ثمة نقد سائد لدى الأوساط المناوئة لليبراليين العرب، يقوم على عملية فصل بين «الليبرالية العربية»، و«الليبرالية الغربية»، معتبراً الأخيرة هي «الليبرالية الحقّة»، في حين أن الأولى ما هي إلا نسخة كاريكاتورية متصالحة مع أنظمة الاستبداد العربية.
في رأيي أن عملية الفصل هذه غير مبررة، وذلك لسببين متداخلين… الأول: أن المسكوت عنه، في مثل عملية الفصل هذه، هو أنه لا توجد أي مشكلة مع «الليبرالية الحقّة»، إنما كل المشكلة في عملية «تشويهها»، أما الثاني – وهو متداخل مع الأول – في أن هذا الفصل هو في نهاية الأمر «ليبرالي»، إذ إن نقده لليبرالية العربية، هو في كونها «ليست ليبرالية كفاية».
الآن، بعد نفينا لمثل هذا الفصل بين الليبرالية العربية، والليبرالية الغربية، هل هذا يعني أننا يجب أن نتعامل معهما باعتبار أنهما أيديولوجيا واحدة؟ جوابي هو: «نعم، ولا»… وسأوضح الجواب بشكل أكثر تفصيلاً على شكل نقطتين.
النقطة الأولى: وهي الموقف من «الليبرالية»، باعتبارها مذهباً فلسفياً، وأيديولوجياً سياسياً… وهنا، لا فرق بين الليبرالية العربية وغيرها، كونها تنطلق من الأسس والمسلمات الفلسفية الليبرالية… وضداً على الأطروحات التي تحاول تصوير «الليبرالية» كمذهب عائم لا يمكن تحديده، وتلك الأخرى، التي لا تراها سوى «حياداً» في مقابل الأيديولوجيات والمذاهب الأخرى، فإني سأقدم تصوراً سريعاً لمفهومي حول «الليبرالية».
تقوم الليبرالية على ركيزتين أساسيتين – أو إن شئنا وهمين أساسيين: «الحرية الفردية»، و«حيادية الدولة»… هاتان الركيزتان هما محصلة رؤية تنطلق من نسبية كل من السعادة والخير والفضيلة، ومن هنا يرتكز المشروع الليبرالي على وجوب أن يكون لكل فرد الحرية في تحصيل ما يراه من هذه المعاني، وعلى الدولة أن تلتزم الحياد تجاه هذه المعاني والقيم، وأن يقتصر دورها على توفير الشروط، التي توفر لجميع الأفراد حرية تعريف سعادتهم وخيرهم وتحقيق هذه المعاني… بمعنى آخر، يقتصر دور الدولة على منع تعدي أي من الأفراد – أثناء تحقيقه لمعاني السعادة والخير الخاصة به – على حريات الأفراد الآخرين في تحصيل هذه المعاني.
هذا التصور – في اعتقادي – هو جوهر «الليبرالية»، إلا أن هناك نسخاً متعددة منها، تمتد من النسخة النقية، التي يقدمها «فون هايك» و«روبرت نوزيك»، إلى نسخ أخرى تحاول تجاوز بعض المشكلات الرئيسة فيها، كمحاولة «جون راولز» توسيع مهمات الدولة، للدرجة التي يمكن معها تبرير التمييز الإيجابي لبعض المجموعات من المجتمع ضد أخرى، أو كمحاولة «ويل كمليكا» في التأسيس لحقوق الجماعات الثقافية والأقليات، ضمن إطار ما يُسمى بـ«التعددية الثقافية».
هذا بالنسبة للنقطة الأولى، أما بالنسبة للنقطة الثانية، فهي الموقف من الليبرالية، باعتبارها «هوية سياسية»، وهنا – في اعتقادي – يمكن الحديث عن «ليبرالية عربية»، إذ إن خصوصيتها تنبع من تحولها من أيديولوجيا مرتبطة بتصور محدد في علاقة الدولة بالمواطنين، إلى هوية سياسية، أي من أيديولوجيا إلى سياسي… وهذا التحوّل لا يختلف عن تحويل أتباع طائفة دينية، لانتمائهم المذهبي، إلى هوية سياسي، ولا عن تحويل أبناء قبيلة معينة، أو منطقة معينة لانتماءاتهم القبلية والمناطقية إلى انتماءات سياسية.
هذه الظاهرة قام «عزمي بشارة» في كتابه «في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديموقراطي عربي»، بدرسها تحت اسم «المسألة العربية»، أي كون العرب أكبر أمة سياسية معاصرة لم تنل حق تقرير المصير، الأمر الذي يجعل آثار ظواهر، مثل «الطائفة»، و«القبيلة»، و«الانتماء الأيديولوجي»، مضاعفة وذات خصوصية، وبسهولة يمكن تحويلها إلى هويات جديدة ضد الهوية التي تقدمها الدول القطرية، كمحاولة لتجاوز المعضلة العربية.
وحتى أوضح المقصود أكثر، ففي الدول التي حسمت مسألة هويتها القومية، نجد أن الليبرالية لا تكتسب معنى مضاداً للهوية القومية، بقدر ما تعبّر عن برنامج مقدم لكيفية إدارة الاقتصاد وعلاقات المواطنين بدولتهم… إلخ… أي أننا نجد فرنسيين ليبراليين، وفرنسيين يمينيين، وفرنسيين اشتراكيين، هؤلاء كلهم يشتركون في كونهم ينتمون لأمة قومية واحدة، هي الأمة الفرنسية، لكنهم يختلفون في ما بينهم حول كيف يمكن أن تدار العلاقة بين الدولة والمواطنين.
في العالم العربي، ولأن مسألة الهوية لم تحسم، أي بسبب «المسألة العربية»، نجد تسييساً لكل انتماء في أي محاولة لمواجهة الدولة، أي أن أي خلاف سياسي داخل الدولة القطرية العربية الحديثة، هو مهدد دوماً لأن يتحول لنوع من سياسات الهوية.
ولأن كان جواب الطائفي – والإسلامي، سواء كان «سنياً» أو «شيعياً»، هو طائفي بالضرورة – للمسألة العربية هو تقديم الانتماء لجماعته المذهبية كبديل عن الانتماء للأمة العربية، وجواب القبائلي هو تقديم الانتماء لجماعته القبلية كبديل عن الانتماء للأمة العربية، وجواب القُطري هو تقديم الهوية القطرية كبديل، فإن الليبرالي العربي يجيب عن هذه المسألة بتقديم «الانتماء الإنساني» كبديل لهذا الانتماء العربي… أي أن خصوصية الليبرالي العربي تكمن في «إنسانويته»، أي في تسييس انتمائه البيولوجي وتحويله لجماعة سياسية بديلة.
هاتان النقطتان ضروريتان للقطع مع الهجاء التقليدي لليبرالية، باعتبارها نسخة كاريكاتورية من الليبرالية الغربية، والانتقال به إلى مستويات أخرى، تجعل الحوار مع الليبراليين العرب أكثر دقة ووضوحاً.