في مبحث “الموقف من النبوات” يجيب السكران عن سؤال “ما الموقف الشرعي المنشود إزاء الحضارة المعاصرة؟” بالرجوع إلى موقف الأنبياء من الحضارات التي عاصروها. ويخلص إلى النتيجة التالية : أن الانبياء انتفعوا بما لدى هذه الحضارات مما يعزز غاياتهم، لكنهم لم يقعوا في الانبهار بها وتعظيمها. ويخلص كذلك إلى أن قيمة تلك الحضارات عند الله كانت منحطّة ووصفها القرآن بالضلال وأنهم في ظلمات، محتاجين للتنوير الإلهي. وأن القول بأن العمارة هي الاولوية الأولى في القرآن لازمه أن الله بعث رسله بالقضايا الثانوية والهامشية.
وهنا نتفق مع السكران في قضيّة واحدة فقط، وهي أن حصر غايات الإنسان بالغايات الدنيوية مؤداه تهميش دور الرسل والنبوات. وأما باقي القضايا فنختلف معه فيها كما سنبيّن في النقاط التالية:
أولا، جعل السكران موقف الأنبياء من الحضارات موقفا سلبيا، موقف المستفيد منها دون المساهم فيها. وهذا يتناقض مع آيات الوحي، فنحن نجد في القرآن أن الأنبياء والصالحين اختلفت مساهمتهم في حضارات أقوامهم على النحو التالي :
أ- أنبياء وصالحين كانوا يقرنون دعوتهم للتوحيد بدعاوى إصلاحية أخلاقية واقتصادية وسياسية دنيوية. كالنبي شعيب الذي كان يعالج الجانب الأقتصادي، والنبي لوط الذي سعى في معالجة ظاهرة الشذوذ الجنسي، وموسى وهارون الذين بعثا لمعالجة الطغيان السياسي الذي كان يمارسه فرعون. ومن الصالحين نجد قصّة صاحب موسى الذي أوتى من العلم ما دفعه للقيام باعمال دنيوية، فقتل الطفل كان تفاديا لأن يرهق أبويه كفرا وطغيانا ولأجل تعويضهما بآخر خيرا منه، وعيب السفينة كان لأجل عدم تمكين السلطان الظالم من غصبها، وبناء الجدار في القرية البخيلة كان حماية لميراث الطفلين الصغيرين.
ب- أنبياء وصالحين، تسلموا السلطة، فكانوا بناة حضارة ومدنيّة. يقول الله عن داوود ” وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم” ويقول ” ولقد آتينا داوود منّا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنّا له الحديد، أن اعمل سابغات وقدّر في السرد واعملوا صالحا اني بما تعملون بصير”، ومثل ذلك وأكثر أوتي سليمان. ومن الصالحين ذو القرنين وشرح الفعاليّة الحضارية التي توفّر عليها في بناء السدّ.
وهنا يجب الإشارة لقضيّة في غاية الأهمية ، وهي أن القصص في القرآن كانت من أجل غاية تثبيت الرسول في دعوته واستلهام التجارب السابقة لتهوين ما يلقاه من قومه، ولهذا فهذه القصص لم تعنَ بذكر تفاصيل لا تخدم هذه الغاية، فدور النبوات في الحضارات وموقفهم منها مسألة لا تخدم الغاية من القصص القرآني. وعلى الرغم من ذلك فإننا نجد بعض الاشارات لهذا الدور والموقف، الذي يساعدنا على رسم تصور عام عن مقدار مساهمة الأنبياء في بناء الحضارات. والقصّة الوحيدة الكاملة عن نبي من الأنبياء التي نستطيع أن نستخلص منها دور النبوات في بناء الحضارات هي سيرة النبي محمد.
فعلى الضدّ من أطروحة السكران الذي يقصر دور الرسول بأنه مجرد مستفيد من الحضارات التي حوله، ولم يشر للدور الايجابي لبناء المدنيّة والحضارة. أقول : على الضدّ من هذا، نرى أن القرآن اهتمّ بقضيتين جوهرتين : العبوديّة وبناء المدنيّة. فقد درج المشتغلين في علوم القرآن على تقسيم القرآن إلى مكيّ ومدني، وعلى الرغم من الاتجاهات المختلفة في تفسير هذا التقسيم، إلا أن التقسيم الزماني هو أشهرها .. بحيث يعتبر مكيّا كل ما نزل قبل الهجرة وإن لم ينزل في مكّة، ومدنيّا كل ما نزل بعد الهجرة وإن لم يكن في المدينة. ونجد كذلك أنهم يتحدثون عن خصائص للسور المكيّة تتميز بها عن السور المدنيّة. ومن بين خصائص السور المكيّة : التركيز على قضيّة التوحيد والعبودية ، وعلى إثبات النبوات والمعاد وعلى ذكر أحوال أهل الجنّة والنار وذكر القصص التي تشدّ من أزر الرسول. وبشكل عام نقول أن الموضوع المركزي للسور المكيّة هو العبوديّة. وبالمقابل نجد السور المدنيّة تعنى بقضايا جماعة المؤمنين منظمة إياها من الناحية المادية والاقتصادية والشرائعيّة والاخلاقية .. بحيث نستطيع أن نقول أن القرآن المدني تحتل فيه المدنيّة القضيّة المركزيّة. وسنقوم الآن بتوضيح ذلك عن طريق نموذجين: نموذج مكيّ هو سورة الأنعام ، ونموذج مدنيّ هو سورة البقرة.
فسورة الأنعام تناولت قضيّة التوحيد وعناد المكذبين وناقشت حججهم وتوعدتهم بالعذاب وواست النبي ووضحت السورة وظيفة الانبياء وحدود صلاحياتهم . ثم بعد ذلك تناولت قصة ابراهيم في سياق إثبات العبوديّة والوحدانية، ثم تطرقت لمظاهر الوحدانية في مختلف أشكال الوجود من فلق الحب والنوى مرورا بالنبات وانتهاءً بالسموات والأرض. بعدها تطرقت السورة لصفات الله ، ثم تناولت مطالبات المشركين وردت عليها.. ثم تعرضت السورة لبعض مظاهر الحياة عند المشركين وبينت ما فيها من ظلال وخرافة من حجر الأنعام وقتل الاولاد وعدم اشراك الزوجات في الطعام ثم ختمت السورة بأن هذا الكتاب أنزل لإقامة الحجّة عليهم وختمت بالتوحيد كما بدأت به. وهذه السورة تناولت بعض القضايا الحياتيّة في قائمة المحرمات وبعض الاطعمة المحرمة، وهذه تندرج تحت منطقتين: 1- تشريع للأساسيات كالمأكل والمشرب. 2- إصلاح للعادات السيّئة الموجودة في ذلك الوقت كقتل الاولاد والفواحش وما إلى ذلك. ونسبة هذه التشريعات لمجمل الآية نسبة ضئيلة جدا … مما يؤكد التركيز على قضيّة العبوديّة.
أما سورة البقرة ، فنجد أنها تبدأ بالتاكيد على العبودية وعرض لأنواع البشر من حيث موقفهم منها وقصّة بداية البشر، ثم تناولت السورة قصة بني إسرائيل وإبراهيم وناقشت مقولات بني إسرائيل، كل هذا لأن المسلمين لم يحتكوا باليهود من قبل. بعد ذلك ابتدأت السورة تتناول القضايا التالية : تحويل القبلة ، شعائر الحجّ ، التفصيل في أحكام الماكل والمشرب ، وتوضيح المستحقين للزكاة، والتشريعات الجنائية ، وأحكام الوصيّة، والصيام وأحكامه، والأموال، والأهلة وآداب الاستئذان ، واحكام الجهاد ، والحجّ ، وأحكام الخمر والميسر ، ووضع اليتامى ، وأحكام النكاح وما يتعلق بها من رضاعة وطلاق وترمّل، وأحكام الأيمان، ثم الآيات التي تحضّ على الانفاق، تتبعها آيات الربا والدين . والسورة تناولت قضايا التوحيد والمعاد ولكن بنسبة ضئيلة … مما يؤكد مركزيّة المدنيّة، وقد يتصور البعض أن أغلب هذه التشريعات تتناول العبادات ، وأن هذه العبادات نوع من التعبير عن العبودية. وهنا أقول : أن العبوديّة أعمّ من العبادات، العبودية : طبع، الإنسان مطالب بتمثله وعدم التنكر له، وتمثله هو انكسار وتذلل الإنسان لمن يعبده. وتوضيح هذه العبادات في الطور المدني، تتناول البعدين: البعد العبودي والبعد المدني، فيمكن استخلاص ما لا يحصى من الفوائد والحكم المدنية في مواقيت هذه العبادات ، ابتداء من الصلوات الخمس وانتهاء بمواسم الحجّ.
والمدنيّة هنا تعني بناء أسس حضاريّة تكفل الرفاه والتمكين في الدنيا والتمتع بها إلى جانب تحقيق الغاية الأخرى الأساسية وهي تمثّل العبوديّة. فإن كان موقف الرسول من حضارات عصره موقف المستفيد منها المؤكد على بعدها عن الله، فإنه لم يمت إلا بعد ان أسس لحضارة ستخلف كل حضارات عصره، وهذه الخلافة ليست انطلاقا من الصفر بقدر ما هي البناء على ما هو موجود.
ثانيا، يستدل السكران بحديث : ” إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم … “. على “القيمة المنحطّة لكل تلك المدنيّات التي عاصرت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم” (ص25). وبعد أن يسوق الأدلة على أن الحضارات والمدنيات الموجودة قبيل مبعث الرسول كانت تعيش في ظلمات ، مفتقرة للنور الإلهي. يذكّر أن هذا الاستعلاء الشرعي ليس ذما للمنجزات الحضارية لذاتها ، وإنما لأن أصحابها لم يتنوروا بالوحي والعلوم الإلهية.
ونحن لا نتفق مع كل هذا الطرح، فلا الأدلّة التي ذكرها تدل على انحطاط تلك الحضارات ، حتى يحتاج لأن يوضح أنها ليست مقصودة بذاتها، فالحديث يتحدث عن “أهل الأرض … عربهم وعجمهم” والآيات تتناول الناس وأنهم هم في ظلمات، وكونهم في ظلمات لا يعني أن هذا منسحب أيضا على مدنياتهم. بل إن الادلة تدل على عكس ذلك، فلو كانت قيمة الكفار تنسحب على منجزاتهم لما أورثها الله لغيرهم كما يقول الله : “وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال” ويقول عن حضارة الفراعنة : “فأخرجناهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، كذلك وأورثناها بني إسرائيل” ويقول الله لأصحاب الرسول : “وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا، وأورثكم أرضهم وديارهم واموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا”. ونجد أيضا أن العذاب الذي طال الناس الذين كفروا لم يطل مساكنهم وحضارتهم ، فالريح التي أرسلت لقوم عاد : “تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم” ويقول الله ” أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم” ويقول “كم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا”. بل إن هذا هو المشاهد، فلم يتبقّ أحد من الأشوريين والبابلين واليونانيين والرومانيين والنبطيين والفراعنة والسومريين والاكديين والسبأيين والمعينيين ، لم يتبق منهم أحد، في الوقت الذي ما زالت آثارهم وأطلالهم شاهدة على حضارات متعددة كانت حيّة. وكل هذا دليل على أن القيمة المخلوعة على أهل الحضارات لا تنسحب بالضرورة على الحضارة نفسها. بل إني أجزم اننا لا نستطيع أبدا استصدار حكم عام على حضارة بعينها بأنها مسلمة أو كافرة، أو أن هناك ثم “بنية” يمكن ردّ كل تيارات الحضارة وأفكارها إليها، إذ أن هذا النوع من التصور يتضمن لوناً من ألوان الجبريّة، يجعل الدعوة الدينية لا معنى لها.
ثالثا، وهذه نقطة فرعيّة لا تدخل في صلب الموضوع وهي استسهال السكران تكفير امرؤ القيس والحكم عليه بأنه من أهل النار، في الوقت الذي يعيب على ما يسميه “التيار المدني” استسهالهم الحكم على بعض صالحي الأرض بأنهم من اهل الجنّة وإن لم يؤمنوا !
وهو يصدر حكمه هذا اعتمادا على حديث ضعيف كحديث أبو هريرة : “امرؤ القيس صاحب لواء الشعراء إلى النار”. فهذا الحديث نعرفه من طريقين : طريق أبو الجهم الإيادي، وهذا نقل ابن عبد البر أن أحمد قال فيه أنه مجهول ، وقال فيه أبو زرعة “حديثه واه”، وفصّل فيه ابن حبان : ” يروي عن الزهري ما ليس من حديثه لا يجوز الاحتجاج بروايته اذا انفرد”. والطريق الثاني : طريق الصلصال ، وهذا روى عنه ابنه – محمد بن الضوء – الأباطيل كما يقول ابن حبان وابن القيسراني في تذكرة الحفاظ، وعلى كلّ هذا الحديث أبطله ابن حجر في “لسان الميزان” وضعفه أحمد شاكر وذكره الألباني في الضعيفة.
فكيف يبيح ، بعد هذا كله، السكران لنفسه تكفير امرؤ القيس ؟ والله يقول : ” وما كنّا معذبين حتى نبعث رسولا”؟
وقبل أن ننتقل لمناقشة ما ذكره السكران حول آية العمارة والاستخلاف، سنتوقف عند ما سطرّه حول “الافتتان بالقوة المادية لخصوم الرسل” و “دلالة جدلية المدنية/الخيرية”..