني أجوبتنا للأسئلة السابقة لا بد أن نتحرر أولا من إسار المفاهيم التي أحاطها السكران بها، وأول تلك المفاهيم : مفهوم الفرنكفونية.
هل هناك تعريف للفرنكفونية ؟ لا نجد في بحث السكران أي تعريف او توضيح لهذه الفرنكفونية، كل ما نجده هو أنها نعت لمدرسة فكرية تسببت في انحراف الشباب الإسلامي. وهكذا نجد أن ’هذا الخطاب (= أي الخطاب المدني) … اكتنفته أربعة ظروف رئيسية شكلت أضلاع الوعاء الجوهري لتناميه ، ألا وهي : مناخ سبتمبر ، والضخ الفرنكفوني ..‘(ص 9).
لماذا لا نجد تعريفا للفرنكفونية ؟ لا يخلو السبب من أن تكون هذه الفرنكفونية واضحة جدا بحيث أنها لا تحتاج أبدا لتعريف ، وهذا أمر منتفٍ ، فقد وجهت هذا السؤال لبعض من أعرف أنهم قد طالعوا البحث فأجابوا أنهم صادفوا هذه الكلمة لاول مرة في هذا البحث، بل إن أحدهم – كما أُخبرت- يقول : لو لم يكن من بحث السكران سوى اني تعرفت على “الفرنكفونية” و “اللائكية” لكفاه.
إذن نحن أمام “مفهوم” غير معرّف يُقدم كنعت لمدرسة يتم التعريف بأفرادها بأنهم ينتمون لعلمانية ما بعد 1984 ، وهي مدرسة تتمركز حول “سؤال الحضارة” ، ويتوقف البحث عند هذا، ولا يعطينا المزيد حول هذا النعت. لذلك لا خيار امامنا سوى البحث عن هذا المفهوم خارج “المآلات”.
“الفرنكفونية : حركة فكرية ، ذات بعد أيديولوجي ، تهدف إلى تخليد قيم (فرنسا الام) في كل مستعمراتها التي انسحبت عنها عسكريا، ومدافعة التيارات القومية واللغوية الاخرى، وذلك من خلال اعتماد اللغة الفرنسية باعتبارها ثقافة مشتركة بين الدول الناطقة بها كليّاً أو جزئيا”(1). ويحدثنا الدكتور فريد الأنصاري، أن مصطلح “الفرنكفونية” يعود إلى ’عالم الجغرافيا (اونزيم ركلو) الذي وضعه في اواخر القرن التاسع عشر: 1880م للدلالة على الدول التي تستعمل اللغة الفرنسية‘ (2).
الفرنكفونية : مصطلح جغرافي أم مصطلح ايديولوجي ؟ في “المآلات” نجد السكران دائما يستخدمه مع “المغاربية”، وكمقابل للـ”مشارقة”. مما يوحي بأنه يستخدمه كمصطلح جغرافي للدلالة على مجموع دول المغرب : الجزائر وتونس والمغرب. لكنه عندما تحدث عن طه عبد الرحمن وصفه بأنه “فيلسوف المغرب” (ص59). هل يعني هذا شيئا ؟
وصف بلاد المغرب بالفرانكفونية ، هو كوصف بلاد جنوب غرب آسيا وشمال شرق أفريقيا بالـ”شرق الأوسط”، هي مصطلحات جغرافية : نعم ، لكنها ، أيضا وهذا هو المهم ، مصطلحات: سياسية. فهناك حركة نشطة في المغرب لمناهضة هذه “الفرنكفونية” وهناك منظمة دولية كاملة تضم أكثر من 55 دولة، هي المنظمة العالمية للفرانكفونية. وهناك دورة ألعاب رياضية، تسمى دورة الالعاب الفرنكفونية تضم مجموعة من الدول الأفريقية وكندا وفرنسا. وهناك الجمعية العامة للكتاب الفرانكفونيين. وهناك 200 مليون متحدث باللغة الفرنسية حول العالم.
الفرنكفونية هي نوع من انواع توظيف العولمة في خدمة ثقافة وقيم محددة ضدا على ثقافات وقيم أخرى. فكما نتحدث هنا في الخليج عن نوع من “الامركة” يكتسحنا في وسائل إعلامنا وحياتنا اليومية نظرا لكوننا مجتمعات مستهلكة تقريبا في كل شيء. فهناك في بلاد المغرب نجد نوع من “الفرنْسَة” إن صح التعبير ، في كل مناحي الحياة ، وكمقاومة لهذه الهيمنة الثقافية شرعت الحركات الإسلامية في المغرب والحركات القومية لتاكيد هويتها المتجذرة في التراث العربي الإسلامي وتبديها في لغتيها الأساسيتين “العربية والامازيغية”. هذه الحركة ابتدأت منذ القدم مع علال الفاسي سعيا للاستقلال السياسي عن فرنسا، وتستمر اليوم في كافة مناحي الحياة.
وهناك كذلك “تشكي” من هذه الفرنكفونية نظرا لعدم فعالية اللغة الفرنسية كلغة للعلوم والتقنية ، فعالية كتلك التي تتوفر عليها اللغة الإنجليزية. بل إن احد المغاربة قد افتتح موقعا على الانترنت لشن حملة على اللغة الفرنسية سماه “بلا فرنسية”(3).
على الضفة الاخرى ، سعت فرنسا منذ أيام الاستعمار لتكريس ثقافتها القومية في أبناء المستعمرات لتحقيق حلمها في قيام “فرنسا الام الثانية” التي تقصد بها “فرنسا الأفريقية”. ويحدثنا – وهنا كل المفارقة – محمد عابد الجابري في سيرته الذاتية “حفريات في الذاكرة” عن تغلغل هذه “الفَرنْسَة” في التعليم حيث كانوا يتعلمون أن اجدادهم يقبعون هناك في بلاد الغال (الاسم القديم لفرنسا)، ويحدثنا عن اغتباطه عندما انتقل من هذه المدرسة الفرنسية لمدرسة أخرى “وطنية”. وحرصت فرنسا على تدعيم ثقافتها بالمنجزات المادية الحديثة عن طريق خلق مفارقة عمرانية بين المراكز القضائية والادارية الفرنسية ، والمراكز القضائية والادارية التقليدية المغربية. وسعيا لاستغلال البربر قامت بالترويج لقومية “امازيغية” كتمهيد لدمجها في الإطار الفرنكفوني (4). وباستيعابنا للفرنكفونية ، نستطيع أن نفسر بها الكثير من الاحداث العالمية، كاحكام نزع الحجاب والقبعة اليهودية والصليب المسيحي في فرنسا، بانها نوع من هدم أي تعبير “ثقافي” مغاير للثقافة الفرنكفونية التي تتكئ على التراث الفرنسي المنحصر في عصر الأنوار والثورة الفرنسية.
وهذا النزوع للهيمنة ، هو أحد المحورين الرئيسين الذين دار حولهما الفكر الغربي: الطوباوية ومناهضتها. فالثقافة الطوباوية التي تنزع إلى إقامة مجتمع متجانس يتوفر على قيم مشتركة كلها فضيلة، هي ثقافة تقوم على عدة مسلمات: أهمها أنها تؤمن بأن هذا المجتمع المنشود هو أصل البشرية ، وهو حالة سابقة على التاريخ ، ولكن – وبسبب تفكك هذه الوحدة : ابتدأ التاريخ، وهو – أي التاريخ – ليس شيئا إلا السعي للعودة إلى تلك المدينة الفاضلة، التي بالعودة إليها نكون قد وصلنا إلى “نهاية التاريخ”. المسلمة الثانية هي أن هناك “قيم فاضلة” يتفق عليها كل البشر ، وكلهم يؤمن بها ، ولكن هناك من يتجاهلها وهناك من يتنكب لها ، والمطلوب العودة لتمثلها من اجل العودة إلى حالة المدينة الفاضلة السابقة، ولذلك يصبح العنف والإجبار وفرض الهيمنة أمرا مبررا في سبيل تحقيق المدينة الفاضلة (5).
ولن أضرب أمثلة دينية ، كخروج آدم من الجنة وسعي الأديان للعودة إليها ، بل سأقتبس الجملة الأولى من كتاب جان جاك روسو “العقد الإجتماعي” – الكتاب الذي يعتبر ذا دور جوهري في الثورة الفرنسية : ” يولد الإنسان حرا، ويوجد الإنسان مقيدا في كل مكان” (6). ويؤمن روسو بأن الحالة الطبيعية التي كان عليها الإنسان أنه كان يعيش حياة حرة لا سلطان فيها لأي شيء عليه (ما قبل التاريخ) ، ونظرا لانه انتقل إلى الحالة المدنية (التاريخ) فإن عليه ان ينظم اموره بحيث يتحقق له أكبر مقدار من حريته التي استلبتها المدنية … وعند تحقق هذا الأمر تتحقق المدينة الفاضلة (نهاية التاريخ). بعد الثورة الفرنسية ، وبعد بداية السعي نحو الجمهورية ، بدأت فرنسا نابليون بفرض هيمنتها على اجزاء كبيرة من اوروبا. وهذا هو التلازم بين “الطوباوية والهيمنة”، وهذا الذي يجعلنا نفسر سعي الإنسان للتبشير والدعوة لما يؤمن به، لأنه يفترض في الشخص الذي يدعوه تسليمه بفضيلة ما يدعو إليه، وكل ما هنالك أنه يحتاج لتنوير أو لإرشاد إليها، ويدعوه للخلاص بالسعي معه لتحقيق المدينة الفاضلة ، التي إن لم يكن معه فيها فهو بالضرورة غير موجود. ومن هنا ، من “من لم يكن معنا فهو ضدنا” (7) ، نستطيع أن نتعرف على سبب هذه الهوس الأمريكي في ربط حروبه في افغانستان والعراق مع “نشر الديمقراطية”، وذلك فقط اتكاءً على هذه الثقافة الطوباوية التي تتميز بها الثقافة الأمريكية عموما، وجولة بسيطة في أفلام هوليوود تعطينا هذه الحقيقة، ففي فلم “سمكة السيف” بطولة جون ترافولتا ، يقوم ترافولتا بالاستيلاء على جزء من ميزانية الحكومة الامريكية، وذلك لانفاقها في عمليات مضادة للعمليات الارهابية مبررا ذلك بالحفاظ “على نمطنا بالمعيشة”.
هذا الاستطراد الطويل كان ضروريا لطرح هذا التساؤل : هل اتهام – وهو الآن اتهام وليس مجرد نعت – الجابري والعروي وغيرهم من المثقفين العرب بالـ”فرنكفونية” هو من قبيل كونهم انحازوا لها “اختياريا” – فراحوا يروجون لها ضدا على الثقافة العربية الاسلامية- ام أنهم ، ولانهم في مناطق تخضع للهيمنة الفرنكفونية، انحازوا لها عفويا بشكل لاواعي واخترقت نسيجهم الفكري والقيمي وباتوا مرددين لها بغير وعي ؟
في الحقيقة هناك ثلاثة انواع من “الانحياز الثقافي” – كما يحدثنا حنا عبود : ’عفوي وانتهازي وليبرالي، فالأول ينتج من الفرد المستسلم للثقافة التي يعيش ظروفها. لا يعمل الفكر على النقد والتنقيب … والنوع الثاني : الانحياز الانتهازي قريب من النوع الاول، وإن كان يختلف عنه في أن درجة الوعي اعلى … فهو انحياز تقيّة، هربا من الاضطهاد. والنوع الثالث … وهو النوع الذي يمتلك صاحبه حصانة فكرية تمكنه من المحاكمة، من السجال مع الذات … ‘ (8). وبعيدا عن تسمية “لبرالية” التي لا نتفق معها ونستبدلها بتسمية “اختياري”، نقول : أي معنى من هذه المعاني يشير السكران ؟
هناك معنى ثالث ، وهو أن السكران نفسه خاضع لهيمنة مقولة “الفرنكفونية”، وبسبب خضوعه هذا ، راح يعتبر أي نتاج فكري مغاربي هو نتاج “فرنكفوني” بالضرورة، ولكن هذا المعنى مستبعد تماما ، وما طرحه هنا إلا على سبيل الفرض العقلي.
وبكلا المعنيين السابقين ، لا يمكن تسمية أفراد هذه المدرسة بالفرنكفونية ، فهم في كتاباتهم لم يروجوا للثقافة الفرنسية وقيمها ، بقدر ما يتركز اهتمامهم الرئيسي بإعادة تفسير التراث ، و “إعادة التفسير”: شيء ، و “ترويج قيم ثقافية أخرى”: شيء آخر ، قد يتداخلان : نعم ، ولكنهما لا يعنيان الشيء نفسه . وهم أيضا يتحدرون من التيارات الوطنية والقومية ، التي ناهضت الاستعمار ، وساعدت في مجالات التربية والتعليم (على سبيل المثال للجابري كتاب عن بحث في مشكل التعليم وللعروي بحث عن اشكالية الترجمة والتعريب وغيرهما) لتعميق البعد القومي ضدا على الهيمنة الفرنكفونية.
إن كان هناك من يمكن أن نصفه بالفرنكفونية فهو “محمد أركون” وذلك لأنه يسعى لدمج مسلمي فرنسا في المجتمع الفرنسي ، وسعيه هذا يتشكل من جزءين: إذابة – سواء عن قصد ايديولوجي او حسن نية – العقبات الذهنية في التراث الاسلامي ، باعادة تفسيرها لتمكن مسلمي فرنسا من الاندماج ، تعميق الوجود الاسلامي في فرنسا عبر التأريخ لوجوده ، وذلك باشرافه على كتاب ضخم يتناول تاريخ الاسلام في فرنسا منذ العصور الوسطى الاوروبية . هذا السعي للدمج ، لا يكفي وحده لاتهام اركون بالفرنكفونية ، لكن لا بد من توافر شرط ثاني وهو سعيه لـ”فرنسة” المسلمين، أي بسلخهم عن روابطهم بهويتهم الثقافية الاسلامية، ودمجهم بثقافة أخرى .. كما فعلت أمريكا بالزنوج والهنود الحمر.
الآن ، لنطرح هذا السؤال: كيف يستسهل السكران دمغ هؤلاء المثقفين بالفرنكفونية؟
صراحة، لا أجد إجابة إلا باتهامه بما اتهمهم به وهو استخدامه لأداة “المديونية” التي يشنع على هذه المدرسة اتكائيتها عليها. ففي مجتمع مثل مجتمعنا ، لديه حساسية مفرطة من كل ما هو غربي – رغم ان كل ما يشكله غربي – يجنح السكران لاستغلال هذه الحساسية وربط تلك المدرسة بأصول غربيّة، ليتقرب لقراءه من أسهل الطرق، فلا أسهل من أن أنسب غيري لغربي وأستشهد بسلفي ليصبح كلامي مقبولا في مجتمع يحتلّ الرمز فيه مكانة وقيمة أعظم واكبر مما يقوله هذا الرمز ويتحدث به.
قد يقول البعض : وماذا بعد ؟ هل في نفي نسبة الفرنكفونية عن هؤلاء تغيير لأي شيء في فحوى خطاب السكران ؟ الجواب : نعم ، فيه تغيير أساسي. فالسكران قد ربط هذه المدرسة بالآخر، الآخر الذي لا يتمثل لنا إلا كعدو متحفز للقضاء علينا باي وسيلة، وكل الذي أثبتناه ها هنا أن هذه المدرسة – إن كانت مدرسة – جزء من الانا . وبالتالي إعادة توطينهم ، ونفي الشبهة المؤامراتية عنهم.
بعد إعادة التوطين هذه ، كيف نفهم هذه “المدرسة” دون التوسل بمفهوم الفرنكفونية؟ ذلك ما سنتحدث عنه لاحقا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) موقع مجلة البيان ، تمهيد الملف الخاص بالفرنكفونية المعنون بـ “الفرنكفونية المفروضة والصبغة المرفوضة”.
(2) مقالة “الفرنكفونية في سطور”، في نفس الملف السابق.
(4) مقالة “الأبعاد الثقافية والايديولوجية للفرنكفونية في المغرب” ، في نفس ملف مجلة البيان المذكور آنفا.
(5) نسيج الإنسان الفاسد ، إيزايا برلين ، “أفول الأفكار الطوباوية في الغرب”، دار الساقي: ص : 31 .
(6) العقد الاجتماعي ، جان جاك روسو ، ترجمة عادل زعيتر ، مؤسسة الابحاث العربية ، ص: 29.
(7) جزء من خطاب بوش للكونجرس الأمريكي في الـ 20 من سبتمبر عام 2001 ، عقب احداث التفجير، وهو منشور في موقع البيت الأبيض.
(8) الأمن الثقافي : النشأة والتطور ، بحث منشور في مجلة حوار العرب ، عدد رقم 24 ، سنة 2006 : ص 46-47.