هذه المقالة (نشرت عام ٢٠٠٤) هي واحدة من مقالات الأستاذ “سليمان الصيخان” الذي سيشرفني بإعادة نشر مقالاته هنا…
تعيش المنطقة – إقليمياً – حراكاً كبيراً على مستويات عدة، وأكثر تمثلاتها ظهوراً وإثارة “السياسي والفكري”.
وتمثل “المناهج” أحد أشد أجندة ذلك الحراك إثارة للجدل والانقسام والالتباس وتبادل سوء الفهم، بسبب عوامل عدة. وفي ظني أن فحص أسباب الالتباس وتشابك الخطوط يسهم في إيضاح الرؤية وإعطاء الموضوع حجمه الحقيقي.
وسأحاول كشف شيء من الالتباس من خلال تناول اثنين من أسبابه:
أولاً: موضوع “المناهج”، رشح من سنوات ليكون أحد “رمزيات” الصراع بين المدارس الفكرية في الساحة، وتضخمت هذه الرمزية لتصبح الآن الاشكالية الرقم واحد.
تفسير ذلك ليس صعباً على دارسي تاريخ الأفكار والصراعات الايديولوجية. فمن الملاحظ أن هناك ظاهرة تفسر تحول “فكرة ما” إلى قضية كبرى بسبب “لحظة” تاريخية جعلتها محوراً يدور حولها الصراع – الذي لا بد من أن يدور أصلاً -.
وبعد مضي فترة كافية على هدوء ذلك الحراك تكون “الأسباب التاريخية” غابت أو توارت، فيما تبقى المسألة “المرمزة” شاخصة تتوارثها الأجيال كإحدى مسلَّمات الانتماء والإيمان. وآنئذ يقف بعض الناس مؤمناً إلى درجة اليقين بسبب ما دفع من ثمن باهظ لها من تناحر واتهامات. وآخرون يحاولون تجاوز “الاضافات” واختراقها إلى موضوع (المسألة/ الرمز) ليجدوا أنفسهم حائرين في ذلك المشهد! فالأمر أقل حجماً من تكاليفه الباهظة المدفوعة ثمناً له.
ومن الأمثلة المثيرة على ذلك ما جرى في القرنين الثاني والثالث من صراع هائل بين مدرسة فقهاء الكوفة وأهل الحديث حول لون من ألوان الإرجاء سمي “إرجاء الفقهاء”، حيث سجلت كتب الاعتقاد سيلاً من عبارات الشتم والاتهام – أشد ما تكون قسوة وأساءة للظن – باتجاه الإمام ابي حنيفة، ففي “كتاب السنة” لعبدالله بن احمد قرابة خمسين صفحة (180 – 229/1) اشتملت على أكثر من “مئتي نص” كلها خصصت للتحذير من خطر ابي حنيفة وأنه “ما ولد في الاسلام مولود أخطر على الاسلام منه”. وكانت آلية التحشيد تتصف بالعموم وعدم التحري والتثبت وخلط مسائل الاختلاف وجمع كل ما قيل بغض النظر عن مستوى القائل معرفياً! وهي آليات ما زالت تشتغل في الصراعات الفكرية الحديثة. وهناك كتب أخرى خصصت فصولاً لبيان انحرافات لأبي حنيفة، مثل مصنف بن أبي شيبة وغيره، ثم يأتي بعد ذلك بقرون محقق مثل ابن تيمية ليقول “ان الخلاف بين اهل الحديث وفقهاء الكوفة خلاف لفظي”، يعني مجرد اختلاف في التعبير! مع أن الحقيقة واحدة.
يا للهول… حقيقة واحدة اختلف الطرفان في التعبير عنها فكان ذلك “الهدر الفكري والاجتماعي” الهائل!
والعجب أن عدداً من الباحثين لم يتجاسر على قبول هـذه الحقيـقة – عـلى رغم أنـها من إنـتاج الشـارح الأكبر لعقائد أهل السنة – بسبب ذلك التراكم التاريخي الكبير من الردود والبــيــانــات. فــليــس مــن المعــقــول أن يـكـون ذلك كـله مـن أجـل خـلاف لفـظي.
وحال “إرجاء الفقهاء” تصلح نموذجاً – من وجهة نظري – لتوضيح آلية مستمرة الحضور في “صراعات الأفكار”، فالصراع أولاً والفكرة “محور الصراع” ثانياً. معنى ذلك أن أجواء الصراع أصلاً هي المسيطرة بسبب التنافس على “السلطة الفكرية”. وحتى يكون هذا التنافس مبرراً لا بد من استدعاء محور يدور حوله النزاع – سواء كان ذلك بوعي او من دون وعي – وبغض النظر عن حجم هذا المحور موضوعياً.
فإذا وعى المراقب هذه الحقيقة، كان من السهل عليه التخلص من “اليقينية” المستعملة كسلاح يجعل الصراع لا هوادة فيه ولا مراجعة ولا أنصاف حلول.
هناك مسائل كثيرة تم تصعيدها عبر تاريخ صراع المدارس الفكرية مع أن حجمها موضوعياً أقل من المستوى الذي وضعت فيه. فمسائل من جنس “المسح على الخفين” و”الجمع بين الصلاتين” ضمت إلى متون الاعتقاد امعاناً في توضيح الحدود والفروق مع المخالف، واقترح بعض المناضلين ضم مسألة (غطاء الوجه للمرأة) إلى مسائل الاعتقاد مع أنها مسألة فقهية وإنما صعدها الصراع الى مستوى المسائل المفاصل.
أظن أن حال “المناهج” في الحراك (الداخلي/ الداخلي) يمكن تفسيرها ضمن هذه الظاهرة التاريخية. ولذا أدعو إلى الرفق بالجماهير التي تتعرض إلى سحب وتهييج لتكـون طرفاً في ترجيح جناح على آخر، ولا يمكن سحبهم إلا بموضوع يتم تضخيمه وتفسيره وفق الصيغة التي تتكفل بجعل جماهير معنا ضد الآخرين!
دعوة – مرة أخرى – إلى بحث موضوعي يجعل مصلحة الإنسان والوطن قبل مصالح الذات، بحث مـوضـوعـي يسـتـرشـد بأصـول الشريعة ومقاصدها المحكمة التي تراعي المصـالح وأسئـلة الزمـان والمكان.
ثانياً: مسألة المناهج تداخلت فيها ثنائيتان (الداخلي/ الداخلي) و(الداخلي/ الخارجي). هناك وجهة نظر داخلية ذات انتماء الى وطنها ودينها تقترح إعادة النظر في المناهج كلها وإعادة دراستها وفحصها وإبقاء ما كان صالحاً أو غير قابل للتغيير باعتباره ثابتاً، وحذف غير الصالح أو تطوير ما تقتضي سنن العمران والنمو تطويره، وهذا مطلب – لو وجد حسن الظن – لا ينازع فيه أحد مهما كان لأنه مصلحة تامة.
وهناك مطالبة من الخارج تتمثل في الضغط الأميركي. وفي اعتقادي أنه من الظلم وعدم الإنصاف والموضوعية الخلط بين وجهتي النظر وجعل الجميع في سلة واحدة، فالجميع – في ظني – يعلم اختلاف الدوافع والمقاصد والغايات.
ولا أظن صواباً ما قاله بعض الفضلاء في بيان تحذير “من تغيير المنهاج” في الفقرة الثامنة من “ان إحداث هذا التغيير يمثل اعترافاً منا للعدو المتربص بأن مناهجنا تنتج الإرهاب…”، فهذا الرأي منطلق من تكتيك (سيـاسـي/ صراعـي). ونحن حين نكتشف قصوراً في أي زاوية من زوايا الحضارة، فليس من المعقول أن نمتنع من التعـديل والإصـلاح بسبـب أن الآخـر اكتـشـف فيها القصـور ذاته أو قصـوراً آخـر، بـحـسب وجـهـة نـظره.
إن أفضل ما نبني به أنفـسـنا ونكون به أقوياء هو نقد الذات وفق حاجاتنا وبناء العقليات الموضوعية العلمية، ومثل هذا المطـلب يكـون عسيراً في أجواء الصراع وتبادل الشكوك.