نايف السلمي
27 مارس 2012
لم أكن يوماً أحد المشاركين في ملتقى النهضة في أي من نسخه الثلاث الماضية, إلا أنني – ككثيرين غيري – كنتُ من المتابعين له و للأصداء التي تعقبه.
و كالعادة في مشهدنا المحلي فقد حضر هذا الملتقى كمادة نقاش و جدل و ربما تحزب بين أطياف مختلفة, أي أنه وقف في ذالك الطابور المعروف محلياً من الفعاليات و النقاشات التي تحول الموقف منها إلى ( سؤال محدد لتصنيفك ! ) و التعصب فيها ( دلالةً على صدق إتباعك و التزامك !
).
بداية أتصور أن الملتقى قد انتقل نقلتين مهمتين على مستويين اثنين :
النقلة الأولى كانت على المستوى الجغرافي : فمن نسخته الأولى إلى الثالثة يمكن القول أن ( خليجية ) الملتقى قد ازدادت على حساب ( محليته ) وذالك على مستوى الشباب المشارك و الاهتمام العام. و كم يبدو هذا مهماً و ربما فاعلاً في خلق ( مجتمع مدني خليجي ) أو ( كتلة شبابية خليجية فاعلة ) تضغط على حالة التباطأِ الرسمي الرهيبة في انجاز اتحاد خليجي منتظر منذ ثلاثين عاماً. كما أن هذا التداعي الخليجي إلى الملتقى ( مشاركةً و اهتماماً ) و التجاوب الشبابي الواسع تدل على تشابه قائم و حقيقي بين المجتمعات الخليجية و بالذات على مستوى ( بنيتها و أولوياتها ) الأمر الذي قد يؤدي إلى مسيرة متناغمة و متعاضدة بين المجتمعات الخليجية على ترقيها في استحقاقات من نوع ( مدنية المجتمعات و التحول الديمقراطي فيها ).
أما النقلة الثانية ( و هي مربط الفرس ) فقد كانت على مستوى التنوع ( الاجتماعي و الفكري ) : حيث أنه على مستوى المتحدثين بالذات انتقل الملتقى من ( إسلامي إصلاحي ) في نسخته الأولى ( تحدث هناك بشكل أساس سلمان العودة, محمد الأحمري, نواف القديمي … ) إلى تنوع ملحوظ و ربما استثنائي في نسختيه التاليتين حيث تحدث – أو هكذا كان مفترضاً – : عزمي بشارة, توفيق السيف, خالد الدخيل, هالة الدوسري و غيرهم.
وحول هذا التنوع يمكن تسجيل الملاحظتين التاليتين :
الأولى : يبدو أن هناك مسلمة كبيرة لدى القائمين على الملتقى و هي أن الإسلام لا يخشى فضاء الحرية, بل قد يكون الإسلام و المسلمون هم المستفيد الأول منه. و كم كان واضحاً حضور موضوع ( الحرية ) في أحاديث شيخ الملتقى سلمان العودة و بالذات تلك التي صاحبت و أعقبت الربيع العربي.
الثانية : أن إدارة الملتقى ترى في هذا التنوع انعكاساً و استجابة لتنوع موجود في الواقع, هذا التنوع منع أن يتحول الملتقى إلى مناسبة للتلقين التقليدي المشهودة في الثمانينيات و التسعينيات حيث الشيخ و حوله مريدوه يستمعون إلى المحاضرة. هذا التنوع في المجتمعات هو معطى طبيعي يمكن التعايش معه بل و التعويل عليه في إنتاج حالة من الحوار و الجدل تصقل به الأفكار و يتراكم الوعي و تقوى المجتمعات و الأوطان ( في دولة العدو الصهيوني مثلاً يتجادل و يتنافس الصهاينة في عداوة العرب و التنكيل بهم ).
و بهذا يمكن القول أن الملتقى حاول أن يكون ( مجتمعاً خليجياً مصغراً ) يتم فيه التخلص من الروابط الوشائجية الأولية ( قبلية, طائفية, جهوية … ) و التحول إلى مجتمع المواطنين الأحرار الذين يختارون انتماءاتهم ( الفرعية طبعاً ) قناعةً و حرية و هو ما يعني أهليتهم لبناء علاقاتهم التعاقدية و بالتالي ظهور مجتمع الحقوق المدنية و السياسية.
هذا التصور ( الخالِق لهذا التنوع ) هو في تصوري النقطة الأكثر سخونةً لدى المعترضين على إقامة الملتقى, فبإطلالة على بعض تعليقاتهم حول الملتقى يتضح أن رفضهم لمشاركة أشخاص بعينهم قد طغى بشكل كبير على رفضهم لمادة النقاش و محاوره ( فكرة المجتمع المدني مثلاً ). أي أنهم اتخذوا من رفض الأشخاص المتحدثين بوابةً لرفض أفكار الملتقى, و إلا لو رفضوا هذه الأفكار و الأطروحات ذاتها مع الإقرار بحق ( التعبير و الرأي للآخر ) لوصلوا بأنفسهم إلى الموقف الذي عبر عنه النائب الكويتي جمعان الحربش حيث ( رفض بعض أفكار المتحدثين في الملتقى و رفض منع السلطة للملتقى ). و هنا تحديداً نلحظ أنه قد عُمّد إلى التقاط بعض تغريدات و أحاديث بعض المشاركين في الملتقى و عرضها على الرأي العام تهويلاً منها و لاشك أن هذه الممارسة ليست أبداً ( نقاش مع الآخر ) بل تحريض عليه لتحييده و حصره و تحويله إلى كم بشري منزوع الوجود المدني و الفكري و السياسي.
إذن فهذه نازلة أخرى في مشهدنا المحلي ( معرض الكتاب, ملتقى النهضة ….. ) ميزها عن سابقاتها حدتها و تصديرها إلى الجوار الخليجي. نفس السيناريو, نفس الوجوه, نفس الأراء, نفس الرموز و نفس المواقف. و كأن الرفض و الرفض المقابل يتحولان إلى ( آيدلوجيا ساكنة و صلبة ) تمنح الإجابات و تحدد المواقف سلفاً. و لهذا أعتقد أننا بحاجة هنا إلى بعض المسلمات الفلسفية الأولى التي دُشنت بها عصور الفلسفة الحديثة و بالذات تلك التي تتعلق بالوجود الموضوعي ( لا الذاتي ) و المستقل ( لا التابع ) للحقيقة, و أن هذه الحقيقة متاحة ممكنة و متاحة للجميع كلٌ بحسب اجتهاده و نزاهته.
ثمة كرتان هنا, كل واحد منهما في ملعب :
الكرة الأولى في ملعب ( الرافضين لإقامة الملتقى ) : و هي أن استدعاء السلطة بهذا الشكل ليس ذكاءاً و لا حكمة أبداً, فطالما اكتوى بنار السلطة من كوى الناس بها ( أهل الحديث و المعتزلة في العصر العباسي ). كما أن هذا التجييش ضد الملتقى هو تدعيم لحالة الهيمنة الثقافية ( كما وصفها انطونيو غرامشي ) حيث تكون الثقافة أداةً لتكريس وضع قائم من خلال مراكز متعددة لهذه الثقافة ( المدرسة, الصحيفة المطبوعة, الإعلام, المؤسسة الدينية / الخطاب الديني ….. ) بدل أن تكون في وظيفتها الطبيعية أعني حماية الوعي العام من التزييف و الرأي العام من التهميش و الإقصاء. و إذا كان هذا الطيف يرى في رفضه للملتقى تعبيراً عن إرادته الخير بالمجتمع فإننا نستغرب من غياب صولته الباسلة عن الإعتراض على فعاليات من نوع ( مزاين الابل و شاعر المليون ) التي يعرف الجميع كم نبشت عن قبلية و أثارت من شرور !
أما الكرة الثانية فهي في ملعب ( القائمين على الملتقى و المؤيدين له ) : و هي أن توجيه الدعوة في النسخ المقبلة لرموز رفض الملتقى سيكون أمراً هاماً و مؤثراً. و بالرغم من القدر الكبير لتوقع استحالة التجاوب لمثل هذه الدعوة إلا أنها ستدل على قدر كبير من انسجام الملتقى مع مبادئه و قيمه, إنها الإثبات على وجوده كمنصة مجتمعية لحوار حقيقي حر و شفاف.
الملتقى كويتياً :
قبل عدة أعوام على إحدى الفضائيات كان أحد النواب الكويتيين يقول كلاماً معناه : ( إنني في الكويت استطيع انتقاد رئيس الحكومة و أكبر وزير في الحكومة … و اذهب لأنام في بيتي آمناً مطمئناً ).
بالرغم من كثير من النقد الذي قد يوجه للديمقراطية الكويتية المنقوصة ( صلاحيات الديوان الأميري في التعيين و حل البرلمان و تعطيل الحياة الدستورية ) إلا أنها تلفت الانتباه بالنسبة لما حولها من واقع عربي. و لاشك أن الملتقى كان محظوظاً بكون الكويت مكاناً لاختيار النسخة الثالثة منه و زماناً حيث كشفت الانتخابات الأخيرة و ما سبقها عن تصاعد حراك شعبي و نيابي يميل إلى معارضة سياسات الحكومة و مواجهتها و تصاعداً لحملات المحافظة على الدستور و تفعيله في الحياة السياسية الكويتية بقيادة نواب كبار كأحمد السعدون و مسلم البراك و غيرهم.
الدستور في الكويت ( الكافل للحريات ) هو الذي أنفذَ إرادة جمعية ( أو نادي ) الخريجين الكويتيين في إقامة نسخة معدلة من الملتقى ( ملتقى المجتمع المدني ). هذه الإرادة الكويتية لم تكن لحماية ملتقى النهضة فقط بل كانت لحماية قيمة كفلها الدستور الكويتي على أراضي الدولة الكويتية. إذن هو الدستور حيث يستطيع به المواطن و المجتمع تحديد ما هو الشرعي و غير الشرعي من سلوك السلطة تجاه الحيزين العام و الخاص, بل و متابعتها و محاسبتها. هذا العقد ( الدستور ) يجعل الدولة محتكر القوة الوحيد في حيزها لكنه في الوقت عينه قيد على سلطة هذه الدولة تجاه مواطنيها, بل إن الدولة بموجب هذا العقد ليست إلا فرعاً أو شكلاً لاجتماع المواطنين الأحرار و تجلٍ لوجود الأمة السياسي و ضامنة للحريات و العدالة.
إلا أنه ثمة علامة استفهام كبيرة حول موقف بعض النواب الذين سعوا لمنع إقامة الملتقى, حول انسجامهم مع المبادئ التي أوصلتهم ( بالانتخاب ) نواباً في قاعة عبدالله السالم. فالأمة الحرة و المواطنون الأحرار هم الذين يختارون نائباً ممثلاً لهم في الشأن العام و دور هذا النائب الأول هو أن يقوم بحماية حريتهم و حقهم في الاختيار, فما معنى أن يسعى هذا النائب اليوم إلى مصادرة حرية الناس, هل الديمقراطية تتحول لديه إلى مجرد وسيلة لكسب صراعات مع الخصوم و في حال عدم وفاء هذه الوسيلة بذاك الغرض فلا مانع أبداً من التحول عنها إلى غيرها ؟!
إن أي تقدم و صعود في الديمقراطية الكويتية سيكون ايجابياً لباقي الخليج, كما أن أي تراجع و انتكاس هناك سيكون سيئاً !