يمكن اعتبار توفيق السيف منظرا أساسيا لما يدعوه هو بـ”المسألة الطائفية” أو “المسألة الشيعية” في السعودية، حيث قام بتقديم آراء صلبة وعميقة حول الموضوع ترتفع به عن محض السجالات المذهبية والأفكار المؤمراتية الساذجة. كتب توفيق السيف ورقتين: الأولى هي “المسألة الطائفية: بحثا عن تفسير خارج الصندوق“، عرض فيها رأيا عاما حول المسألة الطائفية في العالم العربي، والثانية هي “المسألة الطائفية في المملكة: دعونا نتجاوز الفشل“. وسأقوم هنا بمناقشة السيف انطلافا من المسلمة رقم واحد التي تنطلق منها أطروحته حول “المسألة الطائفية” في السعودية، أي: هل هناك فعلا مثل هذه المسألة؟
يمكن باقتضاب تلخيص أطروحة السيف حول موضوع “المسألة الشيعية” في السعودية، بأنها مسألة حرمان حقوق مدنية وسياسية على أساس تمييز طائفي، وبالتالي فإن المطالبات السياسية الشيعية في السعودية تبرز باعتبارها ليست كحركة انفصالية، بقدر ما هي حركة حقوق مدنية تهدف إلى إلغاء التمييز الطائفي.
نقطة اعتراضي هنا هي جوهرية، فأنا أدعي أنه لا توجد “مسألة شيعية” في السعودية، ولا يوجد أي مبرر لما يسميه السيف “مطالب خاصة” للشيعة، تختلف عن “المطالب الوطنية”. لنتعمق أكثر بالموضوع، فالانطلاق من مسلمة وجود “مسألة شيعية” متركزة حول تمييز طائفي على الحقوق المدنية والسياسية، يعني أحد الأمور التالي:
١- أن (غير الشيعة) في السعودية ينالون حقوقهم السياسية.
وهذا كلنا نعلم أنه غير موجود، فكل الشعب السعودي محروم سياسيا. فلا يوجد أي مبرر لتمييز الشيعة في هذا الموضوع بأي حال من الأحوال.
٢- أن الحقوق المدنية (من الاستفادة من الخدمات الحكومية، إلى تسلم المناصب في الدولة) في السعودية تقدم على أساس طائفي.
وهنا يجب أن نفرق بين مجالين: المجال الأول هو المجال النظامي، والمجال الثاني هو مجال الممارسات. فمن الناحية النظامية لا يوجد أي نظام في السعودية يمكن وصفه بالطائفي، أي نظام يقوم بالتفريق بين المواطنين على أساس طائفي، أو يضع تعريفا قانونيا لمن هو الشيعي، أو مثل هذه الأمور. لا يوجد في السعودية قوانين مماثلة لقوانين الابارتهايد، أو قوانين النازية المعادية للسامية، أو حتى قوانين الفصل العنصري التي كانت موجودة في الولايات الجنوبية من الولايات المتحدة الامريكية والتي أزيلت عبر (حركة الحقوق المدنية). وإذا كان هناك تمييز في الأنظمة السعودية، فهو ليس ضد الشيعة بقدر ما هو ضد المرأة. إذ أن الأنظمة صريحة في التعامل مع المرأة باعتبارها مواطن من الدرجة ثانية.
أما من ناحية الممارسات، أي ممارسات أفراد موظفي الدولة، فهنا قد توجد ممارسات طائفية، وقد تكون هذه الممارسات أكثر من تصرفات فردية إلى تصرفات جماعية. لكن هذه الممارسات لا تبرر ابدا القول بوجود “مسألة شيعية” ووجود “قضايا خاصة” للشيعة تختلف عن باقي افراد الوطن. ذلك، لأن هذه الممارسات تنتمي لنفس الصنف الذي تنتمي إليه ممارسات التمييز الذي يجده البدوي من الحضري، والحجازي من النجدي، والشمالي من الجنوبي وغيرها. أي أنها “مسألة اجتماعية” أكثر منها مسألة “سياسية”، تعود بجذورها وأسبابها إلى حقيقة أن المجتمع السعودية هو مجتمع منقسم في أساسه ولم يتم جمعه داخل وحدة سياسية واحدة إلا في اللحظة التي انتقل فيها من مجتمعات تقليدية إلى مجتمع حديث في بيئة دولة ريعية، أدى في النهاية إلى انعكاس الخلافات الاجتماعية إلى ممارسات تمييزية بكافة انواعها. ومهما يكن من أمر، فإن التمييز ضد الشيعة لم يصل إلى حد صدور أحكام قضائية ضدهم على أساس المذهب، مثلما حدث مثلا إلى الخضيريين (وأنا واحد منهم) الذين يتم تطليقهم من زوجاتهم بأحكام قضائية على أساس أنهم خضيريين. لكن أحدا من الخضيريين لم يبدأ بالحديث عن (مسألة خضيرية) تميز الخضيريين كمجموعة سكانية عن غيرهم، بل إن كل الحديث انحصر حول القضية نفسها، أي قضية (تكافؤ النسب) دون أن يستنتج منها أحد أن الخضيريين أقلية لها (مطالبها الخاصة) التي تختلف عن المطالب العامة.
٣- أن الشيعة يتعرضون لتضييق في حرية الممارسات الدينية.
هذا صحيح، لكن لا يمكن بأي حال تسمية “تضييق الحريات الدينية” في السعودية بأنها مسألة طائفية، أو تبيح الحديث عن وجود “أقلية” متمايزة، أو الكلام عن “مطالب خاصة” لحركة حقوق مدنية تدمغ بوصف “شيعي”. في السعودية يوجد “تضييق” للحريات الدينية، ولكن لا يوجد قمع. فالسعودية في التحليل الأخير دولة وهابية، لكنها ليست دولة طائفية. أي أنها تقوم بدعم واعتماد الوهابية كأحد مصادر الشرعية، لكنها لا تشترط الانتماء إليها في أي من قوانينها للوصول إلى مناصب محددة، مثلما هو الوضع في لبنان أو إيران التي يتم اشتراط اشتراطات مذهبية محددة بين الدولة والمواطن. وهي عندما لا تدعم المذاهب الأخرى- الشيعية والاسماعيلية والصوفية- لا تقمعها، لكنها فقط لا تدعمها ولا تعترف بها.
هذه مشكلة مهمة، ولابد أن تحل، لكنها أيضا ليست مشكلة “طائفية” إذ كما أنها لم تؤدي إلى نشوء “مسألة صوفية” و”مسألة إسماعيلية” فلا معنى أبدا من الاستنتاج من تضييق الحريات الدينية أن هناك مشكلة طائفية. إذ أن المشكلة الطائفية تنشأ في المجال السياسي، عندما تشترط الدولة شروطا طائفية لعلاقة المواطن بها، مثل حالة لبنان، والتي لا يوجد فيها تضييق للحريات الدينية. فمشكلة الحريات الدينية مفصولة عن المشكلة الطائفية.
وهناك من السعوديين من هو ملحد أصلا، وهناك من يتبنى آراء دينية سنية مخالفة للوهابية، وهناك من تحول إلى المسيحية والبوذية… وهؤلاء يعيشون قمعا دينيا واجتماعيا وسياسيا لا يعاني منه الشيعة ولا الصوفية ولا الاسماعيلية.
هذه هي المجالات الأساسية التي يتم بها تبرير وجود مسألة شيعية أو طائفية في السعودية، وهي كما رأينا انتقائية أو وهمية، أو خلط بين ظواهر مختلفة. ولكن، كيف نفسر شعور الشيعي الداخلي بتميزه وباختلافه وعن وجود وحدة من نوع ما مع إخوته الشيعة وتميزه عن غيرهم؟
على الرغم من هذه المسألة لا علاقة لها بكافة المشاكل التي تندرج تحت موضوع الاقليات والتمييز الطائفي، إذ أن الآمش أو المورمن في أمريكا يشعرون بهذه المشاعر لكنهم لا يرفعونها لمستوى “المسألة الطائفية”، وكذلك أبناء قبيلة عتيبة، وأبناء مدينة بريدة. هذه الظاهرة هي نتيجة طبيعية لظهور الدولة الحديثة وتفكك المجتمع التقليدي.
فعندما تظهر الدولة الحديثة، فهي ترفض أن يتواجد فيها “أمة داخل أمة”، فتنزع إلى مساواة الجميع أمامها (المساواة في أن يكونوا جميعا محكومين، لا أن مساواة أمام القانون). بالاضافة إلى أن تغير وسائل الانتاج والعمل والتصنيع، تزيد معدلات الهجرة وتغير التوازنات الديموغرافية، مما يؤدي إلى تفكك الجماعة التقليدية: فتتفكك القبيلة والقرية وغيرها، وكردة فعل نحو هذا التفكك الذي لا يصاحبه عادة انفتاح في المجال العام وصناعة هوية وطنية، تنشأ ردات فعل ايديولوجية تسعى إلي ربط أبناء الجماعة ربطا يختلف عن الروابط التقليدية العفوية التي كانت متواجدة في السابق: فتنشأ ظواهر طائفية وقبلية. وفي حالة الشيعة، فإن شيوخ المذهب ورجالاته، مثل شيوخ القبائل وغيرها، قاموا بحماية الجماعة من الاندماج خشية على المذهب. وينتج عن هذا السلوك عادة تبادل الاستنفاع من الخطاب الطائفي: تبث الدولة أو الطائفة المذهبية الأخرى خطابا طائفيا لمصالحها، ويستفيد منه معارضي الاندماج من داخل الطائفة لحماية أفرادها من الاندماج، فينشأ من الطرفين جدار طائفي يخلق نوعا من الشعور بالاختلاف أو التهميش الاجتماعي، وهذه الظاهرة يمكن أن تتحول إلى حركة سياسية أو جماعة سياسية، لكن هذا التحول لا يعني بالضرورة وجود تمييز ضدهم، بل هو استجابة لفشل الدولة في صناعة هوية جامعة، ولعدم مقاومة الخطاب الطائفي والوقوف ضده.
إن التأكيد المتكرر على وجود مسألة شيعية متميزة، و (مطالب خاصة) للشيعة تختلف عن (مطالب عامة)، أو تصوير أن هناك تاريخ خاص للاضطهاد الشيعي في السعودية، كل هذا الخطاب هو (الطائفي)، وهو الذي يقسم المواطنين بناء على طوائفهم أكثر مما تقسمهم الدولة التي لم تعدل بينهم في شيء كعدلها في توزيع المظالم بينهم.
كثيرا ما أقرأ في تويتر تصوير ما يحدث في القطيف أنه “اضطهاد للشيعة” وليس “اضطهادا للمواطنين في القطيف”. هذه الصورة تعزل القطيف عن غيرها، وتعزز الوهم الطائفي بوجود مسألة شيعية، وتفيد الدولة أكثر من غيرها.