هناك العديد من محاولات النظر للصراع الفكري الذي يشتعل حولنا، هناك من يجعله صراعا لبرالي/إسلامي، وآخر يراه معركة بين التقاة والمنافقين، وثالث يعمد أطرافه القصوى بأنهم إما محافظين أو تغريبيين؛ لينشأ بعد ذلك صراع أكبريدور هذه المرة- ببؤس شديد- على الكلمات: ما بين منكر لوجود (لبرالية) أو (تغريب) لدينا وما بين مثبت، وما بين مبرر لاتهام المخالفين بالنفاق وبين رافض…إلخ. ولكي نتفادى الانزلاق إلى هذه الصراعات حول الكلمات والأسماء، سأحاول أن أعيد النظر من جديد لهذا الصراع الفكري، بطريقة لا تركّز على تحديد أطرافه وتوجهات هذه الأطراف، بقدر ما تركز على تحديد ميدان الصراع الذي تتصارع حوله هذه الأطراف، والذي لن يكون شيئا آخر سوى (الحيز الخاص).
في الدولة الحديثة، ما عدا الشمولية منها، يكون الإنسان مواطنا وفردا في نفس الوقت. فرد في (حيزه الخاص) والذي يمثل بيته، أملاكه وحياته الشخصية، خياراته، علاقاته مع غيره من الأفراد وتعاقداته معهم.. وغيرها. هذا الحيز الذي تكون مهمة الدولة الجوهرية فيه حمايته وجعله آمنا لجميع هؤلاء الأفراد عبر وسائل متعددة تبدأ من الشرطة ولا تنتهي بالمستشفيات والمطافي وغيرها. هذا فيما يتعلق بكون الانسان فردا، أما كونه مواطنا فهذا يعني أن ننتقل بالحديث عن حيز آخر هو (الحيز العام) أي علاقة هذا الانسان بالدولة. فكل ما يتعلق بعلاقة المواطنين بالدولة من تصويت واقتراع وبيعة وصناعة قرار يدخل في هذا الحيز العام، والذي قد يكون مغلقا تماما في وجه الأفراد بحيث لا يسمح لهم بالدخول إليه والمشاركة فيه، أي لا يمنحون الحق في أن يكونوا مواطنين إلا بالمعنى السلبي للكلمة أي مجموعة من المحكومين لا سلطان لهم على حاكميهم. الآن، وبعد هذا التقسيم الشديد الاقتضاب، لنتسائل علامَ يتصارع السعوديين؟
إن إلقاء نظرة سريعة للقضايا التي يتصارع حولها السعوديين، سنجدها تدور حول: قيادة المرأة للسيارة، الإختلاط، السينما، تكافؤ النسب، الطائفية… وغيرها من القضايا التي بامعان النظر فيها نجد على الفور أنها لا تكاد تخرج من حيز العلاقات بين الافراد ببعضهم وكيفية ادارتهم لحياتهم الخاصة، أي (الحيز الخاص). وبشكل عام نرى أن هناك مجموعة من التوجهات التي تتراوح بين طرفين: طرف- تتنوع أسماؤه ما بين لبرالي وتقدمي وتغريبي- يريد إعطاء الفرد حرية اختياره الكاملة في هذا الحيز الخاص حيث يمارس فيه ما يشاء بحدود القانون، فتجده يقف ضد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبارها جهاز يتدخل في هذا الحيز، وأمام المؤسسات الأهلية، كالعائلة والقبيلة والطائفة، التي تتدخل في تحديد هذه الخيارات أيضا. أما الطرف الآخر – والذي يدعى بدوره محافظا، سلفيا، متشددا- يريد تقييد حرية اختيار الفرد في حيزه الخاص، إما تقييده بقوانين صارمة أو بعادات وتقاليد الجماعة أو ما يراه دينا يصل ببعضهم إلى التدخل في شكل ورداء هذا الفرد.
جزء مهم جدا من تسييس هذه القضايا التي يفترض أنها مسائل شخصية وجعلها محورا للصراع هو حقيقة أن فردانية الفرد في هذا الحيز الخاص ليست محمية بشكل قانوني. فالوحدة الاجتماعية المعترف بها قانونيا هي الأسرة، وبالتالي يصبح لرب الأسرة وكبارها سلطات ضخمة على بقية الأفراد من ذكور وإناث، تسمح لهم بالتدخل في قرارات مصيرية في حياتهم كالدراسة والعمل والزواج والسكن وغيرها. وجانب كبير من ممانعة رفض جعل فردانية الفرد محمية بشكل قانوني هو ما يقتضيه ذلك من تحويل المرأة إلى فرد مستقل قانونيا مساويا للرجل، الأمر الذي ما زالت المكونات الدينية والاجتماعية التقليدية تراه مرفوضا انطلاقا من مبررات دينية وحجج تنطلق من ذهنية ذكورية تقليدية.
ولأن هذه الأطراف منشغلة تماما عن الحيز العام وتركّز كل جهودها في الحيز الخاص، فإنها تدير صراعها ضد بعضها عبر الاستقواء بالدولة. فيسعى كل طرف من الأطراف إلى استغلال مناطق نفوذه في الدولة من أجل تمرير ما يريد تحقيقه في الحيز الخاص، بطريقة تزيد من سلطان الدولة ولا تعود على فرد هذا الحيز إلا بأن تجعله مستباحا سياسيا- كون الحيز العام مغلق، ومواطنته مختصرة إلى محض شخص مطالب بالالتزم بقوانين لا حول له فيها ولا طول. وكذلك مستباحا اقتصاديا- كون جميع الاطراف منصرفة عن مقاومة تحالفات الشركات وتحكمها المنفرد بالاسعار ومستوى الخدمات، لتنتهي بالفرد وحيدا نهبا لهذه الشركات لا تحميه منها- نظريا على الأقل- سوى مؤسسات الدولة البطيئة وغير الفاعلة. بل في بعض الحالات، تنتهي هذه الطريقة في إدارة الصراع إلى تحويل هذه الأطراف إلى محض أدوات بيد السلطة يستخدمها في إلهاء الناس عن ميدان الصراع الحقيقي ألا وهو الحيز العام، الغائب الوحيد في هذه الصراعات الفكرية.
يلخص توماس جيفرسون- أحد آباء أمريكا المؤسسين وكاتب مسودة الدستور الأمريكي- العلاقة بين الحيز الخاص والحيز العام بهذه الجملة: (ما إن يغفل شعبنا عن الشؤون العامة، حتى نصبح كلنا، أنا وأنت، الكونغرس والمجالس، القضاة وحكام الولايات: ذئابا). فعلى الرغم من الانقسام بين الحيزين، إلا أن العلاقة بينهما وثيقة. فالانسان فيهما في النهاية هو نفسه، إذ أنه أبدا لن يستطيع حماية حياته في الحيز الخاص بالشكل الذي يريد مالم يتدخل في صياغة القوانين التي تحدد نوع هذه الحماية، وهو لن يتدخل إلا بصفته مواطنا ذا حقوق في الحيز العام.
لي وقفات هنا مع المقالة :
أراد ( سلطان العامر) أن يأتي بصياغة جديدة أكثر لطفاً ثم ها هو يعثر على مصطلح ( الحيز الخاص).. ولو استرسل في مهمة البحث لخرج بجمهرة من المصطلحات التي هي في الأصل تعود إلى معنى ( الفردانية ) .
دعونا نتأمل في بعض أثر هذه الظاهرة التي تقدم حق الفرد على المجتمع,و من ظن أن هذه الظاهرة مجرد ظاهرة لا علاقة لها بالفكر و الأخلاق والقيم و العقيدة وحتى السلوكيات…فقد أبعد النجعة ولاريب.
المرجعية الليبرالية التي صُنعت على عجل تعويضاً و نكاية بالعهد الكنسي الأليم هي التي تمخضت عنها تلك ( الفردانية) ولا حق فوق حق الفرد تأليفاً له وإرضاً لسنوات الكبت والسحق.
الأفراد يختلفون في مشاربهم و مستويات الوعي لديهم ولا ضمانات حقيقية تمكنك من الوثوق بخيارات هؤلاء الملايين من الأفراد منهم الأحمق والسفيه والبليد و الساذج ثم تأتي بعد ذلك و تنافح طويلاً لنزع الرقابة المجتمعية من مثل هؤلاء.
المجتمع كيان متماسك فيه قدر من الوعي وله أسبقيته على الفرد, الفرد لا يصح ان يكون مرجعية ألبتة وإلا فسدت الأخلاق والسلوكيات وظهرت الشذوذات وكلها من باب ( أنا حر في أفعل).
القانون لا يفرض عقوبات إلا عندما يقدم الفرد على إرتكاب جناية بحق آخر , في المجتمع الغربي هذا هو الرقيب الوحيد هناك, ونحن نعلم أنه ليس كل مايُستهجن يُعاقب عليه القانون فالعادات السيئة واللباس وحق الحشمة ومايعرف ب( العيب ) و الكثير من المظاهر التي تفكك المجتمعات لا ينالها القانون وإنما تخضع لرقابة المجتمع, و الحال المشينة التي يعاني منها الغرب في هذا الأمر أكثر من أن تجصى.
الرقابة مطلب مُلح في كافة الدوائر والجهات الحكومية …والمجتمع أولى من تلك الجهات بالرقابة, ومما يجدر الإشارة إليه أنه في الدولة الإسلامية لدينا مظهران:
1- المظهر العام: و هو ما يمارسه الفرد ويلبسه ويصدر عنه في الأماكن العامه وأمام الناس, فهذا محكوم بمرجعية الدولة وهو نطاق الشريعة , فلا يحق لفرد أن يشرب الخمر أو يلبس ملابس خادشة للحياء بدعوى الفردانية.
2- المظهر الخاص: وهو ما يمارسه الفرد في منزله وخلف ستار بيته , فلا يحق لأحد التستر عليه و معاقبته على أمر لم يجاهر به الفرد.
اظن السلفيين مرجعهم الكتاب والسنة وليس العادات والتقاليد ..
الفردانية هي الحيز الخاص ؟!