يقول «كارل شميت» في مقدمة كتابه «أزمة النظام البرلماني»: «منذ أن وجد النظام البرلماني، كان النقد الموجه إليه موجوداً هو الآخر»، وعلى رغم أن شميت – أستاذ القانون والفيلسوف السياسي الألماني – تم تهميش أطروحاته لفترة طويلة بسبب انحيازه للنظام النازي ودعمه له، إلا أن العقدين الأخيرين شهدا عودة للاهتمام بالتراث الفكري الذي خلفه بعد وفاته عام ١٩٨٥، بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الألمانية تأسست جمهورية برلمانية عرفت باسم جمهورية فايمر، استمرت حتى إنهائها بعد فوز النازيين بالانتخابات، وفي سياق جمهورية فايمر هذه، نشر «شميت» كتابه هذا.
جزء رئيس من نقد «شميت» للنظام البرلماني هو تفريقه الرئيس بين الليبرالية والديموقراطية، فهو يرى أن «الإيمان بالبرلمان، بالحكم عبر الحوار، ينتمي لعالم الليبرالية الفكري وليس للديموقراطية»، إذ إن الديموقراطية، كما يراها شميت، هي «حكم الشعب لنفسه»، أي أن الحاكمين هم المحكومون، وأن القانون هو إرادة الشعب، الدولة هي المصوتون… إلخ، وحتى يمكن لمثل هذا التطابق بين الحاكم والمحكوم أن يتحقق يضع «شميت» شرطين أساسين، الأول: هو تجانس الشعب، والثاني: هو قدرة الشعب على إلغاء أي اختلاف، ومن دون هذين الشرطين لا يمكن الحديث أبداً عن إمكان وجود تطابق بين الحاكم والمحكوم، بين القانون وإرادة الشعب، ومن خلال هذا الفهم للديموقراطية، يرى شميت أنها لا تتعارض مع الديكتاتورية، موضحاً أنه لو تمكنت أقلية ديموقراطية من الوصول للحكم في مجتمع معادٍ للديموقراطية، فإن الخيار الذي ستتبعه هذه الأقلية هي الاستبداد الموقت حتى يتم تعليم الشعب الديموقراطية، إضافة إلى هذا المثال يتساءل شميت أن قدرة حاكم فرد على إدعاء أنه ممثل لإرادة الشعب لا تختلف أبداً عن قدرة أعضاء البرلمان المنتخبين عن ادعاء هذه الدعوى نفسها.
وإنطلاقاً من هذا الفهم للديموقراطية، يرفض كارل شميت الدعاوى الليبرالية التي ترى أن الأخطار التي تهدد البرلمان هي الحركات البلشفية والفاشية، مؤكداً أن أزمة البرلمان الرئيسة تنبع من عدم قدرته على تمثيل إرادة الشعب، وأن الخطر الرئيس نابع من حال الديموقراطية الجماهيرية.
بعد توضيح هذا التناقض بين النظام البرلماني والديموقراطية، يؤكد شميت أن الحجة التي يُواجَه بها مثل هذا النقد هو أنه على رغم الانتقادات الموجهة لهذا النظام إلا أنه لا يزال أكثر الأنظمة فاعلية، وإزاء هذه الحجة يرد شميت قائلاً: إن مثل هذا الرد يسلم بأن لا شيء جوهري يميز البرلمان عن غيره سوى كونه نافعاً، أي أن مجرد تحصيل نظام أكثر نفعاً يقضي بالتضحية به.
يؤكد شميت أن مثل هذه الحجج لا تتناول اختلال المبدأين الأساسين اللذين يقوم عليهما النظام البرلماني: النقاش، والشفافية… فالتنظيرات للبرلمان في القرن الـ19 كانت تحلم بتأسيس حكومة تحكم بالحوار، لا بالقهر ولا بالقوة، حكومة تسمح بتدافع الآراء فيها بشكل علني وحر بين أعضاء البرلمان، إيماناً بأن الحوار بين الآراء المختلفة يصل بالنهاية إلى قرار مقارب للحقيقة والعدل، وبالتالي تأسيس حكومة قائمة على الحقيقة والعدل.
فالتأكيد على هذين المبدأين – أي النقاش والشفافية – هو تأكيد على رفض ما يقابلهما، أي الحكم بالقوة والقسر من جهة، والحكم السري الذي لا يوفر المعلومات لدى المحكومين من جهة أخرى، وكل ما في النظام البرلماني إنما هو مصمم لحماية هذين المبدأين، فالتأكيد على حماية حرية التعبير، وحصانة الممثلين، وحرية الصحافة والتصويت وما إلى ذلك، إنما هو لتيسير تحقيق هذين المبدأين، إلا أن ما يؤكده «شميت» أن هذه المعايير، بعد تجربة قرن من النظم البرلمانية، ليست موجودة، فالقرارات تتخذ خلف الأبواب المغلقة بين ممثلي المصالح وأعضاء البرلمان، وما يحدث في البرلمان ليس حواراً بقدر ما هو صراع على القوة والمصالح، وحرية الصحافة تتحول إلى توظيف جماعات المصالح لها لبث بروباغندا بين الشعب وخداعهم لحصد أصواتهم… إلخ.
أمراض الأنظمة البرلمانية الحالية
منذ سقوط جدار برلين، وانهيار الاتحاد السوفياتي، وخطاب الديموقراطية، وحقوق الإنسان هو الخطاب الرئيس للقوة المهيمنة على هذا العالم، أي الولايات المتحدة الأميركية، الذي يسعى لتسطيح معاني العدل والحرية بحيث لا يتناسبان إلا مع هذه المعايير، التي تجعل المؤمن الدوغمائي بهما، في حرصه للصراع من أجل العدل والحرية، بيدقاً من ضمن بيادق هذه القوّة الامبريالية. إن استعادة نقد كارل شميت للبرلمان والليبرالية، وهو نقد جذري لا شك في ذلك، في مثل هذه الأجواء المزكومة بالبروباغندا الأميركية، لهو أمر ضروري جداً، وذلك من أجل أن يتذكر الناشطون لأجل العدالة والحرية أن شرط تحقيق هذه المعاني يكون أولاً وقبل مصارعة الاستبداد والظلم عبر التأكيد على الاستقلال من الهيمنة.
فمن دون الاستقلال الفكري عن الهيمنة يتحول الناشط إلى أداة بيدها، ومن دون ربط عملية التحول الديموقراطي بالاستقلال الوطني وإدراك مآزق النظام الديموقراطي وبأنه ليس جنة، سيتحول النظام الجديد إلى نهب تتقاسم خيراته تحالفات طغم المصالح المحلية مع طغم المصالح الخارجية، أو ما تسميه البروباغندا المهيمنة بـ«تحرير الأسواق المحلية للمنافسة العالمية».