في مقالة بعنوان (تصوير خاطئ للخصوصية السعودية)، كتب علي العميم قائلا: (…أن السعودية في حاضرها وماضيها القريب، على مستوياتها الآيديولوجية، لم يوجد فيها -بتاتا- تيار يميني فاشي). لم تمض على هذه المقولة ثمان سنوات إلا وها نحن ذا نشهد تخلق وولادة هذا التيار اليميني المحافظ -والذي لم يصل بعد لقمته الفاشية- بيننا. وبشكل عام، يظهر هذا التيار على السطح بعد حدوث حدث تاريخي كبير كالثورات والأزمات الاقتصادية والهزائم العسكرية. فالمحافظة الانجليزية تشكلت كردة فعل على الثورة الفرنسية وخصوصا في كتاب إدموند بيرك (انعكاسات الثورة الفرنسية)، والحزب النازي تشكل عقب هزيمة الحرب العالمية الأولى والأزمة الاقتصادية التي لحقت بها والتي أصابت جمهورية فايمر بالعجز. وفي أمريكا، ازدهرت المكارثية في الخمسينيات والستينيات الميلادية بعد التهديد الذي مثلته الشيوعية. وها نحن ذا نشاهد صعود (حزب الشاي) اليميني الراديكالي في أمريكا- الذي حجز له مكان واضحا في انتخابات الكونجرس الأخيرة- كردة فعل على الأزمة الاقتصادية. ومع الثورات العربية الأخيرة، نستطيع تلمس ومشاهدة تيار يميني محافظ يتشكل أمام أعيننا يتكون من مجموعة من مثقفي التكنوقراط ولبراليين سابقين ومجموعة من الشباب في الشبكات الاجتماعية والمنتديات على الانترنت، هذا التيار الذي يشق طريقه بين التيارات السعودية كتيار رابع إلى جانب الإسلاميين واللبراليين والتنويريين.
ولنفهم موقف المحافظين عموما بدقة، علينا أن نرجع إلى ورقة (معنى أن يكون المرء محافظا) حيث يصف فيلسوف المحافظة الحديث مايكل آوكشوت المحافظ بكلمات دقيقة وواضحة بقوله (أن تكون محافظا، يعني أن تفضل المألوف على المجهول، المجرب على غير المجرب، ما هو واقع على ما هو غامض، المتحقق على المحتمل، المحدد على المهلهل، القريب على البعيد، ما يكفي على الفائض عن الحاجة، المريح على الكامل، الضحكة الحالية على النعيم الطوباوي). وبكلمة واحدة، تصبح الصفة المركزية للمحافظ هي الشعور بالتهديد وممانعة التغيرات المفاجئة والسريعة والراديكالية، يظهر المحافظ على السطح عندما يشعر أن عالمه الذي ألفه بات مهددا. وعلى الرغم أن بنية المحافظة واحدة في كل مكان، إلا أنها تتشكل في كل مكان بحسب ألوان وأصباغ هذا المكان الثقافية والتاريخية الخاصة به. وانطلاقا من أن التيارات السعودية بشكل عام تتحاشى الحديث عن قضايا الحيز العام، منشغلة بتسييس قضايا الحيز الخاص وبعض القضايا الدولية والصراع حولها، فإن التيار المحافظ ليس استثناء عنها ولن يعلن عن نفسه إلا عبر هذه المواقف والقضايا.
وكما قلنا، السمة المركزية للمحافظة هي رفض التغييرات الجذرية والاستعاضة عنها بالتغيير التدريجي والبطيئ. فالمحافظ لا يناقش كثيرا في المظالم والمفاسد الموجودة ويقر بها سريعا، لكنه فقط لا يقبل التضحية بكل ما يألفه من أجل مزيد من العدل والحرية. لهذا ينحاز ويحامي عن التغيير البطيء المتدرج، التغيير الذي يحافظ قدر الإمكان على ما يألفه في نفس الوقت الذي يحل فيه ما يشاء من مشاكل. لا يهم كثيرا لديه مدى إلحاح هذه القضايا وحاجتها لحلول سريعة فورية، لا يستطيع استيعاب لا عليه أن يقبل أن يسلم عالمه ككل للمجهول فقط لأن جانبا واحدا من هذا العالم بحاجة لحل فوري. تجده يؤكد مرارا، على أن الثورات لم تأت دائما بعالم أفضل، فالثورة الفرنسية انتهت بعهد الارهاب، والانقلابات العربية في منتصف القرن الماضي انتهت بحكومات عسكر، ويستمر في سرد الكثير من الحالات التي ينتقيها من التاريخ مغفلا أن الثورة الامريكية أنتجت هذه الدولة التي استمرت لأكثر من قرنين من الزمان، وأن ربيع الشعوب في اوروبا الشرقية أدى إلى تحولات ديمقراطية، فالتاريخ ليس علما طبيعيا حتى يمكن استخلاص قوانين له. وفي غمرة دفاعه عن (التغيير البطيء) لا يخبرنا المحافظ أبدا عن مقياس البطء هذا، وعن خطواته ووسائله، لينتهي به الأمر إلى محض رافع لشعار (التغيير البطيء) الخالي من كل معنى ليضعه في وجه أي محاولة للتغيير.
التيار المحافظ يمانع كل أنواع التغيير، وليست فقط محاولات التحول الديمقراطي، بل حتى محاولات الإسلاميين للتحول نحو الدولة الإسلامية. فالمحافظ شيء والإسلامي شيء آخر، إذ أن الإسلامي مثله مثل التقدمي واللبرالي يرفض الحاضر ويريد تغييره، والمحافظ يقف أمام هؤلاء جميعا مناصرا للحاضر منحازا إليه حاميا له. والحاضر هنا ليس كلمة فضفاضة لا تعني شيء، بل تعني مجموع المؤسسات التي تعيد انتاج والحفاظ على بقاء هذا العالم الذي يألفه المحافظ، كالمؤسسات والأعراف الاجتماعية، والدولة التي تحمي هذا كله وتسعى لإبقاءه كما هو.
عادة ما يصاحب ظهور اليمين المحافظ نزعة قومية أو وطنية شوفينية، لا ترى نفسها بأنها جزء من مجموع تيارات هذا الوطن وتمظهراته، بقدر ما ترى نفسها أنها هي من يمثل الوطن، أن الفرق بينها وبين غيرها ليس فرقا في البرنامج والأفكار والايديولوجيات، بل هو فرق بين من هو (سعودي) ومن هو غير ذلك، والذي إن لم يكن خائنا فهو ناكر أو متخاذل أو مشبوه. ولأن الدول العربية عبارة عن أقطار تمثل جانبا من الأمة العربية لا كل هذه الأمة، ولأنها لم تستطع أن تحول حدود أقطارها إلى حدود مواطنة كاملة الحقوق والمشاركة فيها، فإن الهوية التي تضخها لشعوبها تصبح هوية هشة لا تستطيع مقاومة إغراء المناطقية والطائفية التي سرعان ما يقوم التيار المحافظ بدمجها داخل تعريفه الخاص للسعودي… فنرى بسهولة كيف يحرم ابناء المذاهب الاخرى من وطنيتهم، ونستمع لتقسيمات عجيبة للبشر بحسب مناطقهم وتشكيك في ولاءاتهم.
إن الولع بالجديد والتغيير فقط من أجل التغيير، هو الوجه الآخر للمحافظة والإبقاء على الوضع القائم هلعا من التغيير فقط لكونه تغيير. كلا الموقفين لا يران الصورة بكاملها، بل يكتفون بالتمحور حول فكرة التغيير نفسها. وهذه الصورة، التي تدفع البشر للتغيير، هي عدم ثقتهم بأن ما يعيشون فيه سيستمر طويلا، فيهبون لإيجاد عالم مناسب، يستطيع الاستمرار طويلا، عالم يجد فيه أبنائهم الذين لا توجد أي ضمانات أنهم سيكونون مثلهم مكانا لهم لا يظلمون فيه ولا يؤذون.