لا توجد سطحية أكثر من اختصار الربيع العربي بنتائج الانتخابات في الدول العربية التي حدثت فيها الثورات، فالثورة الفرنسية لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزالها بكون «اليعاقبة» تسلموا زمام الحكم فيها، كما أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال اختزال ثورة تشرين الأول (أكتوبر) في كون الشيوعيين تسلموا الحكم فيها، إلا أن هذا الخلط بين المسألتين ورد إحداهما للأخرى، هو السمة الغالبة على بعض الكُتّاب الذين يتسابقون إلى إعلان نهاية الربيع العربي، وبأن نتيجته كانت – بالنسبة لهم – «مخيبة للآمال».
فمن الناحية الأولى، التفكير في الثورات – كما فصلت «حنة أرندت» في كتابها «الحالة الإنسانية»، و«في الثورة» – بمنطق «مقدمة – نتيجة» هو تفكير اختزالي، أي أنه يتعامل مع الثورة كما لو كانت عملية جراحية تتحدد قيمتها بقيمة نتيجتها، فإن كانت النتيجة تتوافق مع «أهداف الثورة» أصبحت «ناجحة»، وإن لم تتوافق معها «فشلت»، أو أن يتم محاكمة نتائجها بمعايير عليا تتم بالعودة إليها تحديد ما إذا كانت الثورة ناجحة أم فاشلة؟ هذا التصور يفترض أن الثورة «صناعة»، أي أنها تنتمي لذلك الجنس من الأعمال البشرية الذي يكون مسبوقاً بنموذج يتم السعي على تحقيقه، ذلك الجنس من الأعمال الذي من أبسط أمثلته هو «بناء المنزل»، فباني المنزل قبل أن يبدأ بفعل البناء يكون قد رسم في ذهنه مسبقاً شكل المنزل الذي يريد بناءه، وبإجراء مقارنة مع هذه الصورة المسبقة يقوم بالحكم على نتيجة عمله ومدى نجاحها من عدمها.
نستطيع أن نتكلم عن نتائج التنمية، عن نتائج بناء الجسور والطرق والمستشفيات، لأنها كلها تندرج ضمن نطاق الأنشطة البشرية نفسها المرتبطة بالصناعة، إلا أننا لا يمكننا أبداً الحديث عن الثورة باعتبارها صناعة، فما يمكن صناعته – أي التخطيط له ورسمه مسبقاً – هو الانقلاب وليس الثورة.
الثورة تنتمي لنطاق آخر من الأعمال البشرية يتسم بثلاث سمات أساسية: أولها، أنه فعل حر، وهو حر بمعنى أنه غير مقيد بنماذج مسبقة، مثل بناء المنزل، إذ يكون باني المنزل مقيداً بنموذجه في كل خطوات البناء، وهو حر كذلك أيضاً، بمعنى أنه غير مقيد بحاجات فاعله البيولوجية كالأكل مثلاً، وبالتالي انتفاضات الجياع عند رفع أسعار الخبز ليست «ثورات»، أما السمة الثانية للثورة، وهي مرتبطة بالأولى، فهي أنها هي وما يتبعها لا يمكن التنبؤ به، فكونها ليست صناعة فهذا ينفي عنها الأهداف المسبقة التي يمكن محاكمتها إليها، وكونها ليست مدفوعة لسد حاجات، فهذا ينفي القدرة على الحكم عما ينتج عنها بقدر سد الحاجات التي دفعت لحدوثها، وهذه السمة نابعة أيضاً من سمتها الثالثة الأساسية، وهي أنها عمل جماعي، تحدث «بين الناس»، كما تقول «أرندت»، وهي تكتسب عدم قابليتها للتنبؤ من هذه السمة تحديداً، كون الله وحده لديه علم ما يمكن أن يفعله مجموعة من الأشخاص يتصرفون بحرية.
حتى أوضح ما أقصده هنا بشكل أكثر دقة، لنضرب مثلاً بمجموعة من الأشخاص مجتمعين معاً في أحد المجالس، إن كان هؤلاء الأشخاص جوعى وتجمعهم رغبتهم في سد هذه الحاجة، فإن ما سيتحدثون عنه يمكن التنبؤ به، كونه سيدور بكل ما يدور حول سد هذه الحاجة، أما إن كان اجتماعهم من أجل تحقيق مشروع تجاري ما، فإننا أيضاً نستطيع أن نتوقع ما سيقوله جميع الأطراف حول الموضوع، وأن نحكم على نتائج اجتماعهم بالنجاح أو الفشل، إلا أننا لن نستطيع أبداً التنبؤ بماذا سيتحدث به مجموعة من الأشخاص لا يجمعهم حاجة مشتركة ولا مشروع مشترك.
فإذا تفهمنا جيداً هذا المعنى للثورة، أصبح سؤال «نتائج الثورة» لاغياً من الأساس، ومن هنا يمكن الانتقال للجانب الثاني من الموضوع، وهو مسألة «التحول إلى الديموقراطية»، فعدم تحوّل الثورة إلى نظام ديموقراطي لا يعني «فشلاً» للثورة ولا حتى نجاحاً، لأنها – كما قلنا – لم تحدث بأهداف مسبقة، فلا يمكن الحكم عليها من هذا المنطلق، إلا أن عملية التحول الديموقراطي يمكن محاسبتها ونقدها والحكم عليها، ذلك لأنها «صناعة» ذات أهداف معلنة ومقاييس واضحة لتحديد النجاح من الفشل، وجل مشكلة الكتّاب الممتعضين من الثورة هو خلطهم إياها بعملية التحول نحو الديموقراطية.
فلئن كانت محاولة بناء الجمهورية المستقرة الدائمة في الثورة الفرنسية فاشلة، إلا أن هذا لا يغير من حقيقة أن أوروبا لم تعد هي هي أوروبا قبل حدوث هذه الثورة… إن نطاق الأعمال الحرة – التي تقع الثورة ضمنها – يتلاشى فور أن ينفض اجتماع البشر المشاركين، ذلك أنها لا تحدث إلا بينهم، إلا أن عدم تحديدها في إطار محدد – الساحات والميادين ومجالس تبادل الآراء – يجعلها خطرة ومهددة للنظام القائم الذي وإن كان يستطيع أن يخمدها باستخدام العنف، إلا أنه لا يمكن أبداً أن يؤسس قوة به، وهذا تماماً ما نشاهده في سورية.
هذا الحديث ليس تمجيداً للثورة ولا هجوماً عليها، إنما هو فقط محاولة فهمها والتفريق بينها وبين عملية التحول الديموقراطي الذي لا يعني خلط الثورة به سوى تسطيحاً لهما معاً.