اختلف النقّاد البريطانيون في تفسير أعمال الشغب التي اندلعت هناك وما زالت مستمرة منذ الأسبوع الماضي. فبعض محللي اليسار نظروا لهؤلاء (العصابات)- كما يسميهم رئيس الوزراء كاميرون وكأنه صدى لتسميات الحكومات العربية للثوار الذين يقتلعون حريتهم من أعينها- باعتبارهم مجموعة من المحرومين والمتضعفين والمهمشين الذين انتفضوا كنتيجة لسياسات المحافظين الجدد الاقتصادية منذ اعتلاء مارجريت تاتشر سدة الحكم قبل ثلاثين عاما. أي أنهم لم يروا خلف هذه الأحداث إلا العوامل الاقتصادية والاجتماعية التي (اضطرت) هؤلاء لأن يقوموا بأعمال العنف هذه. بالمقابل، وضع بعض كتاب اليمين كل اللوم على سياسات (دولة الرفاه) السائدة قبل تاتشر وعادت نسبيا في عهد بلير، كونها أنشأت جيلا حُقن فيه أنه بإمكانه أن يحصل على الأشياء دون أن يكدّ من أجلها، وأن المبالغة في حماية حقوقه الإنسانية تكاد تجعله معفيا من العقاب حال اقترافه جرما. نجد هنا أيضا، أن اليمينين يرجعون الأحداث لآثار سياسة دولة الرفاه الاجتماعية والاقتصادية. كلا الفريقين يتشاركون مع كاميرون – الذي بدوره لا يرى في الأحداث سوى (إجرام محض)- بأن لا شيء (سياسي) في هذه الأحداث انطلاقا من كونه لم ترفع شعارات وإنما محض تخريب للمتلكات. ومن هنا تحديدا، من انعدام المعنى السياسي فيها، من هذه العدمية، نجد فيها نحن ردا (عقلانيا) على عدمية السياسة البريطانية نفسها. فبحسب كارل بوبر- أحد أكبر المدافعين عن الديمقراطيات الغربية خصوصا تلك الموجودة في بريطانيا وأمريكا- فإن الديمقراطية ليست أبدا (حكم الشعب)، بل هي تحديدا النظام الذي يسمح بالإطاحة بحكومة دون إراقة أي دماء. وانطلاقا من هذه الزاوية، تتجلى عدمية أعمال الشغب هذه كتعبير لا يعكس أكثر من عدمية الديمقراطية البريطانية، أي بمعنى آخر انعدام كل الوسائل التي تطيح بالحكومة دون إراقة دماء لفاعليتها.
فالأداة الأولى والأساسية التي بأيدي الناس للإطاحة بحكوماتهم هي قدرة الأغبية منهم يوم الاقتراع على التصويت ضدها، الأداة التي بنيويا وواقعيا فقدت كل فعاليتها. فمنذ اقرار نظام التصويت الجديد عام ١٩٤٨- الذي قام على أنقاض نظام التصويت المتعدد- والذي يعطي كل ناخب الحق في التصويت لمرشح واحد فقط في دائرته الانتخابية، التي سيترشح منها مرشح واحد أيضا للبرلمان. هذا يعني أنه بإمكان لحزب أن يفوز بغالبية مقاعد مجلس العموم دون أن يفوز فعليا بغالبية الأصوات. ففي عام ١٩٥١، حصد حزب العمال ٤٨٪ من الأصوات لكن الذي قام بتشكيل الحكومة هم المحافظين الذين فازوا بـ٤٤٪ منها، وذلك لأن الأصوات التي ذهبت للعمال كانت محصورة في دوائر محددة. أي أنه لو كان لدينا خمس دوائر، وفي كل دائرة خمسين شخصا، واستطاع حزب أن يكسب ٢٦ صوتا في ثلاث دوائر (أي ما مجموعه ٧٨ صوتا) فإنه سيكسب أغلبية المقاعد وينفرد بتشكيل الحكومة حتى لو فاز الحزب الآخر بكل الأصوات المتبقية (أي ما مجموعه ١٧٢ صوتا، أي أكثر من الضعف).
وعلى الرغم من أن نظام التصويت لمجلس العموم البريطاني يشابه نظيره لمجلس النواب في الكونجرس الأمريكي، إلا أن هناك فروقا جوهرية: فمجلس النواب يتغير كل سنتين بينما مجلس العموم كل خمس سنوات. ومجلس النواب لا ينفرد بسن القوانين والتشريعات بل يشاركه مجلس الشيوخ الذي ينتخب بطريقة مختلفة تعطي كل ولاية نفس الثقل فيه بغض النظر عن عدد سكانها. في حين أن مجلس النواب لا يقابله في البرلمان إلا مجلس اللوردات الذي تنال عضويته بالوراثة، ولا يقوم بأي دور جوهري في عملية صناعة القرار. وأخيرا، ولكن ليس أقل أهمية، أن الحزب الذي ينال أكثرية مجلس النواب الأمريكي ليس هو من يشكل الحكومة كما هو الحال مع مجلس النواب، بل السلطة التنفيذية (وهو الرئيس الأمريكي) يختارها الناس في نظام تصويت آخر مختلف عن نظام كل من مجلس النواب والشيوخ. أوردت هذه التفاصيل كلها لأصل إلى النتيجة التالية: أن الديمقراطية البريطانية هي في التحليل الأخير احتكار دوري – كل خمس سنوات- لحزب واحد للسلطة بلا دستور، في حين أن النظام الأمريكي المنظم في دستور واضح هو نظام يتصارع فيه الحزبين باستمرار وبسبب طريقة بنائه لم يحدث أن استولى حزب واحد على الكونجرس والرئاسة لأكثر من سنتين. وهكذا، فإن أول أداة تستطيع بها أغلبية الناس التخلص من حكومتهم سلميا عبر صندوق الاقتراع تم تفريغها من كل معنى في هذا النظام الانتخابي. هذا طبعا غير ما أوضحته المقاييس الحديثة التي تقيس مدى (قوّة الناخب) بحسب الدائرة التي يصوت فيها ومدى (المساواة بين الناخبين) في الدوائر المختلفة، الذي ينتهي إلى أن صوت ناخب في دائرة ما يساوي في قوته اربعين ضعفا لصوت ناخب آخر في دائرة أخرى.
ليس هذا فقط، بل حتى لو نظرنا إلى الأدوات الأخرى التي بها يستطيع الناس إسقاط حكومتهم سلميا، أو حتى التأثير عليها،نجد أنها مفرغ من محتواها أيضا. ففي دراسة ميدانية مقارنة نشرت قبل عدة سنوات حول مدى استجابة سياسات الحكومة للرأي العام في كل من بريطانيا والدنمارك في الفترة (١٩٧٠-٢٠٠٢)، توصل الكاتبان إلى نتيجة مفاده أن (أن استجابة ديمقراطيات المحاصصة لرأيها العام أعلى منه بالنسبة لديمقراطيات الأكثرية) وذلك نظرا لتمتع (الحكومة بأغلبية برلمانية في هذه الأنظمة (=بريطانيا)، تسهل من عزلهم عن ضغط الناخب). وغير كون الرأي العام البريطانيا ضعيف التأثير، فكذلك محاولات النضال السلمي ضد الحكومة- من مسيرات، ومظاهرات، واحتجاجات- أثبتت أنها لا تحمل أي معنى. فكلما شاهدنا أعظم مظاهرة في تاريخ لندن، والتي خرجت قبل سنوات معارضة للحرب في العراق، حيث قدر عدد المتظاهرين ٧٥٠ ألف متظاهر، إلا أنها لم تستطع أن تثن الحكومة عن قرارها. وهذه الأيام نشاهد المسيرات المناهضة لسياسات التقشف والتي لا تملك أي أثر على الحكومة.
هذه ليست تبريرا لأعمال الشغب القائمة هناك، بل هي محاولة لفهمها ضمن الإطار الذي قلما وضعت فيه، أعني الأطار السياسي. فإذا سلمنا بتعريف بوبر للديمقراطية، أي ذلك النظام الذي يسمح بالاطاحة بالحكومة دون إراقة دماء، فإن بريطانيا، مع كونها ذات نظام انتخابي، إلا أنها قطعا ليست ديمقراطية. هذه الوضعية السياسية مضافا لها التآكل المستمر للطبقة الوسطى، وفضائح وسائل الإعلام التي تتجسس على مكالمات الناس، وسلوك الشرطة العنصري الذي انتهى إلى قتل الناس؛ كل هذا يفقد النظام كل معنى: يجعله عدميا. هكذا، لا يمكن لأي منا أن يتوقع سوى مثل هذه الاحتجاجات العنيفة المنعدمة المعنى أيضا.
جميل.. برأيي الديموقراطية كعملية كلها تتعرض للمساءلة في أوروبا على الأقل، دون نتائج أفضل طبعا
أرى جملة الأسباب منطقية لكن هناك نظام تصويت بديل طرح للإستفتاء، النظام البديل كان من شأنه أن يعطي تمثيلا أكثر عدالة، لكن الأغلبية اختارت بشكل غريب سريان القانون الحالي!
ويظل السبب غير واضح بالنسبة لي حتى الآن، وربما ألوم النظام الأسري والمجتمعي قليلا
اعتقد ايضا حتى جماعات الضغط في بريطانيا اصبحت مجرد ملحقات للاحزاب ولا تمتع بالاستقلالية والتأثير المتميز في النموذج الامريكي .