أنا بوبريّ الهوى- نسبة لكارل بوبر- والذي إن تعلمت منه شيئا فهو تحاشي الخلاف حول الكلمات والتركيز على الخلاف في القضايا… وأن اللغة بقدر ما قد تكون وسيلة إيضاح وبيان، قد تكون أيضا وسيلة تشويش.. خصوصا بالنسبة للغة العربية التي تعاني مصطلحاتها من أزمة كبرى ترجع في جانب كبير منها إلى انعدام وجود مؤسسات اكاديمية عربية تقوم بحراسة وتطوير وتركيز هذه المفاهيم والمصطلحات. وانطلاقا من هذه الزاوية، سيكون نقاشي هنا لمصطلح الطائفية ليس محاولة لتحديد تعريف للكلمة، بقدر ما هو توضيح لبس أساسي قد يجعل شخصين يتكلمون عن موضوعين مختلفين فقط لأنهما يستخدمات المصطلح استخداما مطاطيا يجعله يستوعب أشياء لا يستوعبها. الأمر الذي حدث لي مكررا عندما أحاول مناقشة ثورة البحرين مع أفراد مختلفين وذلك تحديدا عندما يصل النقاش إلى مصطلح “الطائفية”. أعتقد أن هذا النقاش مهم أيضا، لكون المسألة الطائفية تحولت في زمن الثورات هذا إلى الأداة الوحيدة التي نجح بها نظام عربي إحباط ثورة قامت على أراضيه، في حين فشلت جميع الأدوات الأخرى: كالتخويف من الإسلاميين، والجماعات المسلحة، والعصابات، والفوضى وغيرها.
سأبدأ بوضع الأطروحة الرئيسية التي سأدافع عنها بعد ذلك، وهي كالتالي:
عندما نتحدث عن الطائفية فإننا نتحدث عن مسألة سياسية تتمكن فيها أو تسعى جماعة مذهبية إلى توظيف الدولة لخدمة مصالحها ضدا على جماعة أو جماعات مذهبية أخرى.
وأوضح مثال على ذلك دولة لبنان، فهذه دولة طائفية، لأن كل طائفة تتنازع مع الطوائف الأخرى على توظيف الدولة لصالحها، يصل الصراع لمستوى الحرب الأهلية أو قد يتقلص لمستوى هدنة بين الطوائف يسمونها “ديمقراطية طائفية”، وهي من الديمقراطية براء. وإن كانت الطوائف في لبنان تعيش أشبه ما يكون حالة توازن قوى مما يمنع تسلط طائفة واحدة على بقية الطوائف، فإن دولة أخرى كالبحرين تتجلى طائفيتها بشكل واضح عندما يتم توظيف الدولة لمصالح الطائفة السنية ضدا علي الطائفة الشيعية، حيث يتم التمييز ضد ابناء الطائفة الأخرى في الوظائف، والمناصب، ويتم محاربتهم ديموغرافيا عبر تجنيس أفراد من بلدان أخرى.. وغيرها من الأساليب. فالدولة هنا هي “الطائفية”، لأنها تقوم بالتفريق في قوانينها وسلوكها وواقعها بين مواطنين على أساس الطائفة.
هنا الطائفية تحمل نفس المعنى الذي تحمله العنصرية. فالدولة تكون عنصرية، إذا قامت مجموعة تنتمي لعنصر ما بالسيطرة على الدولة والتفريق بين أبناء عنصرهم وغيرهم من المواطنين في الحقوق. مثال ذلك دولة “جنوب أفريقيا”، حيث كانت هناك أقلية بيضاء تتحكم بالدولة التي أكثريتها سوداء، وقامت بسن قوانين تسمى “الأبارتهايد”، أي قوانين ترسم حدود واضحة- في السكن، التعليم، الحقوق والواجبات…إلخ- بين العنصر الذي يسيطر على الدولة والآخر الخاضع له. فدولة “جنوب أفريقيا” كانت دولة عنصرية.
سنبقى مع مثال جنوب أفريقيا، فهو يوضح بشكل تام النقطة التي أود الوصول إليها. فنحن إذا اتفقنا مع التوصيف السابق أن جنوب أفريقيا في عصر الأبارتهايد كانت دولة عنصرية، فإننا أيضا سنتفق أيضا أن نلسون مانديلا لم يكن عنصريا، على الرغم من أن حركته كانت من أجل عرق محدد هم السود. فالحركة التي قادها مانديلا كانت مكونة كليا من السود، وعلى الرغم من أنه اتهم من قبل السلطة بالارهاب والعنصرية ومحاولة جعل السود يستحوذون على البلد من أجل اضطهاد البيض والشيوعية وسجن فترات طويلة، إلا أن أحدا لم يصدق أبدا أن هذه الحركة كانت حركة عنصرية، على الرغم من أنها تدافع عن حقوق السود. كيف ذلك؟
فما كان يحدث في جنوب أفريقيا أنه كان هناك دولة يقابلها مجموعة من المواطنين، وجزء من هؤلاء المواطنين لديهم حقوق أكثر من جزء آخر، والتمييز بينهم قائم على أساس اللون. فعندما يتحرك الجزء المضطهد (السود في هذه الحالة) ليطالبو بمساواتهم مع البيض في الحقوق، فهم هنا لا يطالبون بمطالبات عنصرية، على العكس من ذلك هم يطالبون بإنهاء العنصرية. بالمقابل، لو كانت حركة مانديلا تطالب بشيء آخر، شيء مثل “طرد البيض من البلد”، أو “أفريقيا سوداء للسود” وغيرها من المطالبات التي تؤدي لأن تجعل السود يؤدون نفس الدور الذي كان البيض يقومون به، أي أن يستولي السود على الدولة ويضطهدون البيض فإنها هنا ستكون “حركة عنصرية”، لأنها تسعى لأن توظف الدولة لصالح عنصر مقابل العناصر الأخرى. ومن شاهد فلم (Invictus) والذي يحكي الفترات الأولى من حكم مانديلا سيرى كيف أنه كان عليه أن يوجه العنصريين من السود والبيض من أجل أن ينهي عهد الابارتهايد ويبدأ ببناء أمة حديثة مكونة من مواطنين متساوين.
ملخص ما أريد قوله: أن حركة الاحتجاج لا يكفي أن تكون مكونة من جزء واحد من المواطنين حتى توصف بأنها عنصرية، بل يجب أن ينظر بماذا تطالب، فإن كانت تطالب بأن تحتكر البلد لها، فهي هنا ستكون مثلها مثل الدولة التي تواجهها عنصرية، أما إن كانت تطالب بأن تتساوى في الحقوق مع من يحتكر الدولة لنفسه، فهي هنا حركة تطالب بانهاء العنصرية.
لنعد الآن إلى موضوع الطائفية، ولنطبق نفس الأمر. قد تخرج مظاهرات عارمة مكونة فقط من الطائفة السنية- كما هو الحال مثلا في سوريا- وذلك من أجل إنهاء طائفية الدولة السورية، أي الدولة التي تحتكرها طائفة علوية، وذلك عبر المطالبة بتساوي جميع ابناء سوريا في الحقوق أمام الدولة، وأن تنهى كل أنواع المحاباة لابناء طائفة محددة في التوظيف وغيره. لكن أيضا، قد تنزلق المظاهرات السورية فتتحول إلى طائفية عندما تطالب بأن تحتكر الدولة لها، مثلما كانت تحتكر الطائفة العلوية الدولة، هي إن فعلت ذلك كفت عن كونها مناهضة للطائفية وتحولت إلى مظاهرات طائفية مثلها مثل الدولة التي تناهضها. نفس الأمر أيضا في البحرين، فلا يكفي أن يكون جميع المتظاهرين شيعة حتى نصف الاحتجاجات بالطائفية، بل علينا أن نرى بماذا يطالبون: هل هم خرجوا لإنهاء طائفية الدولة بالمطالبة بمساواتهم مع غيرهم الذين ينالون امتيازات فقط لأنه سنة، أم خرجوا لأنهم يريدون احتكار الدولة لهم مثلما تحتكر الطائفة السنية الدولة؟ هذا السؤال هو الذي يحدد هل هذه الاحتجاجات طائفية أم لا، وليس “هل كلهم شيعة أو هل يوجد من بينهم سنة” فهذا امر لا علاقة له.
هذا التوضيح المفصل اعلاه وجدتني مضطرا لتوضيحه، لأني لاحظت في نقاشاتي مع بعض الاصحاب أن منهم من يقول “كل المتظاهرين شيعة، إذن الثورة طائفية”، وهذا الاستنتاج كما هو واضح خاطئ، لأن المظاهرات تكون طائفية عندما تكون المطالبات لا تتعلق بمساواتهم بغيرهم، بقدر ما تتعلق بأن يأخذوا مكان الطائفة المستبدة ويمارسوا نفس ممارساتها. وانطلاقا من هنا، فإني أرى الاحتجاجات البحرينية بالشعارات التي رفعتها والاهداف التي انطلقت منها والهتافات التي هتف بها، احتجاجات شيعية تطالب بإنهاء طائفية الدولة، لا – كما صورت الدولة- احتجاجات طائفية تسعى للإنقضاض على الدولة.
عموما موضوع الطائفية في العالم العربي، يلعب نفس الدور الذي لعبته العرقية في البلقان، الذي انتهت إلى نهاية مأساوية مع الحرب الأهلية بين الجماعات العرقية هناك والمذابح والمقابر الجماعية وغيرها من المآسي، ليتفتت البلقان إلى مجموعة من الدول الصغيرة جدا. ولهذا فهو يحتاج إلى تعمق أكثر، لكن هذا التوضيح المبدئي اساسي في التمييز بين ما هو “طائفي” و”ما هو مناهض للطائفية”.
شرح جميل, ومالم تتنبه له, ان بمجرد الاستيلاء على الدوار في البحرين, وانهاء الاعتصام, تحولت المظاهرات والاعتصامات اللاطائفية الى شيء ما غير معرّف مع اطروحتك ( بمعنى ان مجموعات شيعية بدافع ما (لانعلمه) قتلت مجموعات سنية) , فقتل عمال اسيويين لمجرد انهم سنة! هذا طبعا لا ينفي اطروحتك المعرّفة بنفس الصياغة, لكن يجعل من قتل السني,عندما حاصرت السلطة الاحتجاج اللاطائفي, شيء لاطائفي! وهذا ما يدمر اطروحتك المحترمة 🙂
أرجو ألا تتسرع وتستمع إلى أكاذيب وادعاءات السلطة دون أن تسمع للصوت الآخر ، يكفيك أن تعرف أن الاحتجاجات في البحرين متواصلة ويومياً وإلى الآن دون أن يلقي الإعلام بالاً لها ، ولو كانت هذه المظاهرات غير سملية لرأيت جرحى كثيرين من السلطة وقتلى بشكل متواصل،، لفو فرضنا وقوع حادثة هنا أو هناك فهذا لا يشوه سلمية ثورة قام بها مئات الآلاف وما زالت مستمرة لمدة خمسة أشهر ولها مطالب عادلة، على أن هناك من يتحدى السلطة إلى الآن أن تخرج من ادعت أنه مؤذن قطع لسانه والقتيل البنغلاديشي إلخ من أكاذيبها
تقوم اطروحتك كالتالي:
بعد الاستيلاء على الدوار، تم قتل مجموعة عمال اسيويين.
تم القتل فقط لأن العمال سنة.
إذن، الاحتجاج طائفي.
لو قرأ ارسطو هذا الاحتجاج لأحرق كل كتب المنطق التي ألفها. لأنه يقوم على جملة من الأخطاء:
أ- عبارة “الاستيلاء على الدوار” هي تعبير لطيف لقمع المتظاهرة ورمي بعضهم بالرصاص الحي وهدم معابدهم…إلخ.
ب- “قتل العمال فقط لأنهم سنة” وهذا افتراض لا دليل عليه، قد يكون قتلهم فقط لأنهم أجانب يستطيعون الانتفاع بالبلاد أكثر من المواطنين انفسهم.
وبالتالي بطل الاستنتاج.
شكرا لك
تقوم اطروحتك كالتالي:
بعد الاستيلاء على الدوار، تم قتل مجموعة عمال اسيويين.
تم القتل فقط لأن العمال سنة.
إذن، الاحتجاج طائفي.
لو قرأ ارسطو هذا الاحتجاج لأحرق كل كتب المنطق التي ألفها. لأنه يقوم على جملة من الأخطاء:
أ- عبارة “الاستيلاء على الدوار” هي تعبير لطيف لقمع المتظاهرة ورمي بعضهم بالرصاص الحي وهدم معابدهم…إلخ.
ب- “قتل العمال فقط لأنهم سنة” وهذا افتراض لا دليل عليه، قد يكون قتلهم فقط لأنهم أجانب يستطيعون الانتفاع بالبلاد أكثر من المواطنين انفسهم.
وبالتالي بطل الاستنتاج.
شكرا لك
في الحقيقة تحليل اضاف لي الكثير شكرا لك ياسلطان
تحليل جميل وواقعي لايصدر عن اكبر الكتاب .. خالص تحياي لك على الفائدة التي تعلمتها منك.