-١-
تلخص حنة أرندت الدافع الذي من أجله قام هيرودوتس- (أبو التاريخ) كما يسميه شيشرو- بكتابة تاريخ “الحروب الفارسية” بأنه أراد أن (يحتفظ بما يدين بوجوده للناس، خشية أن يتم طمسه من قبل الزمان، وليسبغ على الأفعال المجيدة والجميلة التي قام بها كل من الإغريق والبربر ما يليق بها من الإنعام، حتى تضمن تذكرها من قبل الأجيال القادمة وليصبح مجدهم مشعا عبر الأجيال) (Between Past and Future, 41).
على العكس من المؤرخ الحديث، كان المؤرخ القديم يرى دوره محصورا بتخليد الأعمال العظيمة، الأعمال التي لا تستطيع بنفسها الخلود، لكنها دوما بحاجة إلى المؤرخ أو الشاعر لتخليدها، وذلك عبر إدماجها في (الذاكرة). كيف يمكن أن تخلد لنا مقولة عظيمة كمقولة عمر بن الخطاب (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟) لو لم يكن هناك مؤرخين وجدوا أن من صميم عملهم إدراجها في الذاكرة.
إن من طبيعة أقوالنا وأفعالنا أنها زائلة. تمحي من الوجود بمجرد أن ننطق بالكلمة أو نقوم بالفعل. فهي ليست باقية كالجبال مثلا، التي يولد أحدنا ويموت وهي راسخة في مكانها لا يتمكن منها الزمان. أقوالنا وأفعالنا، لا تستطيع حتى أن تبقى مثلما تبقى (صناعاتنا)، Continue reading