هذا ليس عنوانا ساخرا. فما كشفه الربيع العربي هو أن من كنا ندعوهم بـ(العلمانيين) في العالم العربي لم يتمخضوا إلا عن كونهم محض طائفة مثلهم في ذلك مثل بقية الحركات الطائفية الأخرى من سنية وشيعية ودرزية وغيرها والمتناحرة فيما بينها والمتصارعة فيما بينها. ولعل القارئ يحتار في فهم كيف نستطيع تبرير وصف العلمانيين- الذين يطالبون بفصل الدين عن الدولة- بأنهم طائفة تشابه الطوائف (الدينية) الأخرى؟ هذا ما سأحاول إثباته في هذه المقالة.
لنبدأ أولا بمفهوم العلمانية. هذا المفهوم يعني حركة سياسية تسعى من أجل فصل الكنيسة عن الدولة. أي أنه مشروع سياسي نشأ في سياق كانت فيه للكنيسة سلطة وهيمنة سياسية، أي أنه سياق أوروبي خاص. يمكن أن أحد أسباب هذه الرغبة في الفصل هو منع احتكار كنيسة- تمثل مذهبا واحدا- للدولة، بل محاولة تحييد الدولة دينيا بحيث تستوعب غالب المواطنين بغض النظر عن الكنائس التي ينتمون لها. الآن، لو أردنا تجريد العلمانية عن سياق التجربة الأوروبية ومنحها تعريفا عاما لقلنا أنها حركة سياسية تسعى لفصل الدولة عن أي مؤسسة تسعى لاحتكارها، وذلك من أجل جعل الدولة متاحة لكافة المواطنين.
لننتقل الآن لمفهوم الطائفية. عادة ما يتم طرح هذا المفهوم كمرادف للكراهية المذهبية، هذا ليس صحيحا. الطائفية ليست ”ظاهرة دينية“، بل ”ظاهرة سياسية“. هي تحويل لأتباع مذهب ما إلى جماعة سياسية، هي تحويل للإنتماء الديني المذهبي إلى هوية سياسية. مذهبيا، يمكن أن نعرف ”السني“ بأنه المسلم الذي يستمد عباداته وعقائده ومعاملاته من المدونة العقدية والفقهية التي سطرها علماء المذهب السني ويكون التفاضل بينه وبين غيره في القرب والبعد من التمسك بهذه الممارسات والعبادات والعقائد. إلا أنه طائفيا، لا يهم مدى ”تدين السني“ أو ”مدى إلتزامه بالمذهب“، فبمجرد كونه يتحدر من أسرة سنية هذا كافي ليصبح عضوا في جماعة ”سنية“، بل حتى لو كان علمانيا، أو ملحدا، فإنه- في بلد طائفي مثل لبنان- سيترشح ويصوت ويمارس السياسة بوصفه ”سني“. في الحالة الطائفية يكف الوصف المذهبي أن يكون إشارة إلى مستوى التدين، بقدر ما يتحول إلى نوع من الإنتماء إلى جماعة من الأفراد يتشاركون هذا الوصف بغض النظر عن تدينهم وأخلاقهم وأعمالهم.
بعد توضيح هذين المفهومين، لنرجع الآن للوراء قرنا من الزمان أو أكثر بقليل. ففي تلك الفترة شهدت المنطقة حدثا ضخما تمثل بانهيار الامبراطورية العثمانية وتشكل الدولة العربية الحديثة. في السياق العربي- وبشكل مغاير للسياق الأوروبي- لم تنشأ الدولة تحت هيمنة ورعاية مؤسسة دينية ما كالكنيسة، بل على العكس من ذلك هي نشأت على أنقاض- وفي نفس الوقت ساهمت بالقضاء- على المؤسسات الدينية المشكلة لكيان ما كان يعرف بالمذهب السُني.
فالمذاهب الأربعة لم تكن قبل العصر الحديث مجرد آراء مكتوبة، بل كانت مؤسسات تقوم بأدوار شبه سياسية واجتماعية مهمة من إمامة، وقضاء، وتعليم، وفتيا وإدارة للأوقاف وغيرها. ومع انهيار الامبراطورية العثمانية كانت هذه المؤسسات في طريقها للإنهيار الذي ساهم فيه بشكل مباشر- إلى جانب عناصر أخرى- نشوء الدولة العربية الحديثة نفسه، حيث أنها قامت بالاستحواذ على أدوار التعليم والقضاء وادارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والإفتاء. هذه المجالات تحولت إلى وزارات في الدولة العربية الحديثة. وهذا الأمر لا يتوقف على المؤسسات الدينية السنية وحدها، ولكنه أكثر ظهورا وبروزا فيها.
إلى جانب قيام الدولة العربية بامتصاص دور المؤسسات الدينية التقليدية وتنظيمه على شكل وزارات حكومية، قامت- منذ مطلع القرن الماضي- حركات إسلامية سياسية تتشابه من حيث تركيبتها وتكوينها الأحزاب الشمولية المنتشرة في أوروبا والعالم العربي آنذاك كالأحزاب الشيوعية والنازية والفاشية وغيرها، أي أن الحركات الإسلامية ظاهرة ”حداثية“. وهي مثلها مثل غيرها من هذه الحركات تطمح في الوصول لسلطة الدولة والهيمنة عليها.
ضمن هذا السياق، سيصبح العلمانيون العرب هم جماعات وحركات سياسية – غير إسلامية- تحالفت مع الدولة في وقت سابق أو لاحق سواء عبر تدجين الدولة لهم أو عبر استيلائهم للدولة. وعبر عقود من السنوات تحولوا من منتمين لحركات سياسية غير إسلامية إلى ”طائفة“، أي إلى أشخاص بدل أن ينتموا إلى أيديولوجيا ما، أصبحوا ينتمون إلى جماعة واحدة ذات مصالح وعلاقات مشتركة في غالب الأحيان تتعدى شبكاتها الدولة القطرية الواحدة وتتعداها لتشمل العالم العربي كله وذلك ضمن مؤسسات إعلامية ومحافل ثقافية وأنشطة شبه سياسية متنوعة.
هذه الطائفة مثلها مثل كل حركة طائفية تسعى لاحتكار الدولة لها، ومثلها مثل أي طائفة أقلوية هي معادية للديمقراطية بطبيعتها، لأنها موقنة بخسارتها. إلا أن أخطر صفاتها الطائفية الذي بدى جليا في السنوات الأخيرة هو استعدادها للتحالف مع أي استبداد أو ثورة مضادة ضد أي حراك ديمقراطي من أجل استعادة- أو الحفاظ على- مكانتها الاجتماعية ولو على حساب خيار الأكثرية والحريات والحقوق الفردية، بل حتى على حساب دماء المواطنين الآخرين. فهي باعتبارها ”طائفة“، لا ترى أي اشتراك في الهوية مع غيرها من المواطنين، وبالتالي لا ترى أي قيمة للتعاطف معهم.
ولو استعدنا تعريف العلمانية الذي ذكرناها سابقا، لوجدنا أن العلمانية في السياق العربي لن تعني فصل المؤسسات الدينية عن الدولة- إذ أن هذه لا تتمتع بوجود مستقل عن الدولة بل جزء منها- بقدر ما ستعني فصل ”طائفة العلمانيين“ عن الدولة.