“أنا أعذر هذا الكاتب .. لقد كنت مثله من قبل .. كنت أفكر على النحو الذي يفكر هو عليه الآن ..”
سيد قطب يتحدث عن مالك بن نبي
يقول السكران : ’فالسؤال المركزي في مدرسة الفكر الإسلامي كان سؤال : “انتصار الاسلام”‘ (11)، وهنا نجد أنفسنا أيضا امام اختزال آخر. فهو يُظهر لنا وجها واحدا من وجهي الفكر الإسلامي ، ويقوم بردّ الفكر الإسلامي كلّه إليه ، ويعمم إشكالية هذا الوه على مجمل الفكر الإسلامي. وما سنقوم به الآن هو الإجابة على سؤالين:
هل إشكالية الفكر الإسلامي تدور حول “انتصار الإسلام” أم أن “انتصار الإسلام” هو الإجابة التي يسعى لتأكيدها اتجاه واحد من اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر ؟
هل الفكر الإسلامي يتأثر بالتاريخ ؟ بمعنى آخر هل هناك “تحولات” في الفكر الإسلامي ؟
بالنسبة للسؤال الأول فكل الذي سنقوم به ، هو عرض لكتابين اثنين لمفكرين إسلاميين : الأول “واقعنا المعاصر” لمحمد قطب ، والثاني “وجهة العالم الإسلامي” لمالك بن نبي. وسنركز في عرضنا على كيفية نظر هذين المفكرين للتاريخ الإسلامي ، وللحضارة ، وكيفية الخروج من مشكلة “الانحطاط” – بحسب مالك بن نبي ، أو “الانحراف” – بحسب محمد قطب.
بعد أن يتحدث عن عصر الصحابة الذي يسميه “الجيل الفريد” ، يقوم محمد قطب بتناول “الانحراف” الذي ابتدأ منذ العصر الاموي وأخذ يتزايد ، حتى وصل إلى “الجاهيلة” في هذا القرن ، ومن هنا يؤرخ لبزوغ “الصحوة الإسلامية”. بأنها الدعوة الجديدة التي قام بها “الأفندية” الحركيين – بدلا من المشايخ المتجمدين – والتي لا ترفض الحضارة الغربية ، ولا تتنكب لها كليا، بل تاخذ منها الأشياء النافعة كالعلوم والتقنية ، وتنسب تأخر المسلمين إلى “بعدهم عن الإسلام” لا للإسلام، وانتشرت هذه الدعوة بين المهندسين والاطباء وغيرهم من أصحاب المعرفة العلميّة التطبيقية، بهذه الأوصاف يصوّر لنا قطب نشوء “الاخوان المسلمين”. ثم يدخل في الحديث عن مضايقات القوى “الصليبية والصهيونية” للدعوة التي انتهت بمقتل زعيمها حسن البنا، ولكن ما إن يمر عامان حتى يكتسح الإخوان المؤسسات الاجتماعية في مصر، وتنتشر الدعوة في كل مكان ، وبسبب هذا قررت القوى “الصليبية الصهيونية” تجنيد “عبد الناصر” ليقمع هذه الحركة، فاستجاب لهم في “مذبحتي الخمسينات والستينات”.
بعد هذا العرض التاريخي يبدأ محمد قطب بمراجعة الدعوة، ويشير إلى أنها تعجلت في أمور كثيرة، وأنه كان عليها أن تؤسس “القاعدة الإسلامية”. وهم الأعمدة الضرورية لقيام الدعوة، لا أن تتوسع جماهيريا فقط ، بل عليها أن تتأسس في نفوس عصبة يمثلون قاعدة إسلامية متينة. ولهذا عليهم تجاوز العقبات التالية : الجهل بمعنى “لا إله الا اله” ، الجهل بحقيقة المعركة التي على الدعوة خوضها وإعداد العدّة لها. وأخيرا يقرر محمد قطب أن الدعوة بعد المجازر الناصرية اكتست بخاصيتين : الخاصية الاولى: الانتشار الكاسح والمتزايد للدعوة بحيث أضحى “الالتزام” باعثا ذاتيا ، لا يشترط الانضواء تحت جماعة أو حركة؛ والخاصية الثانية تعدد الجماعات واختلافها وتنازعها فيما بينها.
هكذا يرى “منظر الصحوة” الامور، فهو يقسمها إلى ثلاث مراحل: “مرحلة الجاهلية” ، “مرحلة الإخوان المسلمين” – التي انتشرت انتشارا أفقيا منذ تأسيس البنا وحتى مذبحة الستينات؛ “مرحلة بناء (القاعدة الإسلامية)” : وهي المرحلة التي على الصحوة أن تصلها. (1)
ننتقل الآن لمالك بن نبي وكيفية رؤيته للامور. يبدأ الانحطاط بالتشكل عند مالك بن نبي من معركة صفين ، ويكتمل تماما بعد ابن خلدون ، وهي المرحلة التي يسميها “ما بعد الموحدين” ، التي بانهيار هذه الدولة ابتدأ تاريخ الانحطاط، الذي خلق “انسان ما بعد الموحدين” ذو التركيبة القيميّة الفاسدة الغير متحضرة. هذا الانسان هو الذي قابله الأوروبي عندما جاء مستعمرا للعالم الإسلامي ، ومن حيث لم يحتسب ، قدم هذا الاوروبي خدمة جليلة لهذا الانسان بأن فجّر الوضع الاجتماعي الذي يعيش فيه. ونتيجة لهذا الوضع الجديد انطلقت النهضة متمثلةً بتيارين : الاول إصلاحي مرتبط بالضمير الإسلامي ، وقد خط طريقه منذ ابن تيمية وادى إلى تكوين دولة الموحدين في المغرب والدولة الوهابية في الجزيرة ، والآخر “تجديدي” وهو يعبر عن مطامح طبقة تخرجت من المدرسة الغربيّة. انطلق التيّار الاصلاحي بجهود روّاده امثال جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ، التي لم تستطع التخلص من نقائص “انسان ما بعد الموحدين” : من حرفيّة ، وانعدام الفاعلية، والهيام بالكمّ ، والتعلق ببلاغة القول. وبالجملة لم تفلح الحركة الاصلاحية بتغيير هذا الانسان ، بل كل الذي فعلته انها حركت الركود الذي كان يعيش فيه.
بعد هذه الهزّة الحضارية، دخل العالم الإسلامي في حالة فوضى عارمة تتحكم بها عوامل داخلية يحملها معه انسان ما بعد الموحدين ، وعوامل خارجية يحملها معه الاوروبي الذي يتبدى كـ”مستعمر” بمجرد أن يخرج من قارته الاوربية.، أو بمعنى آخر فوضى يتحكم بها “الاستعمار” و “القابلية للاستعمار”. تبدّت هذه الفوضى في السياسات العربية في حرب 48 في فلسطين ، ومن هنا، من هذه “الهزيمة المباركة”، يستشرف مالك بن نبي بوادر نهضة عامة ، نهضة تتجاوز ما يسميه “ذهنية الاستحالة” و “ذهنية الاستسهال” ، نهضة تتجاوز حالة “السياسة العمياء” ، ومن تبديات هذه النهضة الحركة الاصلاحية الجزائرية وجماعة الاخوان المسلمين التي تمثل “أول جهد يستهدف إعادة بناء المجتمع الإسلامي ، مسترشدا بالتخطيط الذي وضعه المهندس الاول : محمد صلى الله عليه وسلم”(2).
نحن الآن أمام رؤيتان أزعم انهما الاتجاهان المشكلان للفكر الاسلامي المعاصر، ومحورهما الرئيسي ، هو المحور الذي يحدد جميع الفكر العربي ، أقصد “النهضة” وكيفية تحقيقها. والفكر الإسلامي بكافة أطيافه يتفق على أن النهضة تنطلق من “الإصلاح”، ولكن آلية الإصلاح تختلف إلى اتجاهين اثنين : اتجاه يرى أن سبب الانحطاط هو التنكّر لـ “لا إله إلا الله” ، هو خلل عقدي ، انحراف عن فهم الإسلام الصحيح ، إسلام جيل الصحابة ، الجيل الفريد ، وإذن ، فالاصلاح يكون بالعودة إلى ذلك الفهم الذي أنتج ذلك الجيل . وهذا تيار وإن كان يجد بذوره في بدايات الدعوة الوهابية وجانب من جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وبعض كتابات حسن البنا، إلى أنه يتشكّل كنظرية مع المودودي وسيد قطب ويمتد كتطبيق في تيارات اسلامية متنوّعة وتشكلت في شخصيات دعوية وجهادية كبيرة كعبد الله عزام ومحمد قطب ومحمد سرور وغيرهم. وانطلاقا من هذه النظرة للإصلاح ، يتم الخلاص إلى أن “الحضارة” ليست شيئا سوى الإسلام ، وأن كل ما عدا الإسلام جاهلية. ومفهوم الجاهلية يتسع ويضيق من تيار لتيار داخل هذا الاتجاه ، فهناك من يصف كل المجتمعات والدول بانها جاهلية ، وبالتالي كافرة ، وهذا ما تمثله التيارات الجهادية التكفيرية كأقصى تطرّف وتوسع في مفهوم الجاهلية. وهناك من يحصر الجاهلية في النظريات والفلسفات الاخلاقية الغربية دون الوسائل التطبيقية، فيرى أن الديمقراطية –مثلا ، التي هي كفر عند الموسعين لنطاق الجاهلية- وسيلة فعّالة في دائرة المباح ، وهذا الذي أفهمه من قراءتي للمودودي في قوله : ” إن البرلمانات لا يُباح لها ان تسن نظاما معينا ، أو تصدر حكما فيما ورد فيه نص واضح وصريح … أما ما لم يرد فيه نصّ شرعي … فلأهل العقد والحل أن يجتهدوا في سن الأنظمة … “(3). ومن هنا ينزع هذا التيّار إلى محاولة أسلمة “الوسائل” بترشيدها لتحقيق مقاصد إسلامية بعد ان كانت تُستخدم لمقاصد “جاهلية”. وتأتي الحاكميّة ، كقيمة مركزية ، وهي – كما تبدو جليّة في “معالم” سيد قطب وكتابات المودودي – معيار الحكم على الدول ، فلا يكفي أن يوجد المسلمون في البلاد حتى تكون هذه البلاد مسلمة ، بل عليها أن تقوم على “حاكمية الله للبشر” حتى تكون إسلامية ، لا أن تكون “حاكمية البشر للبشر” كما هي الحال في البلاد الجاهلية.(4)
الاتجاه الآخر ، هو اتجاه يرى أن الانحطاط “حضاري” ، بمعنى أن المسلمين لم يفقدوا إيمانهم، بل إن هناك أسبابا وظروفا حضارية نقلتهم من الحضارة إلى الانحطاط ، وبالتالي لا بد أن تتمثل عملية الاصلاح ، بالخروج بالمسلم من تكوينه الفكري والقيمي والاجتماعي الذي استولى عليه في عصر الانحطاط إلى تكوين فكري وقيمي واجتماعي يستلهم التجربة النبوية القديمة، ويتوافق مع شروط الحاضر. هذا الاتجاه يتوسل بالعلوم الانسانية الغربية من علم اجتماع ونفس وانثروبولوجيا ، لدراسة أسباب الانحطاط ، وتفسيرها واستجلاء سبل الخلاص منها .. وبالتالي هو يعتبر “الحضارة” مشترك إنساني ، قد توجد بلا إسلام ، وقد يوجد إسلام بلا حضارة. وهذا التيار يظهر بشدّة عند محمد عبده ومالك بن نبي ، وإن كان اختفى في عصر القوميات إلا أنه يعاود الظهور بشكل كبير في كتابات عبد الوهاب المسيري وإدارته لسلسلة “إشكالية التحيز”، التي صدرت في سبعة كتب باحثة في إشكالية الانحياز إلى الغرب في التعليم والنظرة للتراث والتاريخ والعلوم الطبيعية والطب وغيرها.
كل الذي قمنا به الآن هو أننا وضحنا أن الفكر الإسلامي المعاصر أوسع من عمليّة الاختزال التي يتفق عليها كل من علمانيي السلطة ، وتيار “الحل الإسلامي”. والآن لنجيب على السؤال الآخر المتعلق بتحولات الفكر الإسلامي ، وسنجيب عليه من خلال مقاربتين اثنتين : سيرة سيد قطب الفكرية ، وملامح عامة للتحولات الاسلامية.
فسيد قطب ، الذي هو مثال يحتذى في الإخلاص للقضية والموت دونها، باعتباره رائدا فكريّا من رواد الفكر العربي الحديث، والمشكل الأكبر لتيارات عريضة من الفكر الإسلامي، سيّد نفسه كان قد مرّ بثلاث مراحل فكريّة: المرحلة الأدبية، ومرحلتين إسلاميتين. ففي مرحلته الادبية كان ينتمي لمدرسة العقاد ،ونتج عنه في هذه المرحلة روايته “أشواك” و كتابه النقدي “أصول النقد الادبي” و “التصوير الفني في القرآن ” و”مشاهد القيامة في القرآن” الذَين استغرب أتباع الدعوة الإسلامية عدم تصديرهما بالبسملة. بعد هذه المرحلة التي كانت أدبيّة على الغالب، أدى التفات قطب للمظالم الاجتماعية في بلاده إلى إصدار كتابه ” العدالة الاجتماعية في الإسلام” الذي يعتبر مرحلّة تحول إلى الفكر الاسلامي بعد ان عمل لدى حكومة ما بعد الثورة مدة ثلاثة أشهر، تلى كتابه الأخير كتاب معنون بـ “معركة الاسلام والراسمالية” وآخر بعنوان “السلام العالمي والإسلام” وكذلك ، الأجزاء الاولى من “في ظلال القرآن”، بعدها توّجه لتسجيل عضويته في حركة الاخوان. بقي أخيرا أن نشير إلى المرحلة النهائية التي تمثلت في “معالم في الطريق” والاجزاء الاخيرة من الظلال والطبعة الثانية من الاجزاء الاولى، بانها فترة نتجت بعد تحوّل الثورة المصرية إلى النهج الاشتراكي ، والقمع الذي مارسته على الاخوان المسلمين ، وكذلك بعد اطلاع سيد قطب على كتابات المودودي وتجربة باكستان . هذه التحولات الفكرية من “توجه إسلامي” إلى “توجه اسلامي آخر” في شخصية واحدة ، تحمل في طيّاتها دليلا صارخا على تفاعل هذا الفكر مع التاريخ والواقع ، تفاعلا يتبادل معه التأثير والتشكّل.
وعموما ، أدى الاستبداد السياسي في مصر وسوريا والعراق ، والتفجّر السكاني، وفشل الأيديولوجيات القومية واليسارية ، إلى انتشار الحركة وانتقال روادها إلى أرجاء أخرى من البلدان العربية ، كدول الخليج. ونتيجة مخالطتها للطبيعة الفكرية والاجتماعية لهذه البلدان تشكلت تيارات فكرية جديدة ، تفترق مع النهج الاخواني العام. وهذا على صعيد الحركة ، أما على صعيد الفكر فمنذ البداية كان هناك مفكرين اسلامين في مصر وغيرها لم ينخرطوا في الحركات الاسلامية كشكري والطنطاوي والعقاد في اسلامياته وغيرهم .
لذلك فالحديث عن تحول في “الفكر العلماني” وحده ، حديث ناقص ، وتناول “الفكر الاسلامي” على اعتبار أنه تيار متجانس متماثل في الرؤية ، هو أيضا تناول زائف. وأخيراً نستطيع ان نعود إلى هذا السؤال الأخير – الذي ننتهي بعده من الحديث عن الفكر العربي : كيف ننظر إليه؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) واقعنا المعاصر ، محمد قطب، الطبعة الثالثة ، مؤسسة المدينة للصحافة والطباعة والنشر.
(2) وجهة العالم الإسلامي ، مالك بن نبي ، دار الفكر ، ص : 161.
(3) نقلها عبد المنعم الهاشمي عن كتاب “الاسلام والمدنية الحديثة” للمودودي ، في كتابه “ابو الاعلى المودودي” – دار ابن كثير : ص 66.
(4) معالم في الطريق ، سيد قطب ، دار الشروق ، الطبعة الثامنة : ص 47.