عندما نقول “دولة
حديثة” فنحن لا نقصد “دولة متطورة” أو “دولة متقدمة” أو “دولة
صناعية”.. هذه المصطلحات مختلفة.
فالدولة المتقدمة تعتبر دولة حديثة، وكذلك الدولة
المتخلفة تعتبر دولة حديثة. الدولة المتقدمة (أمريكا مثلا) يقابلها
الدولة المتخلفة (بنجلادش مثلا) أو الدولة النامية (الهند
مثلا)، وكلا هذه الأنواع من الدول هي دول حديثة. فالذي يقابل الدولة
الحديثة، ليس الدولة المتخلفة، بل الدولة القديمة أو الدولة
التقليدية.
نحن هنا
لا نتلاعب بالكلمات، فهذا التفريق مهم جدا لنعرف بالضبط “ماذا يعني أن
نعيش في دولة حديثة؟”، وحتى نعرف هذا علينا أن نعود للوراء قليلا
لنعرف كيف كان الناس يعيشون في الدولة التقليدية أو
القديمة.
فمنذ فجر
التاريخ والبشر يعيشون معا، وكونهم يعيشون معا يعني أنهم يشكلون وحدات
سياسية، هذه الوحدات السياسية هي دول. هذه الدول ليست نوعا واحدا، بل
أنواع متعددة تختلف فيما بينها من عدة جوانب. فهناك على سبيل المثال
“الدولة-المدينة”، وهذا نموذج من الدول حدوده مدينة واحدة… وأوضح
مثال عليه هو مدينة مكة قبل الإسلام. فهذه المدينة كانت تمثل وحدة
سياسية واحدة ولم يكن لها ملكا ولا حاكما وكانت أمورها تدار عبر مجالس
كدار الندوة. وكذلك هناك نموذج “الدولة-الامبراطورية” وهي الدولة التي
تعتبر الارض كلها ميدانا لها، ومثالها الدولة الأموية التي كانت
امبراطورية مترامية الأطراف يأمر الخليفة في دمشق أمرا فيستجاب له في
الأندلس. هذه نماذج، هناك نماذج أخرى، فمثلا القبيلة قبل تأسيس
المملكة العربية السعودية كانت تشكل كيانا سياسيا له نوع من السيادة
على رقعة من الأرض، لا يسمح بأفراد القبائل الأخرى بالرعي فيه أو نقل
البضائع خلاله إلا عبر إذن أو دفع رسوم لتلك القبيلة.
نستطيع
تعداد العديد من النماذج السياسية التي استطاع بنو البشر ابتكارها منذ
فجر التاريخ… وكانت كل مجموعة تنشئ الكيان السياسي الذي يحقق لها
الديمومة والبقاء والعيش الكريم. فمثلا في مكة، وعلى الرغم من غياب
حكومة مركزية أو ملك أو رئيس، إلا أن حرية التجارة فيها محمية ليس
للرجال فقط بل حتى للنساء، إذ كلنا يعلم أن خديجة زوجة الرسول تعرفت
عليه لأنه عمل لديها في تجارتها، وكذلك حرية التعبد- إذ أن حول الكعبة
كان هناك صنم لكل قبيلة من القبائل، وكذلك حفظ حقوق الضعفاء والمساكين
كما عبر عنه “حلف الفضول”. فالناس لا يؤسسون دولا وكيانات سياسية لا
تتوافق مع أنماط حياتهم وحاجاتهم ورغبتهم في العيش بكرامة.
هذه الأنواع من الدول تندرج
كلها تحت التصنيف الذي وضعته سابقا “دول تقليدية وقديمة”. وفي هذه
الدول – سواء كانت دولة مدينة أو امبراطورية أو قبيلة أو غيرها- كان
الفرد يعيش ضمن مجموعته العضوية، بين أهله وقراباته وعشيرته. فمثلا
أهل بغداد لم تتأثر طبيعة حياتهم بطبيعة السلالة الحاكمة التي تحكمهم
سواء كانت عباسية، أو بويهية أو سلجوقية أو غيرها.. فنمط الحياة العام
كان ثابتا، ويزداد ثباتا كلما كانت القرية أو البلدة بعيدة عن عاصمة
الحكم. فحركات التنقل والهجرة إن كانت فهي تكون بشكل جماعي، كانتقال
قبيلة بني هلال من نجد إلى المغرب، والانتقال الفردي يكون نادرا
ومرتبطا بشكل خاص بتنقلات الجنود والعلماء والتجار. كان طبيعيا في تلك
الأيام أن يولد المرء ويموت وهو لا يعرف من العالم هذا سوى حدود قريته
الصغيرة. كما أن أكله وشربه ولبسه ومعاشه، بل حتى دفاعه عن نفسه من
اللصوص وغارات الأعداء، كان يقوم بها بنفسه دون الحاجة لأن يلجأ
للدولة. كان أمرا طبيعيا جدا أن يعيش المرء في تلك الأيام وهو لا يعرف
اسم الخليفة، أو هل مات الخليفة أم لم يمت، فما يحدث في دار الخلافة
هناك أمر لم يكن يؤثر على حياته بشكل مباشر: لا يقيد حريته، ولا يمنعه
من الكلام، ولا يمنعه من الكسب والعيش والتجارة والبيع والعلم والتعلم
والانتقال والسفر..إلخ. كانت القيود التي يعاني منها الفرد في تلك
الايام قيود اجتماعية في الأغلب، وكانت معايير السلوك تحدد
بواسطة الدين والأعراف والقيم والعادات والتقاليد… فكان الفرد
الذي لا يريد التقيد بقيود جماعته، كل ما عليه فعله أن يمضي ويتركها،
وهذا ما فعله عروة بن الورد وتأبط شرا عندما هجروا قبائلهم مشكلين ما
عرف في التاريخ الجاهلي بظاهرة “الصعاليك”. كان الخصمين إذا تخاصما
يختاران أي شخص يرضونه حكما ليتحاكموا إليه دون أن يكون خريج قانون أو
قد عينته الدولة للقضاء بين الناس، فعندما اختلف أهل مكة في من يضع
الحجر الأسود بعد أن هدم السيل الكعبة، قرروا الاحتكام لأي شخص يدخل
من هذا الباب والذي كان – بالصدفة المحضة- هو الرسول نفسه.
هكذا كان الأمر حتى بدأت
الدولة الحديثة بالتشكل. وهذه الدولة بدأت التشكل أولا في أوروبا
الغربية. لن نخوض في المسار التاريخي الذي تشكلت فيه هذه الدولة، على
الرغم من أهميته في توضيح لماذا هي على الشكل الذي عليه، لكن ما يهم
هنا هو أنه بعد هذه المسيرة الطويلة تشكلت هذه الدولة الحديثة متميزة
بميزتين رئيستين: السيادة المطلقة، والإقليمية. فدولة مثل ليبيا لها
سيادة مطلقة على حدودها الإقليمية، دون أن يكون لها أي سيادة على مصر
مثلا أو على تونس… فالحدود السياسية تعني أن عند هذا الخط تنتهي
حدود سيادة دولة وتبدأ سيادة دولة أخرى، ليس كما كان الأمر سابقا حيث
كانت الامبراطوريات تدعي أنها سيدة على الارض كلها، ومن هنا تبرر
توسعها وتمددها لاحتلال أراضي جديدة ترى أنها من حقها إذ لا حدود
لسيادتها. أما السيادة المطلقة فهذا يعني أن ضمن حدودها الاقليمية لا
يوجد من يمارس أي نوع من السيادة سوى الدولة نفسها، على عكس
الامبراطوريات التي على الرغم من أنها لا قبل أي حدود إقليمية، إلا
أنها لا تتمتع بسيادة مطلقة على اراضيها، فشيخ قبيلة تقع ضمن حدود
الامبراطورية له سيادة على قومه أكثر من سيادة الامبراطور أو القيصر
أو الخليفة… فمعاوية لم يستطع أن يتخذ أي إجراء ضد الأحنف بن قيس
لأنه “إذا غضب، غضب لأجله مائة ألف فارس لا يسألونه فيم غضب”. لكن
السيادة في الدولة الحديثة كلها للدولة، ولا يسمح لأي وحدة أو كيان
داخل الدولة بأن يكون له أي سلطة أو سيادة داخل سيادتها.
ينتج عن هاتين الخاصيتين
للدولة الحديثة أن تعتمد في بقائها على ما في حدودها من قوى بشرية
وثروات طبيعية وما إلى ذلك، ومن هنا تبدأ بمحاولة تنظيمها وإدارتها من
أجل تحقيق أكبر قدر ممكن من النمو والتطور الذي يكفل لها الديمومة
والبقاء والقوة.. وهي حتى تقوم بعملية التنظيم والإدارة هذه تقوم
بتشكيل مؤسسات ادارية بيروقراطية كالوزارات، تتناول مختلف مجالات
الحياة: وزارة تنظم الاقتصاد، وأخرى للمواصلات، وثالثة
للثقافة….إلخ. فالدولة الحديثة تنزع ذاتيا إلى تنظيم كل ما يقع ضمن
سيادتها بما في ذلك الأفراد، وتنزع ذاتيا لممارسة أكبر قدر ممكن من
التسلط والسيطرة من أجل تسهيل عملية الادارة والتنظيم حتى يسهل تحقيق
الأهداف التنموية والتطورية والقدرة على منافسة الدولة الأخرى… تصل
هذه المسألة إلى حدها الأقصى عند الدولة الفاشية: الدولة التي تحول
الأفراد إلى أدوات لتحقيق مصالحها العظمى، بحيث يزول الفرد عن
انسانيته وتلغى كافة حقوقه وكرامته ويختصر باعتباره محض أداة في سبيل
تحقيق مصالح الدولة العليا.
وأمام هذه النزعة التسلطية الذاتية في الدولة، فإن
المواطنين الذين فقدوا قوة مجتمعاتهم التقليدية، فقدوا عشائرهم
وقبائلهم نتيجة تحول مصدر الكسب من الزراعة والرعي إلى العمل التجاري
والمصنعي أو العمل في الدولة مدنيا أو عسكريا، حاولوا تعويض هذا
الفقدان بمحاولة تقييد تسلط الدولة إما بدستور ينص صراحة على حقوقهم
المدنية والإنسانية، أو بتشكيل مؤسسات تواجه مؤسسات الدولة هي مؤسسات
المجتمع المدني… ويعتبر النموذج الأقصى لهذا التوجه هو النظام
الديمقراطي، حيث الدولة تخضع كليا للمواطنين: هم ينتخبون برلمانها
وينتخبون رئيسها، وحيث الاعلام (حرية التعبير) والسوق (حرية تملكهم
ومتاجرتهم) والدين (حرية اعتقادهم وقيمهم) والقضاء محرر ومستقل
عن تسلط الدولة واحتكارها، وفيها يصبح المجتمع المدني أقوى من الدولة
وفيها تتقلص الدولة إلى أقصى درجات التقليص.
بعد هذا كله: ماذا يعني أن نعيش في
دولة حديثة؟
إنه
يعني أمران جوهريان:
الأول، أن ميراثنا الإسلامي الضخم كله قد تشكل وتكون في
دول تختلف جذريا عن الدولة الحديثة، وبالتالي يصبح نسخ ولصق فتاوى من
عصور تنتمي لدول تختلف عن الدولة الحديثة أمر مضر شديد الضرر.
فالفتاوى التي تنادي باعتزال الفتنة والسمع والطاعة، كانت تعتبر ذات
قيمة ومعنى في الأزمنة القديمة، حيث كان يستطيع المرء أن يعيش في
قريته أو مدينته بعيدا عن الصراعات السياسية على السلطة والحروب
الاهلية دون أن تتأثر حياته إلا بشكل غير مباشر، ومن هنا كان اعتزاله
للفتنة والابتعاد عنه أمر مفيد له ولغيره. لكن في الدولة الحديثة، حيث
أن كل حياة المرء مرهونة بوضع الدولة: فصحته وحريته وحقوقه وسلوكه
وأمواله كلها مرتبطة ارتباط وثيق بأداء الدولة وقدرتها على التطور
والنمو، وبالتالي تصبح فتاوى الاعتزال في دولة مثل هذه هي تشريع
للسلبية، وخدمة لنزعة الدولة التسلطية على حساب حرمات الناس وحرياتهم
وحقوقهم. ومن هنا لابد من الحذر في التعامل مع النصوص القديمة أو
النصوص التي تنتج من العقليات التي تفكر بنفس الآلية التي نتجت في تلك
الدول، لأنها لا تنتمي للدولة الحديثة وبالتالي لا تلائم شروطها
وحدودها وبناؤها: فهي إما أن تتحول إلى أدوات إرهابية، أو تتحول إلى
كبسولة تخديرية وتسكينية.
الثاني، أن التأكيد على الحقوق والحريات والمطالبة بها
ليس رفاهية أو مطالبة بالتفلت والانحلال، كما يتم اختزال هذا الأمر في
الصراعات الليبرو-سلفية عندنا. إن هذه القضية تتعلق بمسائل مصيرية
تتعلق بمعنى كرامتنا وبشريتنا. فطبيعة الدولة الحديثة التسلطية تستلزم
على المواطنين أن يقوموا بالحد منها ومنعها من اختراق مساحاتهم، وهذا
الامر يكون بتشكيل المؤسسات، بالكلام، بالتعبير، بالتجمع، بالتحاكم
لقضاء مستقل عن تسلط الدولة، وبأجهزة رقابية ومحاسبية تمنح المواطن
القدرة على محاسبة الدولة ومراقبتها في حال تجاوزت في استخدام سلطتها
حقوق الناس وحرياتهم. هذا يعني أن المواطنين يجمعهم سوية قضية مشتركة،
أنهم جميعا شعب يواجه نزعة تسلط الدولة الذاتية، وأن عليهم جميعا
التعاون للحد من هذا التسلط… هذا الأمر يعني القاطن في شرق الوطن
كما يعني القاطن في غربه، فالدولة بسيادتها المطلقة ضمن حدودها
الاقليمية جعلت جميع المواطنين متساوين أمامها: ومتى ما قبل جزء من
المواطنين من الدولة أن تضطهد جزءا آخرا منهم انطلاقا من عداء طائفي
أو عرقي أو ديني، فإن نفس هذه المبررات ستستخدم ضدهم يوما ما، من هنا
تصبح وحدة الشعب ضد الدولة أمرا جوهريا وأساسيا لأن يحمي الجميع حيزهم
الخاص من تسلط الدولة. ومن هنا نستطيع تفهم لماذا جعل الدستور
الأمريكي من حق المواطنين حمل السلاح… فحملهم للسلاح يجعل من الصعب
على الدولة أن تبيح لنفسها مزيدا من التسلط والعنت، تماما كما أن عدم
حمل الليبيين للسلاح جعل بمقدور الدولة أن تقتل شعبها عندما يتمردون
عليها تمردا سلميا.
أن نعيش في دولة حديثة، هذا يعني أن نكون على صراع دائم
معها للحفاظ على حقوقنا وحرياتنا من أن تتم مصادرتها، هذه الحقوق
والحريات التي لم تكن مهددة أبدا في الدول القديمة والتقليدية لأن
الدولة ليست معنية بكافة تفاصيل حياة الفرد فيها والذي كان محصنا منها
داخل قبيلته وعشيرته.
عزيزي سلطان .. استفيد دائما مما تكتبه دائما لأنك تختار البيئة المناسبة للمعان التي تود ايصالها ، فالنقطة الجوهرية الأولى بشأن الميراث الاسلامي رائعة جدا لأن النسق المعرفي يأخذ دوره في الأطروحات ، وبظني أن تجاهل دراسة علم الاجتماع يعزز البون بين فهم التراث ونزعاته ومطالبه ، اجدك فد وفقت في هذه التدوينة الرائعة فلك مني الف شكر وتحية
ابراهيم
الله يخليك يا ابو خليل،
والكلام هنا أيضا ينطبق على الطريقة العكسية التي يحاول فيها بعض زرع مفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطية في الفترات القديمة… والادعاء بأن لها جذور طاغية في القدم.
شكرا لمرورك
كما أن الغفلة عن هذا المفهوم الشمولي لمعنى الدولة الحديثة تسبب في استمرار وحتى “استمراء” البعض لحجة أن شعوب المنطقة غير مستعدة للديمقراطية و أنها غير متوافقة معها من الناحية الفطرية.
الخير و الشر و النزعة الاستبدادية لكل ذي سلطة هي نزعة فطرية عند البشر عربهم و عجمهم و لتنتظم الحياة لابد من سن تشريعات تحكم هذه النزعات و تمنع استبداد جماعة آو تسلط أخرى. الديمقراطية ليست هي الهدف انما وسيلة من آنجح الوسائل التي توصلت لها بعض الشعوب لتنظيم حياتها وهي بالتأكيد ليست انتخابات فقط!
رائع جدًا
أبدعت، يعطيك العافية 🙂
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
اتفق معك في كل ما ذكرت دون أدنى شك ، فكل انسان يحق له الدفاع عن حقوقه ألا تسلب منه ظلما وعنوة ..
ولكني بعد أن انتهيت من قراءتي لموضوعك خفت جدا أن يفهم بشكل خاطئ.
كأن يكون يوما لا سمح الله حجة يحتج بها أعداء الأمن والأمان في وطننا الغالي ليقيموا المظاهرات والثورات التي وإن بدت سلمية هي في الغالب تتحول إلى عدائية ..
فكم وددت أن توضح كيفية الدفاع عن حقوقنا بكتاب الله وسنة رسوله والنداء بها في المحافل والمناسبات أمام شخصيات يرجى منها أن تستمع لما نحاول أن نقول وأن تنصفنا وتعيد لنا ما قد يسلب من حقوقنا ..
بوركت أخي 🙂