“نادرا ما تضيع الحرية
كلها من أي نوع في وقت واحد”
ديفيد هيوم
كل سلطة
في الدنيا لها معارضين، منهم من تعترف بهم السلطة وبحقهم في المعارضة،
ومنهم من يتم قمعهم. فالديمقراطيون في أمريكا بعد خسارتهم لكثير من
مقاعد الكونجرس في الانتخابات الأخيرة أصبحوا هم المعارضة، وفي الدول
العربية يعيش أغلب المعارضين كلاجئين سياسيين في الغرب. وطالما أننا
نعيش اليوم في هذه الأيام الثورية المجيدة، فإني أود أن أطرح تصوري
للفرق بين “المعارض” وبين “الثائر”، لأني رأيت البعض يخلط بين الأمرين
أو يجعلهما مترادفين.
في حالتنا
العربية، المعارض للسلطة ليس بالضرورة مدافعا عن الحق. فإن كان صدام
بعنجهيته أعطى الدبابات الأمريكية مبررا لغزو العراق، فالغزو لم يبارك
إلا من قبل المعارضة العراقية التي دخلت العراق على ظهر هذه الدبابات.
المعارض للسلطة يتكلم بلغة “الحسابات” لا بلغة “الحقوق”، هو يفكر في
تعامله مع السلطة بنفس المنطق الذي تفكر به السلطة في تعاملها معه: هو
يستغل ظرفا ما ليحقق مكاسب، وهي تستغل ظرفا آخر لتزيد من تشويه صورته
أو قمعه أو اعتقاله. المعارض لا يتردد بأن يستغل الجماهير والحشود
لتحقيق مخططاته وأهدافه، تماما مثل السلطة التي لا تتردد في نشر
الأكاذيب لتثبيت شرعيتها. الفرق بين الإثنين أن السلطة تتوفر على
أدوات ووسائل أكبر وأقوى وأكثر شرعية من المعارضة. وكلا الإثنين يدعي
أن ما يقوم بها هو عين السياسة، هو “فن الممكن”، بحيث يصل هذا “الفن”
إلى مستوى تبادل الفضائح الشخصية والسلوكية بين الطرفين، المستوى الذي
لا يعكس إلا حقيقة “شخصانية” هذه الأنظمة. كلا من المعارض ومن في
السلطة يتحدث باسم الشعب، كلاهما يدعي أنه يدافع عن حقوقه ويحميه،
وكلاهما يتهم الآخر بالعمالة.
في الحالات التي تكون المعارضة منفية، يلجأ كلا الطرفين
إلى المؤسسات الدولية والغربية لإقناعها بأنه “أحق” من الآخر… يثبت
من في السلطة مدى اسحقاقه بكم الصفقات والخدمات التي يتبرع بتقديمها
للغرب، ويثبت من في المعارضة مدى استحقاقه عبر ارتدائه للقيم والأفكار
الغربية، والتي عادة لا تكون ملائمه لمقاسه الطائفي أو الاستبدادي،
شيئا فشيئا يصبح المعارض من الخارج أشبه ما يكون “بالحاكم الاحتياط”،
الذي يتم ترويضه وتربيته بعد انخراطه في المؤسسات الدولية والمؤتمرت
والندوات والمقابلات الاعلامية في حال احتاج الغرب إلى تهديد من في
السلطة والضغط عليه باستبداله بذاك المعارض. كلا من في السلطة ومعارض
الخارج ينطلق من مسلمة أن نجاحه مرتبط برضى الغرب عنه وتأييدهم
له.
أما في الحالات
التي تكون فيها المعارضة موجودة في البلد ومعترف بها شبه اعتراف أو
متواجدة رغم عدم الاعتراف بها، فإن جل طموحها أن تحظى باعتراف إن لم
يكن معترف بها، أو أن تحظى بمساحة للمشاركة في اتخاذ القرار إن كان
معترف بها، و”المشاركة في اتخاذ القرار” في أنظمة مثل الأنظمة العربية
يعني “المشاركة في تقاسم كعكة الدولة”. قد تبدأ المعارضة حقوقية في
البداية، لكنها مع تطاول أمدها تتلوث بالسلطة وتصبح رغم اختلافها معها
شريكة معها على بقاء الوضع القائم كما هو، والتصارع على اختلافات
بسيطة. طموحها الأكبر أن يقبل بها العالم، لا أن تغير هذا
العالم.
هذا لا يعني
أنه لا توجد منظمات حقوقية وشخصيات نزيهة صادقة، لكن الحديث هنا عن
“المعارضة السياسية” التي تحترف هذا الأمر وتعمل عليه: فمعارضتها لا
تعني بالضرورة دفاعها عن الحق.
أشعل البوعزيزي النار في جسده معلنا رفضه لهذا العالم
واستقالته منه، فأعلن بموته مولد الثورة. وعند هذه اللحظة ظهر على
مسرح الأحداث: الثائر العربي. وهذا الثائر شخصيته تختلف جذريا عن
شخصية المعارض. يبدأ الثائر من رفض هذا العالم، لا بالسعي للإنضمام
إليه… هو يريد إحراق هذا العالم الذي دفع بوعزيزي لإحراق
نفسه. ومن نقطة الاختلاف الجوهرية هذه، تنشأ كل الاختلافات بين طبيعة
تفكير الثائر والمعارض، بين من يرفض العالم ويسعى لتغييره، وبين من
منتهى طموحه أن يقبل فيه ويساهم فيه.
الثائر لا يثور بسبب الفقر، الفقير
يعالج فقره بالبحث عن عمل إن كان كريما أو باستجداء الناس إن كان
ذليلا، لا يحل الفقير أبدا مشكلة فقره بأن يقوم بعمل سياسي. يشارك
الفقراء بالثورة بعد أن تندلع، لكنهم أبدا لا يكونون سبب اندلاعها.
بدأت الثورة في تونس بسبب “صفع” ممثل الدولة للبوعزيزي، ولم تبدأ لأن
البوعزيزي فقير أو عاطل، فهو قد حل هذه المشكلة بأن اشتغل بائعا
متجولا، لكنه لم يقرر الخروج عن عالمنا إلا بعدما انتهكت حقوقه
الانسانية، أي كرامته الانسانية. في مصر بدأت الثورة من مجموعة “كلنا
خالد سعيد” و”خالد سعيد” ليس فقيرا، ليس عاطلا، بل شخص مات نتيجة
تعذيب الشرطة له، أي ضحية لانتهاك الدولة لحقوقه البشرية البسيطة
ولكرامته التي ولد متمتعا بها. وفي ليبيا بدأت شرارة الثورة عندما خرج
الناس للتظاهر بعد اعتقال محامي بعض المساجين السياسيين. وقبل ذلك
بدأت الثورة الفرنسية عندما اعتصم ممثلو الشعب مطالبين بدستور جديد في
حديقة الملك. فالثورة ابتداء يحركها الاضطهاد وانتهاك الحريات
والحقوق، لا الفقر، والفقراء غالبا وأولئك الذين ينضمون للثورة وحركات
التغيير لتحقيق بعض الاغراض الاقتصادية هم أول من يخذل الثورة وأكثر
من يفسدها، لأنهم من البداية لم ينظروا لأنفسهم كبشر، بل فقط كمجموعة
“حاجات”.
لا يستطيع
الثائر أن يفهم معنى أن يعقد صفقة مع النظام، لا يفهم لماذا عليه أن
يقوم بتسوية معه بله الحوار معه. فالحوار والتسويات والصفقات والحلول
الوسط تحدث بين شركاء في بناء الوطن، تحدث بين من يختلفون على ما هو
أفضل للمستقبل، لا بين الأعداء، بين ظالم ومظلوم، مستبد ومقهور… هنا
تصبح هذه المساحة الدنيوية التي تجري فوقها التسويات والحلول الوسط
والحوارات، تساوي الصفر، غير موجودة.
هذا هو الفرق بين المعارض والثائر،
الذان يتفقان لحظة الثورة ويتعاونان ضد النظام، لكن اتفاقهما دوما
قلق، فالمعارض كثيرا ما يتخاذل، كثيرا ما يعود إلى “ما اعتاد عليه”،
يبدي استعداده للدخول في حوار (المعارضة المصرية تحاورت مع عمر
سليمان)، يعتمد على التدخل الأجنبي (المعارضة الليبية تمضي في هذا
الاتجاه)، يستخدم الثوار كأداة طائفية (المعارضة البحرينية)، وأخيرا
يستغل خروج الثوار للشارع لحل مشاكل عائلية وقبلية (المعارضة
اليمنية). والمعارضة في الغالب تنجح في توظيف الثورة لصالحها، وذلك
لأسباب تنظيمية بحتة، فهي منظمة أكثر، وقد احترفت العمل السياسي أكثر
من الثائر الذي تكشف له هذا العالم دفعة واحدة ويتعامل معه “ببراءته
الأصلية”. ففي مصر وتونس لم تفلح المعارضة باستغلال الثورة أثناء
حدوثها، لكنها على ما يبدو بدأت بقطف ثمارها، وفي اليمن وليبيا
والبحرين يبدو أن المعارضة تفسد الثورة عبر توظيفها وإدخالها كورقة
مساومة من أجل أن تقبل هي في النظام.
لنأمل فقط أن يتذكر الثوار أن “إسقاط
النظام” يتضمن فيما يتضمن “معارضته” البائسة.
انا عندي كم بيضه في تويتر.. توي ادري انهم مباحث.. شكراً المقال جداً رائع عزيزي
مقال يبرد التسبد .. أكاد أقول أنه أجمل ما قرأت لك ..
أشكرك أن جعلتني أطرب شغفاً هذا الصباح