قديما، في بريدة، كنا نتحاشى الحديث مع بعض الطلاب الجالسين في الصفوف الأمامية، كنا ندعوهم “جحح”، خصوصا صديقنا سليمان، فكانت عيارته في الفصل “جحة الوكيل”. و “جحح” جمع “جحة” وهي البطيخ وكنا نستخدمه بمعنى مخبر. ولأني ابن عائلة من الطبقة المتوسطة الدنيا، وبعد سلسلة من بيوت الآجار التي تنقلنا خلالها، كان أول بيت ملك لنا صادف وأن كان مقابل لمبنى المباحث في الصفراء، أحد أحياء بريدة، وكنت استمتع بمتابعة السيارات التي تدخل وتخرج وكنت أحفظ لوحاتها، فحفظ لوحات السيارات كانت إحدى الهوايات المنتشرة في تلك الأيام. وفي أيام المراهقة، كنا إذا تجمعنا تجمعات شبابية من أجل “دوران” أو “تفحيط” على طريق الربيعية، نعرف المباحث من لوحات سياراتهم، إذ أنهم دائما يحملون لوحات قديمة كلها أرقام، ليست كاللوحات الحديثة التي نصفها حروف ونصفها الآخر أرقام. حينها تغير اسم المباحث إلى “دبابيس”.
هذه الأيام ومع الثورات العربية التي كانت تنتشر نتيجة توظيف الثوار لوسائل الاتصال الحديثة من “تويتر” و “فيسبوك”، اشتهرت هذه المواقع وقام عدد كبير من الأشخاص بالتسجيل فيها. وفي تويتر، عندما تسجل أول مرة، تكون الصورة الافتراضية لك هي صورة “بيضة”، ولأن غالبية “التويتريين الجدد” كانو في الغالب مندفعين في مهاجمة كل من يطالب بالاصلاح ويدافع عنه، مهاجمة فيها من التخوين والاتهام بكافة التهم الشيء الكثير، مما حدا ببعض “التويتريين الاصلاحيين” إلى اعتبارهم “مباحث” وألصق بهم تسمية “البيض”، فصار اسما جديدا لهم.
قد يكون بعض “البيض” مباحث، لكني لا أعتقد أن غالبية المهاجمين للإصلاح ومطالبات الحريات والحقوق والعدالة، كانو مباحث. وأعتبر أن وصف شخصا ما بالمباحث لأنه عبر عن رأي وإن كان ضد مطالبات الاصلاح هو مثل وصف هذا “البيضة” غيره بالعمالة والخيانة، كلا الاثنان يقومان بنقل نمط التفكير الوهابي من ميدان العقيدة إلى ميدان السياسة، مع استبدال “التكفير” إلى “تخوين”، فبعد أن كنا نكفر بعضنا، أصبحنا الآن نخون بعضنا.
أنا كنت مهووسا بمتابعة ما يكتبه هؤلاء “البيض”، وطريقة تفكيرهم، وحجم الوعي الذي يحملونه، تناقشت مع عديد منهم، مما جعلني أسمح لنفسي بأن أخرج بتعريف جديد لـ”البيضة” يختلف عن التعريف الإختزالي له بأنه محض “مباحث”. هذا التعريف تمكنت من ادراكه بعد حوار مع أحدهم، الذي بدأ نقاشي معه في تويتر، ليطلب مني رقم هاتفي لكي نتناقش على الجوال، ثم تهاتفنا مرتين أو ثلاثة في نقاشات طويلة كانت عقيمة لكنها مكنتني من معرفة شيء من هوية “الفرخ” الذي يتشكل داخل هذه البيضة. سأنقل الحوار الآن بعد الاشارة لمجموعة ملاحظات، وبعدها سأضع تعريفي الخاص للبيضة:
الملاحظة الأولى: في الحوار بعض الألفاظ النابية والمخلة، فمن لا يحب قراءة نص فيه هذه الكلمات فلا أنصحه بقرائته.
الملاحظة الثانية: نقل المحادثة هنا ليس دقيقا ١٠٠٪ فلم أسجلها، لكني اكتب من الذاكرة وحاولت تحري الدقة قدر الامكان.
الملاحظة الثالثة: الكلام الذي يتبع (-) هو كلامي والكلام الذي يتبع (=) هو كلامه.
– مرحبا
= مرحبتين
– يالله نتناقش؟
= أوكي، بس باسألك أول شي: أنت من أهل السنة والجماعة؟
– يعني تسد شفت بريداوي شيعي مثلا؟
= ههههههههه، طيب ليش تدافع عن الرافضة بتويتر طالما انك من بريدة وهي ديرة الدين والعلم؟
– لأنهم مظلومين
= أنت مصدق إنهم مظلومين؟ أنا باسألك الحين سؤال: هل تعتقد إن الشيعة بالسعودية مضطهدين؟
– إيه وش رايك؟ تخيل إنك بايران وانت سني وما تنجح بدراستك إلا لما تجاوب على أسئلة مثل “ما حكم من قال بقول اهل السنة والجماعة؟” ولازم عشان تنجح تجاوب “كافر، أو مبتدع، بدعة مغلظة” وما يسمح لك تدرس مذهبك مثلك مثل غيرك.
= بس مذهبهم كفر وشرك، وولائهم لإيران..
– هو شف، أنت الحين بامريكا، وتشوف بعينك إن الامريكان من كل ملة ومن كل لون ومن كل عرق: العربي والصيني والياباني والاسود والابيض… لكن كلهم امريكان، وكل واحد له حق يتعبد اللي يبي. امريكا الحين مديونة للصين، وتدفع يوميا ملايين الدولارات تسديد فوايد، ومع ذلك محد قال ان الامريكان اللي اصولهم من الصين ولائهم للصين، بالعكس، تلقى من ازين الاماكن اللي يروحله الواحد بنيويورك هي “تشاينا تاون”. وهنا لما تستأجر شقة، لو راعي الشقة رفض يسكنك لأنك مسلم، أو لأنك عربي، أو لأي سبب يتعلق باي شي يخصك، يمديك ترفع عليه قضية ويروح وطي..
= أنت يعني الحين فرحان بامريكا وتشوفه احسن شي، أنا باسألك: وش رايك بحميدان التركي؟
– وشبه حميدان التركي
= سجنوه الامريكان ٢٥٠ سنة بس عشانهم لقوا كتب اسلامية ببيته وانه فاتح بيته للدعوة.
٠- شكلك ما تقرا جرايد انت، تهمة حميدان استرقاق وتحرش بخادمة، ونفسهم الامريكان اللي حكموا عليه الحكم الكبير ذاك، هم نفسهم لما راجعوا القضية، خفضوا الحكم لثمان سنين لما لقوه مخطي. في حين مئات المساجين بالسعودية بدون حتى محاكمة، يعني إنه يحكم عليك ١٠٠ سنة أهون من انك ما تدري ليش انت مسجون ولين متى بتقعد، ولا بعد بتقول انه هذا الشي موب موجود؟
= طيب باسألك…
– لا انت سألت واجد، جاوب علي: وش رايك بالمساجين اللي ما حوكموا ولا وجهت لهم تهمة؟
= ما في دولة كاملة، وكل دولة فيها أخطاء…
– إذا صار دولة به اخطاء وشلون تنحل؟
= (متابعا كلامه)… بس ابي ارجع لكلامك عن حميدان التركي، تدري ليش امريكا خفضت الحكم؟
– أيوه؟
= لأن طوال العمر تدخلوا..
– يعني بتقول إنه السعودية رشت النظام القضائي الامريكي وقدرت تأثر عليهم وخفضت الحكم؟ كيف الحال؟
= ما علينا، ابي اسألك: لو قلتلك الحين إن أمك قحبة وش تقول؟
– باقول ذا مهبول وباصك السماعة.
= طيب حلو، اللي يقول إن عائشة أم المؤمنين قحبة، وش تسويبه؟
– اذا ما اثبت كلامه، يقام عليه حد القذف.
= ما يكفر يعني؟
– لنفرض انه يكفر، تدري شلون… انا عرفت انت وين تبي توصل، بس خلن اجيبه لك من الاخر. الشيعة موجودين بالشرقية من مئات سنين، ما جو هناك قبل اسبوعين بس وتونا نكتشفهم. الحين، أنت بديرة به ناس مختلفين عنك، تعتبرهم انت كفار، لكن هم بالنهاية، نتيجة صدفة ولا اي شي، طلعوا يشاركونك نفس الديرة اللي انت به، وش نسويبهم؟
= ااا
– اصبر، عندنا خيارات هنا: إما نروح لإيران ونسوي صفقة تبادل: نعطيهم شيعتنا ويعطوننا سنتهم، بس المشكلة هنا ان الاوادم موب قواطي صلصلة عشان نبادلهم، الاوادم لهم املاك وتاريخ وذكريات وروابط وجذور بارضهم، ولا لو هي سهلة نقل الناس تسذا، تسان اسرائيل عطت الفلسطينين كم مليون دولار وكلن راح لديرة ثانية ودبر عمره. الاحتمال الثاني إنه نبيدهم، إنه نذبحهم كلهم مثل ما سوى هتلر باليهود، وناخذ شعرهم وجلدهم ونسوي به صابون وأمشاط مثل ما سوى هتلر، بس المشكلة إن الله يحرم علينا ذبح الناس عشانهم كفار ولا عشانهم يختلفون عننا او عشانهم ما جازولنا، فهذا الخيار صعب. وش بيبقى؟ موب باقي إلا إن نقول الشكوى لله هذولا مواطنين مثلنا مثلهم ونتشارك مع بعض اننا نبني بلدنا… مثل ما يتشاركون الامريكان رغم انهم من كل ملة ومن كل لون ومن كل عرق ببناء بلدهم.
= هذا الكلام زين، بس مشكلتك انت ما تعرف مخططاتهم، ذولا الحين جالسين يتظاهرون عشان البحرين يبون يطلعون قوات درع الجزيرة.
– طيب انا باضرب لك مثال، لما بوش قرر يضرب العراق، طلعوا الامريكان بمظاهرات مليونية قدام البيت الابيض يرفضون هذي الحرب، وكتبوا كثارين مقالات وكتب ومسؤولين استقالوا، لكن ما في احد قال ان هذولا الامريكان اللي يرفضون الحرب موب وطنيين، أو خونة، أو ضد الوطن، ما بوش احد قال تسذا، لانهم كلهم يعرفون ان الاختلاف مبني على كل واحد وين يشوف مصلحة البلد وين… انت تشوف ان من مصلحتنا ندخل البحرين، انا اشوف موب من مصلحتنا.. وكلنا بالنهاية عيال ديرة وحدة.
= ايه صح عليك، بس ذولا يسمعون كلام ايران عشان كذا هم خونة..
– ههههههههههه، شف انا باطبق كلامك هذا عليك. افرض انه ما عندنا شيعة بالسعودية، وفيه ناس يبون اصلاحات، والدولة لانه ما تبي تصلح وتبي تشتت اهتمام الناس بهذا الموضوع، وش بتسوي؟
= وش بتسوي؟
– بتخترع عدو وتخوف الناس منه، عشان ينسون مشاكلهم ويخافون من الوحش اللي بياكلهم. حنا ما عندنا شيعة، تتوقع وش بيخوفوننا منه؟
= وشو؟
– بيخوفوننا منكم، بيقولون البدو بياكلونكم، والبدو ما لهم خاتمة، والبدو بهم وبهم وبهم… وهذا الكلام يقولونه لنا حنا الحضر، لا طالب واحد منا بديمقراطية، قالوله: تبي البدوي يحكمك؟ مثل ما انتم يخوفونكم من الشيعة، حنا يخوفونا منكم.. وتبتل المسألة تخويف بتخويف، يعني سياسة مثل فرق تسد.
= طيب أبي أسألك: الحين انت وشو اللي موب عاجبك بالبلد؟
– ترى اسلوبك بالنقاش هذا ما يوصل لنتيجة، لأنه كأنه تحقيق: اسئلة اسئلة، لازم تناقش.
= طيب جاوب علي، وباناقشك..
– منب اقولك ان السعودية مثل سوريا قمع وتعذيب واجرام، لكن عندنا قضايا رئيسية: إن الشعب ما يشارك بادارة الدولة، وانه الدولة متى ما بغت سجنت اللي تبي بدون ما تلتزم بالقانون والنظام، وان المرأة عندنا تحسب نص آدمي…
= وشبه المرأة عندنا؟ معززة ومكرمة …
– أي معززة ومكرمة وهي ما عنده أبسط الاشياء اللي هي حرية الحركة، البس بالسعودية يمديه يتنقل بحرية اكثر من المرة
= وش تقصد بحرية الحركة؟ تبي اختك تطلع مع خويها؟
– مالت عليك، هذا اللي طلع بمخك؟ ليش ما تصير مرة ما عنده احد يراجعله بدائرة حكومية وتبي تدخل؟ ليش ما تصير طالبة تبي تحضر انشطة وممنوعة؟ ليش ما تصير دكتوارت وبروفسرات ما يمديهن يسافرن الا بكرت اصفر من رجال مثلك تفكيرهم من السر وتحت… أنت ترضى تصير مرة بالسعودية؟
= انا مع اللي يحكمبه الشرع، واذا قال الشرع ان المرة ما تطلع، يصير ما تطلع، ولا انت ما تبي حكم الشرع؟
– اللي اعرفه انا ان الشرع ما به ظلم.
= وين الظلم الحين؟ دولتنا ولله الحمد دولة سلفية تطبق الشريعة..
– وتسجن الناس بدون سبب، وتخوف الناس من بعضهم، ونسمع بمشاريع بالملايين ولا نشوف شي، ونقطتين مطر تنزل بجدة وكلن يغرق بها.. هذا العدل؟
= كل دولة به اخطاء..
– ايه بس هذي الاخطاء شلون تنحل؟
= الاوامر الاخيرة حلته، حطوا هيئة مكافحة فساد..
– قبل سنة عقب امطار جدة حطوا لجنة مكافحة فساد، والى يومك ما ندري وش صار عليه، وش اللي يضمنك ان الهيئة ذي مهيب صايرة مثله؟
….. (انتهت المكالمة)
هذا الحوار موزع على مكالمتين أو ثلاثة، وهذه هي المكالمة الأخيرة:
= مرحبا
– مراحب..
= وش فيه صوتك؟ لا تصير مطقطق لك كاسين؟
– هههههههههههه، توي قايم
= للحين تكتب في تويتر؟ ما سمعت كلامي وتركته؟
– تبطي عظم اسمع كلامك…
= لا تصير طاف ياخي، ترا الموقع كله ما له ولا شهر…
– انت ما عرفته الا من شهر، ولا هو موجود من يوم ما انت فكرة براس ابوك..
= شلون يعني فكرة براس ابوي؟
– هذي نكتة، ما يصلح نشرحه تصير بايخة..
= انت مع انك بامريكا بس للحين تتكلم بلهجتك القصمنجية. على طاري القصمنجية تقرى كلام سلمان العودة؟
– ايه اقراله
= وش رايك فيه
– منب احب المشايخ انا
= تعتبر سلمان العودة شيخ؟
– وش يصير، لاعب كورة مثلا؟
= إلا نصاب وابن كلب
– والله يا انت ما لاحد عندك مقدار ولسانك وصخ وبس تسب العالم..
= انا ما احترم الا اهل السنة والجماعة، وغيرهم كلهم مخانيث ..
– طيب انا منب من اهل السنة والجماعة، انا خنيث؟
= إذا تقول عن نفسك منتب من اهل السنة فانت خنيث..
– دامنا وصلنا لهالمرحلة، فالحوار ما له معنى وانا ما انزل نفسي له، مع السلامة..
… (انتهت)
وبعد،
يمكن القول أن البيضة شخصية لم تتلق تعليما عاما محترما يعطيها أبجديات التفكير السليم وأبسط المعلومات العامة عن العالم الذي تعيش فيه، ولا تربية سليمة قائمة على التشارك وتعلمها احترام المختلف والمتفق على حد سواء. خاضعة تماما لمصادر معرفة شبه-حكومية (مجموعة الام بي سي، بشكل خاص). فهي سنية عندما يتعلق الموضوع بالشيعة، وسعودية عندما يتعلق الموضوع بباقي العرب، و”سعودية جدا” عندما يتعلق الامر بباقي شركاء الوطن. والدين عندها محصور في السياسة، فهي سنية فقط فيما يتعلق بأمور الحكم، أما في المجتمع فهي تنحل إلى: بدوية، حضرية، طرش بحر، خضيرية، قبيلية. وفي الاخلاق والسلوك فتعاني من اغتراب حاد بين ما تفعله وبين ما تقتنع بانه الصواب والفضيلة. وفي الاقتصاد فهي عالة على الحكومة لا تهدف إلا إلى استنزافها أكثر بحيث تريد مكافآت اكثر واجازات اكثر ولا تسعى لتحقيق أي إنجاز من أجل تحصيل ما تريد سوى التصفيق، ومشغولة حد أذنيها بالاستمتاع بحياتها قدر الامكان غير آبهة بكل ما حولها، نظريتها العظمى “اللهم نفسي” تبرر وجودها بحجج وقيم وعقائد لا يعبر عنها أبدا وجودها نفسه… باختصار شخصية “منافقة”، لها أكثر من مائة شخصية وشخصية.