في كتاب مملكة أميركا الذي يتناول نظام الفصل العنصري الذي أقامته آرامكو في الظهران، يذكر كاتبه روبرت فيتاليس حادثة حضرها في شهر فبراير من عام ٢٠٠٤م في اجتماع عن مستقبل العلاقات السعودية-الأميركية. قام أحد المشاركين، وكان مسؤولا سعوديا، وقال: ”في بعض الأحيان، أشعر أننا نحن السعوديين نزلنا من السماء واستقرينا على الأرض كما لو أننا مخلوقات فضائية، وذلك لأنه لا توجد نظرية أو نموذج يناسب ظروفنا الخاصة، بل إننا نقوم بنقضها على الدوام“.
يوضّح فيتاليس بأن ما يريد التأكيد عليه هذا الشخص هو أن هناك نوع من ”الخصوصية السعودية“، أي أن تاريخ السعوديّة يمثّل استثناء تاريخيا لم تجر عليه القوانين والسنن التي جرت على غيره من البلدان. يمكن تسمية هذه النظرة التي تمنح شعبا من الشعوب أو أمة من الأمم نوعا من الخصوصية التاريخية بمذهب “ادعاء الخصوصية“.
يحذرنا أستاذ التاريخ دانيل رودجرز عند حديثه عن “الخصوصيّة الأميركية” من الخلط بين ما نقصده بـ”الخصوصية” وبين ”التفرّد“. فادعاء أن تاريخ أمة من الأمم استثنائي، أو يحمل “خصوصية“ ما، لا يعني فقط ادعاء بأن هذا التاريخ مختلف عن غيره. فدعوى الخصوصية والإستثناء هنا تعني أن هذا التاريخ لا ينطبق عليه ما ينطبق على جميع الأمم غيره، وليست تعني أن كل أمة من الأمم لها تاريخها المختلف والخاص. بلغة أخرى، ما نعنيه بالخصوصية، ليس فقط الإختلاف عن الغير، بل أيضا ادعاء أن كل الأغيار متماثلين، أو أن سنة تاريخية ما حكمت تطور الأحداث في كل العالم إلا هذه الأمة أو هذه الدولة حيث حكمتها قوانين خاصة. الإيمان بخصوص أمة، يستلزم الإيمان بوجود قانون حكم غيرها من الأمم، لكنه- لسبب ما- استثناها. الإيمان بالخصوصية يمكن أن نجد جذوره في عقيدة “شعب الله المختار”.
حاول فيتاليس في كتابه تفكيك دعوى الخصوصية هذه في الكتابات الأميركية عن تاريخ السعودية وتاريخ آرامكو، إلا أن هذه الدعوى توجد بشكل آخر في السياق العربي. ذلك أن مهمّة تأريخ السعودية انطلاقا من مذهب ادعاء الخصوصية لم تكن مقصورة على أولئك الذين يريدون مدح المملكة والثناء عليها، بل إننا نجد أنه حتى أولئك الذين يتبنون موقفا نقديّا أو هجائيا، ينطلقون من تصورات استثنائية لتاريخ المملكة. وأحد أهمّ هذه التصورات هو ذلك الذي يعتبر توحد مناطق المملكة في دولة واحدة هي السعودية أمرا غريبا، وأن هذه الدولة استمرار حصري للدعوة الوهابية التي تشكلت في ظروف معزولة داخل الجزيرة العربية، معزولة جغرافيا (بسبب الصحراء المتخيلة، والتي عادة ما يتم تضخيم آثارها على قاطنيها بحيث يتم النظر إليهم كما لو أنهم يحملون صفات جوهرانية لا يمكنهم التحرر منها)، وفكريا (باعتبارها ليست متصلة ببقية التراث الإسلامي التقليدي)، واجتماعيا (باعتبار مسرحها مجموعات بدوية بعيدة عن الحواضر العربية والإسلامية الكبرى).أي أن هذا التصوّر يصرّ على تقديم تاريخ السعوديّة كما لو أنه كان معزولا عن ما حوله، تاريخ استثنائي، له منطق خاص منعزل يبدأ من الدعوة الوهابية وينتهي إلى اليوم.
نجد مثل هذه السرديّة في كتاب المفكّر ووزير المالية اللبناني السابق جورج قرم، وعنوانه أوروبا والمشرق العربي: من البلقنة إلى اللبننة حيث يتناول في فصل منه تأسيس المملكة تحت العنوان التالي: ”نشوء الدولة الوهابية: انتصار الصحراء على المدينة“. في هذا الفصل نجد جورج قرم- بشكل فجّ- يقول التالي: ”إن ظروفا استثنائية وأحداثا تاريخية خارقة للمألوف هي التي أتاحت للوهابية، كما للحركة الصهيونية، أن تشيد دولة لا تقل التباسا عن دولة اسرائيل في أسس هويتها ووجودها السياسي“.
ورغم أن قرم أخذ على عاتقه في هذا الفصل نقد ما سماه بـ”التاريخ الخيالي للوهابية“، وطرح تاريخا بديلا أقل خيالية، إلا أنه لم يستطع الفرار من فخّ ادعاء الخصوصية الذي يقع فيه غالب من يتناول تاريخ السعودية. ففي فصله هذا، وضمن نقده للسرديات الغربية، رفض جورج قرم ما قام به بعض المؤلفين الغربيين من إدراج للوهابية ضمن حركة النهضة العربية، وكذلك رفض الصورة التي تعتبر الوهابية محض استئناف للسيرة النبوية دون أي اعتبار لعامل مرور الزمن.
إذا كان هذا ما يرفضه قرم في محاولات التأريخ الغربي للسعودية- دامغا إياه بالتاريخ الخيالي- فما هو ”التاريخ الواقعي“- حسب تصوّره- للسعودية؟ يجيبنا قرم بهذا الجواب الغارق في بحر ادعاء الخصوصية: ”إن الوهابية قطيعة مع الإسلام الكلاسيكي ومدارسه الكلامية-الفقهية المتطورة التي كانت تمثلت كل التراث الإغريقي والفارسي والبيزنطي؛ قطيعة أيضا مع الأعراف والأخلاق الحضرية والتراتبات الإجتماعية المعقدة التي كرستها في كل مكان من المشرق العربي تقاليد متنوعة ومتضاربة تعود في أصولها إلى الحضارات الكبرى لمنطقة وادي الرافدين… إن الوهابية السعودية، التي أرست بنيانها في النظام السياسي للقرن العشرين، هي بمثابة تنكر مطلق للإسلام الكلاسيكي، وهذا بحكم عزلتها الجغرافية بالذات…“.
إن ما يفعله قرم- الذي يقدم نفسه ناقدا للغرب وطرق تأريخه للمنطقة العربية- لا يقلّ استشراقية و”خيالية” عن النظرة الغربية التي ينتقدها، ذلك أن تاريخ السعودية- بالنسبة له- يمكن فهمه باعتباره تطور تم بشكل منعزل من الدعوة الوهابية التي نشأت بشكل منعزل في الصحراء من قبل أقوام منعزلين عن المدنية والحضارة. إن هذه العزلة الثلاثية (الدينية-التاريخية-الجغرافية) هي الجذر الرئيسي لكل تصوّر استثنائي لتاريخ المملكة، تصوّر يجعل هذا التاريخ ذا خصوصية ما.
إن التناقض- كما يقول رودجررز- الذي يقع ”في قلب ادعاء الخصوصية في كتابة التاريخ لم يكن أبداً تناقضاً بين الاختلاف والتشابه بل بين الاتصال والانفصال“. ولتوضيح مقصده، لننظر إلى كل الكتب التي أرخت للسعودية انطلاقا من مذهب ادعاء الخصوصية هذا، فإننا سنجد أن هناك أمرا مهما يجمعها وهو هذا القرار الرئيسي الذي يتخذه المؤرخ بأنه عندما يكتب هذا التاريخ فإنه سيكتب تاريخ أناس محددين- تاريخيا، مذهبيا، جغرافيا- ومنفصلين عن غيرهم، بحيث لا يكون لهؤلاء القابعين خارج هذه الحدود أي أهمية في الدراما الرئيسية للقصة التي يرويها المؤرخ. ينحل تاريخ السعودية، ليصبح تاريخ منطقة نجد، بعد أن تم تقطيع كل الروابط التي تجمعها بما يحيط بها من العالم تحت ذريعة وجود الصحراء.
إن هذه الرؤية الاستثنائية- التي يقوم ببثها المدافعين عن المملكة والمهاجمين لها، وتساعدها حالة اقتصادية معيّنة- ساهمت وتساهم في توليد مخيلة سعودية منعزلة عن تاريخ وواقع المنطقة، وهو أمر، علاوة على كونه غير صحيح من الناحية التاريخية، إلا أنه يسهّل فكّ الإرتباط بين السعوديين والقضايا العربيّة المصيرية والنظر لهم ولأنفسهم باعتبارهم جزءا من السردية التاريخية العربية.
لهذا السبب، يصبح من المهم تجاوز هذه النظرة التاريخية، وإعادة النظر لتاريخ المملكة باعتبارها ليست استثناء عن غيرها من البلدان العربية، وأن الدين والتاريخ والجغرافيا ليس لها تلك القوة السحرية التي تمنع الأفكار والأشخاص والحركات من الإنتقال والعبور فيها مثلما عبرت وتنقلت إلى غيرها من البلدان، إن كتابة تاريخ عروبي للسعودية- أو غيرها من البلدان العربية- يعني، أول ما يعني، عدم التعامل مع الحدود القطرية باعتبارها حدودا حضارية وثقافية، بل التعامل معها كمجرد عامل من بين عدة عوامل أخرى (كالشبكات التجارية والسياسية والدينية والاجتماعية والثقافية المتداخلة والعابرة للحدود).
نشرت في ٢ يونيو ٢٠١٦.