باعتقادي أن سؤال العنوان بهذه الصياغة: واضح، لكني أعرف جيدا أننا غالبا لا نقرأ ما هو مكتوب أكثر من قراءتنا لما نفترضه خلف الحروف المكتوبة أمام أعيننا. فالسؤال يقول “هل قتل”، إذن هو محصور بحادثة القتل نفسها، لا تسأل عن الثورة ككل، وإنما عن هذه اللحظة التي حدثت البارحة التي تم فيها قتل القذافي. وهو تساؤل لا ينمّ عن كثير حزن على القذافي، بل لا أخفي سعادتي من اختفاءه من عالمنا. أخيرا، وقبل أن أدلف إلى الموضوع، فيجب أن أؤكد أنه: لا، لا يمكن الجمع بين الإجابتين، كما سنرى لاحقا.
عندما تم إعدام صدام حسين، كان واضحا وجليا لحظة إعدامه أنه أعدم باعتباره “سنيا” لا باعتباره “ظالما”؛ وهذا الاعتبار مهم جدا ليس من أجل تمجيد المقتول، بل لتحديد موقفنا من القاتل. فقاتل الظالم، وإن أخطأ بقتله، إلا أنه مهما جُرّم بقتله، سيعتبر محاميا عن العدالة؛ لكن الذي يقتل لأجل طائفته هو أحقر بكثير من قتيله لأن الأخير قام بكل فضائعه لسبب يمكن ادراكه، وهو الحفاظ على الكرسي، في حين أن الأول قام بالقتل من أجل خرافة كبرى اسمها “طائفة”. ولأجل هذه الخرافة لم يتم الهتاف لأجل “العراق” عند قتله، بل هتف لأجل “مقتدى”. وكانت هذه اللحظة، أعلى قمة القطيعة مع العهد البائد بقتل رأسه، فاضحة في عريها عما تحبل به الأيام المقبلة عن دولة صمتت فيها كل اللغات ما عدا لغة الطائفية.
ما حدث البارحة للقذافي هي عملية قتل أسير بعد إلقاء القبض عليه. مهما تمت شيطنة القذافي، فلن يتحول أبدا إلى شيطان، وبالتالي عندما يؤسر فلن نتوقع من آسريه إلا التعامل معه كما يتم التعامل مع أي أسير. فكيف بآسريه وهم يقدمون لنا باعتبارهم “ثوارا”؟ الثائر على الظلم إنما يثور لسبب بسيط وهو أن الظالم لا يراعي أي حرمة بينه وبين الآخرين: يقتل هذا، ويسجن ذلك، دون أي أسباب أو قوانين أو غيرها. والثورة عليه لم تكن يوما تعني الأخذ بالثأر، بل تعني تحديدا التخلص من نظام ظالم واستبداله بنظام جديد عادل، يبدأ عدله بالاشعاع لحظة مفاصلته مع النظام القديم، بالتعامل معه ومنحه من العدالة ما لم يمنحها هذا النظام لأحد عندما كان حاكما. ولكن “الثوار الليبيين” لم يكونوا “ثوارا” بقدر ما كانوا “مجاهدين”، يقاتلون نظاما “كافرا” لديهم أعداد متكاثرة من الفتاوى تبيح لهم دماء أزلامه وأمواله، ليس آخرها إلا فتوى القرضاوي على شاشة الجزيرة.
فرق المجاهد عن الثائر، أن الثائر يضحي بنفسه لأجل أن تحظى الأجيال القادمة بمستقبل أفضل تعيش فيه، في حين أن المجاهد يضحي بنفسه لأجل عالم آخر يرفل فيه بالنعيم، لهذا بالضبط فإن “الثورة” ظاهرة علمانية، لأنها تتجه صوب المستقبل الدنيوي لا العالم الأخروي. عندما يتخلص الثائر من النظام القديم فإنه “يعفو” في أشد الأحوال أو يقدم المجرمين للعدالة في أسوأها، ذلك لأنه مشدود للمستقبل، وما يربطه بالماضي هو ما يربطه بكل ما يقطع معه من أجل ما يريد أن يبنيه. في حين أن المجاهد الحديث- إذ أن هناك دوما فارق بين الجهاد الحديث والجهاد القديم- عندما ينتصر: “ينفذ حكم الله”، فيقتل من دمه مباح ويسلبه أمواله، وهذا بالضبط ما يفسر الاخبار الكثيرة عن “تعديات حقوق الانسان” واستباحة قصور وبيوت أعضاء النظام المنهار، بالاضافة إلى هدم أضرحة وقبور.
قال أحمد مطر مخاطبا النخبة السياسية العراقية الحالية بعد صدام حسين:
“انتم جميعاً سفـلة
وغداً حين ستطوى صفحات المهزلـة
وتساقون الـى مزبلة
ان رضيت أن تحتويكم مزبلة!
سوف لن تبقى لكم
فوق شفاه الناس الا جملة منتحلة
من مواريث قبيح….قبحكم قد جمله
هي هذيه المرجلـة”
كنت مستغربا جدا عندما تحدث مصطفى عبدالجليل عن “متشددين إسلاميين” في صفوف الثوار عشية سقوط طرابلس، لكن يبدو أن ذلك الشيخ القانوني كان يعرف جيدا عما يتحدث. ما حدث للقذافي هي جريمة قتل أسير، وما لم يقم المجلس الانتقالي بمحاسبة المجرمين، فإن هذه اللحظة التي هي قمة الانفصال مع النظام السابق عبر القضاء على رأسه، لن تعكس لحظة القضاء على “الظلم”، بقدر ما ستكون لحظة القضاء على “الكفر”… ومثلها ككل الأعمال المؤسسة في التاريخ ستحمل عواقبها معها حتى النهاية، ما لم يتم تداركها. وجلّ ما أخشاه هو أن يكتب أحمد مطر مخاطبا الليبيين: أن ما سيتذكرهم به التاريخ، كلمة منتحلة، من مواريث قبيح قبحهم قد جمله، أنهم كانوا فعلا “جرذان”.