في ظل الجهود المتنوعة التي تقوم بها وزارة العمل من أجل التعاطي مع مشكلة البطالة، يبدو أن جانباً رئيساً من هذه القضية تم تجاهله، أو على الأقل لم يتم التعاطي معه بمستوى عالٍ من الأهمية، وهو علاقات القوة داخل بيئة العمل نفسه، فالطريقة التي تدير الوزارة بها الأمور تتم وكأن دورها ينتهي فور إيصال المواطن إلى باب منشأة ما، وتمكينه من إحدى الوظائف فيها، من دون التأمل عما يحدث خلف أسوار المنشأة وتراتبية علاقات القوة فيها.
ومرد هذا التجاهل في اعتقادي هو التصور المضمن في الاتجاه العام في عالم الاقتصاد على تصوير العمل بأنه سلعة متشابهة مع غيره من السلع، الأمر الذي يجعل «توزيعه» وكأنه عملية توزيع طلبات «البيتزا»، التي ينتهي دور من يوصلها عند عتبة منزل طالبيها… إلا أن العمل يختلف عن غيره من المنتجات في ثلاثة جوانب رئيسة، لخصها «روبرت براش» في مقالته المعنونة «كيف يكون العمل مختلفاً عن القرنبيط؟».
فمن الجهة الأولى: العمل – سواء من الناحية القانونية أو الاقتصادية أو الاخلاقية أو حتى الفيزيائية البحتة – هو «سلعة» لا يمكن فصلها عمن يقوم بالتزويد بها، ففي كل مرة يتم تبادل هذه السلعة فإن الإنسان الذي يقوم بتزويدها لابد أن يكون حاضراً… والعمل بهذا المعنى يصبح مختلفاً بشكل جوهري عن – على سبيل المثال – التفاح الذي يمكن شراؤه وبيعه وتداوله بشكل منفصل عن المُزارع الذي قام بزرعه، والشركة التي تقوم بتوزيعه، ومحل الخضار الذي يبيعه على المستخدم الأخير، وهذا الأخير – بعد شرائه للتفاح – يملك حق التصرف الكامل به: يضعه كزينة، يحوله عصيراً، يهديه، يتركه في الشمس، يأكله… إلخ، فهو حر تماماً في ما يفعل به بعد أن يتملكه… إلا أن هذا الأمر لو طبق على سلعة العمل، فإنه بشكل تلقائي سيحول العامل إلى عبد، لأن العمل لا يمكن فصله عن العامل… وبسبب عدم انفصال العمل عن العامل، نجد هذه القوانين الكثيرة التي تنظم العمل وبيئة العمل وحقوق العامل، ذلك أن السلعة التي يقدمها لا يمكن أن توجد من دونه.
الجانب الرئيس الذي يختلف فيه العمل – باعتباره سلعة – عن غيره من السلع هو أنه لا يمكن تخزينه… تقوم النظرية الاقتصادية الكلاسيكية على مسلمة أن البائع والمشتري أحرار في تعاقداتهم… إن بائع السيارات – على سبيل المثال – إذا لم تعجبه الأسعار التي يعرضها المشترون، فإن بإمكانه أن يمتنع عن البيع، وأن يقوم باستخدام السيارة لنفسه، أو ركنها جانباً – أي تخزينها – حتى يستطيع بيعها بالسعر الذي يراه مناسباً… هذه الخاصية – القابلية للتخزين – تُعطي البائع قدرة تفاوضية كبيرة مع المشتري، وبالتالي يصبح بإمكانه أن يبيع سلعته بسعر قريب جداً من السعر الذي يريده… في حال العامل، الوضع مختلف، فالعامل لا يستطيع تخزين عمله – إذ إن كل يوم يمر يتحول تلقائياً إلى جزء من الماضي الذي لا يمكن استرداده – وبالتالي تضعف قوته التفاوضية.
ما يدفع بائع السيارات إلى «تخزين» سلعته، والصبر حتى تصل الأسعار للمستوى الذي يريده، هو أن لديه ما يسد به حاجته ولا يضطره إلى البيع… بالمقابل، فإن ما يدفع العامل بشكل العام إلى بيع عمله هو شعوره بالاضطرار والحاجة، الأمر الذي يزيد موضعه التفاوضي سوءاً، فهو إضافة إلى عدم قدرته على تخزين سلعته، فهو أيضاً لا يملك من الرفاه ما يجعله يصبر على عدم البيع، بل تدفعه حاجته واضطراره – أي حاجته لتأمين لقمة عيش ومسكن وملبس – إلى الرضا بأسعار متدنية جداً… إن هذا التفريق بين «الحاجيات» و«الكماليات» – كما يقول «براش» – لهو أمر جوهري لمعرفة آثار عدم قابلية سلعة العمل على التخزين على الإسهام في تحسين فرص رب العمل على التفاوض بشكل أفضل بكثير من العامل، بل إن إلحاح الحاجة قد يدفع العامل إلى التضحية بكامل قدراته التفاوضية لمصلحة تأمين أي عمل يسد له حاجاته الرئيسة.
أخيراً، تأتي خاصية أن العمل يتمتع بالوعي الذاتي كثالثة هذه الجوانب التي تميز العمل عن باقي السلع المحيطة… فكون الإنسان يحس ويعي ما حوله، هذا لن يجعله مثل الأحذية في عدم مبالاتها في استخدامات مالكيها لها وتعاملاتهم المتنوعة بها، لن يشتكي حذاء مثلاً لأن حذاءً آخر مماثلاً له بيع بسعر مختلف… فهذه السمات سمات بشرية بحتة، فوحدهم البشر هم الذين يتأملون وضعهم ويقارنون بين أنفسهم وبين غيرهم، ما يجعل خدش حس العدالة أو الجمال – كالتمييز بين من يقومون بالعمل نفسه بالعطاء، أو وضعهم في بيئة عمل غير مناسبة لذائقتهم – لديهم أمر مضر كضرر نقص المعاش على إنتاجية العامل نفسه… فالعمال ليسوا مجرد أداة سلبية بيد صاحب العمل يتحكم بها كيف يشاء، بل هم كائنات تفكر بالكيفية التي يتم التعامل معها بها ومكانتها وتقارن وتحكم وتتأثر وتتذكر.
هذه الجوانب الرئيسة تجعل العمل أمراً مختلفاً عن «البيتزا»، وبالتالي لا ينهي مسؤولية «توزيعه» عند إيصاله إلى أبواب منشآت العمل، بل ما هو مهم ورئيس، وأشد أولوية هو تمكين العمال وتقويتهم، بحيث تكون قدراتهم التفاوضية مع أرباب عملهم عالية بطريقة تمنع استغلالهم.