قد تطل من نافذة عمارتك لترى في المواقف شجارا بين رجلين. بعد دقائق، يدخل أحد زملاء شقتك لتسأله عن الذي حدث فيقول لك “الرجل ذو القميص الأحمر ارتطم كتفه بكتف ذو القميص الأبيض، فلكمه هذا وبدأت مشاجرة بينهما”. بعد دقائق أخرى، يدخل الزميل الثالث فتسأله عن الذي حدث فيجيبك إجابة أخرى “أن الرجل ذو القميص الأحمر مروج مخدرات جاء ليبيع بضاعته على زبونه ذو القميص الأبيض، فأبى هذا أن يدفع كامل المبلغ، فنشب بينهما خلاف أدى الى الشجار”. ما هي القصة الصحيحة؟ قد تكون إحداهما، ولو كان لك زميل شقة ثالث، لربما كانت هناك ثلاث قصص حول الحدث نفسه.
قد يكون المثال السابق رديئا، لكني أعتقد أنه كافي لتوصيل الفكرة التي أريدها: فما تسمعه ليس بالضرورة هو حقيقة ما تراه. والمؤرخون يفرقون دوما بين “الوثيقة” و “القصة المحكية” حول هذه الوثيقة. فمثلا، هناك قرية في الصحراء، هذا القرية أثرية، فهي كلها تمثل وثيقة عن الماضي. لكن درج رعاة الإبل الذين يمرون من هذه القرية على سرد قصة لها، قصة مفادها أنهم أهلكوا بإعصار شديد. دور المؤرخ أن يقوم بالنقد، والنقد هنا يعني إعادة كشف العلاقات بين القصة المحكية حول الوثيقة والوثيقة نفسها للتأكد من صحة هذه القصة أو نقضها. بعد أن بحثت في القرية، وجدت اعلانات كثيرة على جدران عن أن كاهن القرية حدد يوما للانتحار الجماعي وقام به كل اهالي القرية الذين وجدت رفاتهم في مكان ما، بالاضافة للسجل الجوي لهذه المنطقة الذي يبين أنه لم يكن هناك إعصار في تلك الفترة… كل هذه الأدلة والقرائن تتعاضد على نقض القصة السابقة للوثيقة من أجل أن تحل محلها قصة جديدة يعتقد المؤرخ أنها الأقرب لواقع الوثيقة وحقيقتها.
عملية النقد هذه، قبل أن تبدأ، وقبل أن تكون ممكنة، تشترط قدرة ذهنية على التمييز بين الحدث والقصة المرافقة له.
تجمع المصريين في ميدان التحرير رافعين مطالبات محددة، هذا هو الحدث. هناك قصتين: قصة الجزيرة: هؤلاء ثوار سأمو من الظلم فقرروا إسقاط دكتاتورهم. قصة القناة المصرية: هؤلاء مخربين ومجرمين يريدون بث الرعب واحراق المباني.
بدل التسليم لأي من القصتين، على الشخص الذي يحترم عقله واستقلاليته أن يقوم بعملية نقد لهذه القصص عبر مطابقتها بالحدث نفسه، عبر التفكير بمدى منطقيتها، وكذلك ربطها بمصالح السارد نفسه. فهل توجد مصلحة للحكومة المصرية من تشويه سمعة المتظاهرين؟ وهل توجد مصلحة للجزيرة من تلميع صورتهم؟…إلخ هذه الأسئلة.
قد يعتقد البعض أنه بمجرد كوننا نعيش في عصر الصورة والنقل الحيّ من مكان الحدث، أننا بتنا نرى الحقيقة مباشرة، هذا ليس صحيحا، فكل سرد للحدث هو ادماج لقصة فيه، ولا بد أن نكون حذرين في قبولنا لهذه القصص، ونقديين بالتعامل معها، خصوصا إذا كان مصدر هذه القصص حكومات مستبدة لا توجد لديها أي مصلحها في ابراز الحقيقة.
تقول حنة أرندت: “إذا كانت الفلسفة الغربية قد خلصت إلى أن الواقع هو الحقيقة- وهذا طبعا هو الأساس الأنطولوجي لأطروحة تطابق الفكر مع الواقع- فإن النزعة الشمولية قد استنتجت من ذلك أنه بامكاننا أن نصطنع الحقيقة طالما كان بإمكاننا اصطناع الواقع؛ الأمر الذي لا يجعلنا ننتظر الواقع حتى يكشف عن نفسه مبينا لنا وجهه الحقيقي، بل يمكّننا أن نخرج للوجود واقعا بمكونات معروفة لدينا منذ البداية… لأن الأمر كله من انتاجنا أصلا”.
سلطان أرجع للتويتر 🙁
كم تدفع؟ :p
أهم شي إنك بخير ورديت , خلاص مو لازم ترجع وسع صدرك ()
الله يسلمتس، ويعدي عنتس وتراي قريت الاشياء الثانية، ولا فيه ازعاج ولا شي..
اهم شي اني اجي على بالتس مع كل صلاة :p
أترك العلمانية تكفى :”( تخيّل مئة ألف مسلم يدعي عليك في جامع معروف !
أتمنى لك كل خير
نرى سلطان العامر خليط بين حنة وبوبر وعزمي،، متى نرى سلطان مستقلا ولو قليلا 🙂
إذا كنت تقصد بأن سلطان العامر محض خليط بين هذه الأسماء، فهذا غير صحيح. أما إذا كنت تقصد أنه شديد التأثر بهم، فهذا صحيح.
وإذا كنت تقصد بأن سلطان العامر عليه أن يكون “مستقلا” أن هذا يعني ألا يتأثر بأحد، وأن يكون منفصلا عن كل من يقرأ لهم، فهذا النوع من الاستقلال غير موجود أبدا، ومن يدعيه إما مجنون أو مغرور. كلنا عبارة عن تفكير مع الاخرين الذين أثروا بنا ونقرأ لهم.
لا توجد حقيقة كاملة ، يوجد حدث و تبنى عليه قصة على حسب أراء و ثقافة و مصالح الشخص في الحدث -أو حتى توقعاته-. فالأمر يعود لك و لفكرك في تصديق أي من القصص .
و الخلاف بين الجزيرة و القناة المصرية – قصتين في مكان واحد – و إصرار كلتاهما على صحة خبرها يحتاج كما قلت لتفكير عقلاني و منطقي لفهمها .
كنت أتساءل لماذا معظم القصص على حدث تختلف بين الرواة ، و عدم قبول الرواة بقصص غير التي يروونها….لكن باسكال فسّرها بقوله:مرض الإنسان الطبيعي إيمانه أنه يمتلك الحقيقة .
حسبت انهم التفتوا لك على تويتر ، لأن تقفيل البروفايلات السعودية نشطانة هاليومين على قولتهم. بس شكلك قافلة من نفسك 🙂
أطروحتك تنتهي نهاية نسبوية، أي أن الحقيقة نسبية. والقول بنسبية الحقيقة يعني القول بانعدام وجود العالم.
هناك حقيقة، وحقيقة كاملة. لكننا نعجز عن إدراكها.
قد ترين أنه لا فرق بين ما قلته أنا وما قلته أنت، لكن باعتقادي أن هناك فرق جوهري.
عندما نقول: لا توجد حقيقة كاملة، وكل منا يبدع حقائقه.
يعني أنه لا يوجد عالم موضوعي واحد، يجمعنا، لكن يتحول العالم إلى محض “اختراع انساني” وكل انسان يخترع عالمه الخاص، أي حقائقه الخاصة. وبالتالي يصبح الحوار لا معنى له، لأننا لا نتكلم عن نفس العالم. بل تصبح اللغة نفسها لا معنى لها، لأن كل شي يقوله الفرد إنما هو انعكاس ذاته هو، لا علاقة لها بأي شيء يجمعنا به.
لكن عندما نقول: هناك حقيقة، لكننا نعجز عن إدراكها.
فهذا يعني أمر مختلف، يعني الاعتراف بنقصنا وعجزنا، ويعني كذلك الاعتراف بعالم واحد نعيش فيه ويجمعنا، ونسعى لادراكه ونختلف في ادراكه، ونكتشف اخطائنا من بعضنا عبر الحوار والنقاش والتواصل.
أخيرا، إيه أنا قفلته بكامل قواي العقلية وبمحض إرادتي، ودون أي إجبار من أي جهة أو سلطة أو حكومة ما
وشكرا لمرورك يا طويلة العمر
لا يوجد قصه صحيحه ، أو “حقيقة” لحدث. فلنفرض أن كلا الرجلين لم يكذبا أبداً وسئلنا الرجل ذو القميص الأحمر ماذا حدث؟ ، فقد يعطي جواب مخالف تماماً لجواب الرجل ذو القميص الأبيض بالرغم أنهم من شاركو بالحدث نفسه . وسبب إختلاف جوابهم ليس شرط أن يكون بسبب مصلحة من أعطى الجواب أو بقصد تشوية صورة الآخر ، لأن كما أفترضنا لم يكذبو أبداً فكل منهم أعطى جوابه عما حدث بصدق – لكن سبب إختلاف جوابهم هنا هو أن الحدث نفسه ليس له نسخه “حقيقيه” يمكن الوصول له . فكل “حقيقه” هي مجرد مفهوم الشخص له .
وبناء على ذلك ، وجود “الواقع” بشكل واحد مجرد وهم ، وفكرة أن المؤرخ ينظر للوثيقه والقصه المحكيه بشكل نقدي حتى يستنتج “حقيقة” الحدث فكره وهميه أيضاً لأن مايستنتجه فقط قصه محكيه أخرى ، مبني على فهمه لواقع الحدث الذي يزعم بأنه أستنتجه من مزيج بين الوثيقه ، القصه المحكيه ، وتحليلاته النقديه لكليهما .
في ردي على التعليق السابق، أجبت عن معضلة “النسبية” التي يتضمنها ردك هذا.
لا أستطيع أبدا فهم لماذا ننسى مدى نقصنا في فهم الأشياء، لنتجاوز هذا الأمر فنتهم العالم بأنه غير موجود أو ليس له شكل واحد.
المؤرخ يستطيع بالوثيقة نقض القصة السابقة، وما يقدمه ليس هو القصة “الحقيقية”، لكنها قصة يزعم أنها أقرب للحقيقة – الواحدة هنا، لأن شيئا ما حدث للقرية وهو شيء واحد- من تلك التي نقدها.
هلاويين …
وماذا اذا تعاملنا مع الحدث أو الواقع بأنه صور فقط ماذا سيكون الامر ؟
إذا تعاملنا معها على أنها صور، ستتحول مسألة الاختيار بينها مسألة ذوقية محضة، أو مسألة مزاجية، طالما أن لا شيئ يميز الصورة عن غيرها سوى شكلها، لا منطقيتها، ومدى مقاربتها للواقع..إلخ.
تهج تسذا بلا إحم ولادستور !!
شفتي شلون :$ ؟
ابشوف وش غلاي عندتس :$
الله لايبين غلاك 🙁
وانا عرفت إن مالي قدر ولاقيمة :”(
وش دعوا،
شيكي الفيسبوك حقك وبتعرفين انه لتس مقدار وقيمة.
*ذكري بذكرك إذ يستذكر الذكر .. انادم الكاس لا حباً بخمرتها
فطعم كأس النوى منذُ غادرت مرّ *
قد يبدو ذلك البيت محط حدث وقصه ووثيقة وإلياذه وووو, عندما تمتاز مشيئة الذاكر بسحر ذكره , كسلطان الحديث والحدث والحادثة :$ مثلاً يعني !
ثُم .
* مازلت أؤمن بالإسقاط الذاتي خلف كل ذكر ..! وأن الحقيقة من ذات الإنسان وحده ,! لو تبنت المحطات العرض فقط وأطلقت لعنان المشاهد التأويل لقادت الإنسانية ثورتها دون راية استرباب واستوحاد لرب الدماء من أجل الجنة .!لكن متى تمنح السُلطات الحياد ؟..
حاضرنا أزمة تضليل الجموع , أزمة التلقي ! أزمة خلق الفكرة قبيل العرض ..! ويا ليت العكس صحيح .!
* ماأعرف ليش جاء ببالي وأنا أقرأ بدايتة حديثك , قصه يوسف مع سيدتنا زليخة !!, واسترسل خيالي لو كنت شاهده وقاصه وراوية للقصه .! الأكيد أني سألحق بزليخه روح الطُهر -! تباً للمتشابهات ..!
فعلا ليس من سمع كم رآى