“لم يوجد أبدا أي تواد بين المؤرخ والمتنبئ”
بيتر غييل
ما هي الصورة التي يرسمها لنا ابراهيم السكران؟
هي كالتالي : أن هناك لحظة تاريخية مركزيّة ، هي 11 سبتمبر. “ما قبل” هذه اللحظة ، كان عبارة عن مجموعة من الشباب الإسلامي المشغولين حول “الحاجة إلى التجديد” و “مشروعية المراجعة” ، وتقدم اطروحات ’منتمية تتحاكم للمعايير الشرعية وتطرح “التجديد” مستهدفة تعزيز الحضور الإسلامي وامتداده إلى مناطق جديدة، لا التجديد بهدف إزاحة المحتوى الديني أو تقليص وجوده‘ (مآلات الخطاب المدني، ابراهيم السكران ، ص: 1 ، ونحن سنحيل إلى ترتيب الصفحات كما في نسخة مجلة العصر).
إلا أن “ما بعد” هذه اللحظة ، وبسببها أيضا ، ’تعرض الاتجاه الإسلامي إلى حالة محاكمة عالمية شرسة حدت من انسيابه ودويه وتراجعت معها شعبيته الاجتماعية بشكل ملموس‘ (ص9). وهنا ، في هذه اللحظة ، تبيّنت “ثغرة” نفذت من خلالها ’أبحاث المدرسة الفرانكفونية/المغاربية كإجابة جديدة نجحت في استغلال الظرف الأمني الحالي وحققت اكتساحا استثنائيا في فترة قصيرة‘ (ص9). وهذا “الاكتساح” ليس نتيجة لـ’عبقريّة طروحاتها الخاصة‘ وإنما ’رواجها بعد كسادها كان تبعا لزلزال الظرف السياسي السبتمبري‘ (ص9).
وفي هذا الإطار التاريخي تشكّلت “أزمة القيم” التي أفرزت “التيار المدني”. فالشباب الإسلامي الذين كانوا يقرؤون ’مجلة البيان والمودودي وسيد قطب والندوي ومحمد قطب … أصبحوا “عشية سبتمبر” يقرؤون للمدرسة الفرانكفونية/ المغاربية التي كان أشهر عمالقتها محمد عابد الجابري وعبد الله العروي ومحمد اركون …‘ (ص9). وهم -أي الشباب- لم ينتهوا من قراءة كتبهم حتى تشربوا “منطقها الداخلي”، وسلم قيمها التي تقف على رأسه ’مركزية المدنية وغائية الحضارة‘ وقامت – هذه الكتب – بإعادة صياغة نمط تفكيرهم وأسلوب نظرهم للوقائع وإعادة ترتيب الهرم الداخلي للقيم.
وعن سبب إقبال الشباب على هذه الدراسة فيرجع إلى “التكتيك الجديد” الذي تتبعته العلمانية العربية بعد 1984 – العام الذي شهد صدور بداية سلسلة نقد العقل العربي- وهذا التكتيك يتمثل في ’التحول من “الاستهداف المباشر للشريعة” إلى “إعادة تفسير التراث”‘(ص11) ، وهذا التحول هو ’بالضبط مصدر الجاذبية والإثارة لدى القارئ الإسلامي، وهي اللغة التي يفهمها جيدا‘ (ص11). هذا الخطاب الفرانكفوني تمكن من النفاذ إلى أسوار الداخل الإسلامي ممارسا هيمنته على الشباب الذين انتقلوا إلى مدرسته انتقالا لم يكن عاديا بقدر ما كان تحولا شهد ’ارتجاجات فكرية مذهلة كانت نتيجة لصدمة السؤال المركزي بين المدرستين‘ (ص11). السؤال المركزي الذي انتقل من “سؤال انتصار الإسلام” إلى “سؤال الحضارة”. هذا التغيّر الجذري في المركزيّة، بالاضافة إلى الادوات المعرفية الهائلة التي تتملكها المدرسة الفرانكفونية؛ كل هذا ، جعل انتقال هؤلاء الشباب بين المدرستين عبارة عن ’استقالة فكرية غير ودية من معسكر سابق وتسجيل لعضوية جديدة في المعسكر المقابل‘ (ص12).
هذا عن مصادر التلقي ، أما بالنسبة لمظاهر الازمة القيميّة : فقد آل خطاب هذا التيّار إلى حالة “انقلاب معياري” ، طالت ’الموقف من التراث، والموقف من الغرب ، والموقف من الدولة الحديثة … وكأن دخان سبتمبر قد مد ذراعه إلينا وقلب ساعة الرمل ليعيد دبيبنا إلى الوراء‘ (ص4).
تطوّر حال هذا التيار من الذب عن الدين والتراث – بعد استسلامه للأساس الضمني في الأبحاث الفرانكفونية المتمثل في أداتي : التسييس والمديونية – بإثبات أنهما يتضمنان أولوية المدنية والحضارة أصلا. ومن هنا ، مرورا بهاجس التفسير المدني للتراث والوحي ، الذي جعلت صورة الخطاب ’صورة تلفيقية باهتة تعاني في تركيبها الداخلي من هشاشة معرفية عميقة نتيجة كونها تعتمد على الانتقائية والتغييب دون منهجية‘ (ص14)؛ فإن الخطاب تطور إلى محاسبة الحركة الإسلامية والقسوة عليها ، اعتمادا على قربها وبعدها عن الحضارة الغربيّة، ليؤول أخيرا لشكل أسوأ كالقول أن المشكلة في “السنة النبوية” ’وهكذا يتسلسل الامر من سيء إلى أسوأ‘ (ص15). وزاد الطين بلّة ، المظالم الانترنتية التي تعرض لها هؤلاء من قبل المنتسبين للاحتساب ، وكذلك حفاوة المؤسسات الإعلامية التي وجدت فيهم أداة لتصفية ’حساباتها القديمة مع ما تسميه الإسلام السياسي‘ (ص15).
ويتساءل ابراهيم السكران : كيف نفهم هذا الخطاب ؟
وانطلاقا من مسلمة “أن لكل خطاب فروضه الأساسية” ، قرر أن ’النواة الخفية التي انطلقت منها كل هذه التحولات الجذرية … هي “المغالاة في قيمة المدنية والحضارة”‘ (ص7).وهذا الغلو هو الجذر الأساسي لكل الانقلابات التي حدثت ، وهو النموذج التفسيري الذي ’يقدم اجابات دقيقة حول تطبيقات هذه الظاهرة‘ وهو ’ينبوع الانحراف الثقافي‘ (ص7).
وهذه الظاهرة كلها – أي ظاهرة الغلو المدني : ’ظاهرة مؤقتة‘ (ص12). إذ ان الرواج الذي حققته الدراسات الفرانكفونية هو رواج مؤقت بسبب الأزمة الامنية التي يعيشها التيار الإسلامي بسبب 11 سبتمبر، الذي يعني أن ’الخطاب الإسلامي المعاصر سيسترد عافيته وموقعه الاجتماعي الريادي‘ تماما كما استعاد الخطاب الاسلامي موقعه بعد الردة التي أعقبت موت الرسول.
******
بهذه ’البشارة‘ تكتمل الصورة التي يرسمها ابراهيم السكران عن هذه الظاهرة، التي لا نستطيع أن نقول أمامها سوى انها صورة لواقع “متخيّل” لا واقع “معاين” ، صورة يرسمها لا لشيء “يراه” بقدر ما هي صورة لشيء “يتخيله”.
ففي هذه الصورة حاول السكران أن يجيب على هذه الأسئلة :
لماذا تحوّل الشباب من قراءة كتب التيار الإسلامي والصحوة إلى كتب المدرسة “الفرانكفونية”؟ أو بصيغة اخرى: هل الإنتقال تمّ بسبب “ميزة” فكرية في كتب تلك المدرسة ، أم بسبب “تعثّر” التيار الإسلامي ؟
ما هي الأسباب الاجتماعية لظهور مثل هذا التيار ؟
هل هناك شيء آخر غير “مركزيّة 11 سبتمبر” ؟
كيف نفهم “المنطق الداخلي” لتشكلات هذه الظاهرة ؟
وأخيرا : هذه الظاهرة : بداية عصر ، أم ظاهرة ’مؤقتة‘؟
طبعا ، قمنا بتجاوز سؤال : “هل توجد ظاهرة أصلا ؟ ” لأننا نتفق مع الباحث على وجود ظاهرة جديدة في المجتمع ، ولهذا سنقدم أجوبتنا على هذه الأسئلة التي ، وبصورة جذرية ، نختلف مع الباحث في أجوبتها.