يمكن القول أن الكثير من المسائل التي تتعلق بالمرأة (حقوق، قيادة سيارة، وظيفة، دراسة…إلخ) تنطلق في جذرها من موقفنا من مسألة “مساواة الرجل والمرأة”. سأحاول في هذه التدوينة أن أسلط الضوء على الكثير من الخلط والتشويش الذي يقع فيه الكثير من الخائضين في هذا الموضوع سواء من رافضي المساواة أو مؤيديها.
وسأبدأ بالدفاع عن هذه العبارة “أنا أطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة”
أولا: المساواة لا تعني المطابقة:
عندما نقول أن الرجل مساوٍ للمرأة، فنحن لا نقول أن الرجل مثل أو مطابق للمرأة.
وهذا الخلط بين “المساواة” و “المطابقة”، هو الجذر الرئيسي لكافة صعوبة التواصل مع “رافضي المساواة”، ففي الوقت الذي تتحدث فيه أنت عن “المساواة”، يتحدثون هم عن “المطابقة” باسم “المساواة”. ولكن: ما هو الفرق بين “المساواة” و “المطابقة”؟ هل نحن هنا نتلاعب بالكلمات والألفاظ؟
سأوضح بمثال الفرق بين المفهومين: البرتقالة ليست مثل التفاحة. لكنها قد تكون مساوية لها في الوزن، أو السعر، أو غيرها من الخصائص.
فعندما نتحدث عن المساواة بين شيئين، فنحن نتحدث عن شيئين مختلفين بالضرورة. إذ لا يمكن أن نقول أن البرتقالة تساوي البرتقالة، لأنهما شيئان متطابقان فكونهما متساويان تحصيل حاصل.
فالتساوي إذن: ١- لا يكون إلا بين شيئين غير متطابقين. ٢- وهو إشارة إلى تساوي هذان الغير متطابقين في شيء أو أشياء مشتركة بينهما (سعر، وزن، حقوق، قانون..إلخ).
من هنا يصبح من يتحدث عن “المساواة بين الرجل والمرأة” ينطلق من هذين المسلمتين: ١- أنهما شيئان غير متطابقين (أي أن المرأة ليست مثل أو مطابقة للرجل). ٢- وأنهما متساويان في الأشياء التي يتشاركانها.
وجانب كبير من الخلط بين المفهومين هو أن من يطالب بالمساواة لا يحدد المساواة بماذا فيظن المتلقى أنه يعني بالمساواة المطابقة. ولهذا تصبح العبارة “المساواة بين الرجل والمرأة أمام القانون”، “المساواة بينهما في الأجور”، “المساواة بينهما في الحقوق والواجبات”، “المساواة بينهما في الفرص الوظيفية والتعليم”…إلخ.
وبالتالي، كل محاولة تنطلق من إثبات اختلاف الرجل عن المرأة، من أجل نقض المطالبة بمساواتهما، هي محاولة فاشلة، لأنها تثبت المسلمة الأولى التي تنطلق منها المطالبة بالمساواة. فمن يطالب بالمساواة، يطالب بها لأنه يعترف بوجود اختلاف، وبالتالي يصبح رفض مطالبته عبر اثبات وجود الاختلاف، هي محاولة لا معنى لها.
وخلاصة هذه الفقرة، تحتم علي أن أعدل عبارتي السابقة وأجعلها كالتالي “أنا أطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة أمام القانون”.
ثانيا: المساواة لا تعني العدل
المساواة لا تعني العدل بالضرورة. فالمساواة بين الرجل والمرأة في الإجازات في العمل هو ظلم، لأن المرأة تتعرض لحالات حمل وولادة وأمومة، فيصبح من العدل التفريق بينهما. والمساواة بين الرجل الصحيح وذوي الاحتياجات الخاصة في مواقف السيارات، والاستفادة من المرافق العامة ظلم، لأن ذو الاحتياجات الخاصة بسبب احتياجاته يستحق أن تكون له الأولوية في الاستفادة من هذه المرافق العامة أكثر من الرجل الصحيح.
وقديما، كان شكل الدولة يختلف عن شكل الدولة الحالية. ففي الدولة القديمة كانت علاقة الدولة مع أهل الذمة تختلف عن علاقتها مع المسلمين، فأهل الذمة يدفعون الجزية مقابل إعفائهم عن بعض الواجبات واستقلالهم في ادارة شؤونهم، في حين أن المسلمين لم يكونوا كذلك، فتصبح المطالبة بالمساواة بين “أهل الذمة والمسلمين” – على الرغم من اختلاف علاقاتهم مع الدولة- مطالبة ظالمة لكلا المجموعتين. لكن في الدولة الحديثة، تتعامل الدولة مع جميع السكان كمواطنين، ولا تفرق بينهم، وبالتالي يصبح من العدل المطالبة بأن تعاملهم على أساس متساوي.
فالمساواة والعدل ليسا شيئا واحدا، ففي حالات قد تؤدي المساواة للعدل وفي حالات قد تؤدي المساواة للظلم. وكقاعدة عامة: الأصل أن المساواة تؤدي للعدل، وفي الحالات التي تؤدي فيها للظلم، يكون التمييز لصالح المتضرر.
ماذا يعني هذا الكلام؟
عندما نكتشف أن مطالبتنا بالمساواة بين الرجل والمرأة في الوظائف يؤدي لظلم للمرأة في مسألة الاجازات. فمن أجل تحقيق العدل، نضع قوانين تمييزية لصالح المتضرر، فنزيد من إجازات المرأة.
فالأصل أن المساواة تؤدي للعدل، وفي الحالات التي لا يكون كذلك، يكون التمييز لصالح المتضرر.
ومن هذا المنطلق، سأقوم بتعديل عبارتي مرة أخرى “أنا أطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة أمام القانون والتمييز بينهما في الحالات التي تتناقض فيها المساواة مع العدل”.
ثالثا: الأصل في العدل بين المتقاربات هو المساواة:
قلنا:
١- أن الرجل والمرأة ليسا متطابقين.
٢- وأن الأصل هو أن المساواة تؤدي للعدل.
هذان الأمران صحيحان فقط بين “المتقاربان”. قد يختلف أ مع ب في ١٠٠ جانب ويتشابه معه في جانب واحد، في هذه الحالة نطالب بالمساواة بينهما في هذا الجانب الوحيد، ويكون الأصل بينهما هو التمييز لا المساواة. لكن عندما يكون أ يتشابه مع ب في ١٠٠ جانب ويختلف عنه في جانب واحد، فإن الأصل هنا هو المساواة بينهما ، لأنهما “متقاربان”.
والمرأة والرجل متقاربان، فالاختلافات بينهما مهما اتسعت تبقيهما في دائرة البشرية.والشريعة كلفت الاثنين بشكل متساو ولم تميّز بينهما إلا في الجوانب التي يختلفون فيها، ومن هذا كله يتبين أن الأصل بينهما التساوي، لأنهما متقاربان، ولأن التساوي يؤدي للعدل.
رابعا: المساواة بينهما أمام القانون وليس أمام الشريعة:
أحد أهم جوانب اللبس في الموضوع، هو أن الذي يطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة، لا يطالب بالمساواة بشكل عام ومجرد وهكذا، بل يطالب بالمساواة بينهما في دولة محددة. فعندما يقول شخص “أطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة أمام القانون في السعودية”، فلا يمكن أن يُعتَرض عليه “ولكن الشريعة كفلت هذه المساواة وعدلت بين الرجل والمرأة”.
فالمطالبة بالمساواة ليست موجهة ضد الشريعة، بقدر ما هو ضد “انعدام هذه المساواة في دولة محددة”، وبالتالي على المعارض لهذه المطالبة أن يثبت أنها متحققة في هذه الدولة، لا في الشريعة. وهذا الكلام ينطبق حتى على الدول التي تطبق الشريعة، فالكلام عن انعدام المساواة فيها، هو كلام عن “تطبيقها للشريعة” والذي هو أمر مختلف عن الشريعة، وجهد بشري معرض للخطأ.
وانطلاقا من هذه الفقرة سأعدل العبارة التعديل الأخير لتكون “أنا أطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة أمام القانون السعودي والتمييز بينهما في الحالات التي تتناقض فيها هذه المساواة مع العدل”.
أخيرا، كيف تغيّر هذه النظرة للمساواة طبيعة الحوارات القائمة حول المرأة؟
لنأخذ مثلا قيادة المرأة للسيارة.
يصبح موقف المدافع عنها كالتالي: أطالب بالمساواة بين الرجل والرأة في قيادة السيارة.
ويصبح موقف الرافض لها: أطالب بالتمييز بينهما في موضوع القيادة لأن المساواة فيها ستتناقض مع العدل.
لن يصبح الخلاف بين مدافع عن الدين وبين مخالف له، لن يصبح الخلاف بين محافظ على التقاليد ومتحرر منه، ليس بين لبراليين ومتدينيين. سينحصر الخلاف بين فريقين كلاهما يتحرى العدل، فريق يرى أن المساواة ستؤدي للعدل، وفريق يرى أن التمييز هنا ضروري لأن المساواة ستناقض العدل، وكل طرف سيأتي بحججه على الموقف الذي اتخذه.