إن ما يربط البشر بعضهم ببعض هي العلاقات، وهذه العلاقات على نوعين: علاقات حميمية كالتي تنشأ بين الأحبة والأصدقاء، وأخرى تعاقدية كالتي تنشأ داخل مكان العمل بين أرباب العمل والعمال. والفرقان الجوهريان بين هذين النوعين من العلاقات هو أن الأولى تحدث «خارج القانون» ولا تفترض «الرضا» و«الاختيار» بالضرورة، فأحدنا لا يختار أمه مثلاً، في حين أن العلاقات التعاقدية، لأنها محكومة بعقود، فهي تحدث ضمن إطار قانوني محدد وتشترط رضا الطرفين بالعقد.
من هنا فإن العلاقة بين رب العمل والعامل هي في الأصل علاقة تعاقدية، يُفترض أن تكون برضا واختيار الطرفين ضمن إطار قانوني محدد. ومجرد اختلال قوة أحد الطرفين التفاوضية في التأثير على صيغة العقد يعني تحولها إلى علاقة استغلال.
سوق العمل في السعودية ليست سوقاً واحدة، بل هي سوقان: سوق العمل في القطاع العام، وسوق العمل في القطاع الخاص، ومنذ منتصف الستينات الميلادية كان العمل في القطاع العام أكثر جاذبية للعامل السعودي، وذلك نظراً لارتفاع الرواتب وقلة ساعات العمل والأمان الوظيفي، ونظراً لتوجه العمالة الوطنية للقطاع العام، وكذلك نظراً لقلتهم، فقد قام القطاع الخاص – وبمساعدة من الدولة لأجل القيام بأعباء التنمية – بتعبئة هذا الفراغ عبر استقدام العمالة الأجنبية، فنشأ بذلك سوقان: سوق العمل في القطاع العام بغالبيته الوطنية، وسوق العمل في القطاع الخاص بغالبيته الأجنبية.
كانت الأجهزة الحكومية – وعلى رأسها وزارتا العمل والشؤون الاجتماعية سابقاً قبل انقسامها – المسؤولة عن تنظيم سوق العمل في القطاع الخاص في ذلك الوقت منحازة لتدعيم القطاع الخاص وتقويته، وبالتالي كان دعمها لأرباب العمل السعوديين ضداً على العمالة الأجنبية، ويتجلى ذلك بشكل صارخ عبر نظام الكفيل، الذي يلغي أي قوة تفاوضية لدى العامل الأجنبي، ويجعله مستباحاً لاستغلال رب العمل السعودي.
أدى هذا الأمر عبر العقود إلى ترسّخ ثلاث ظواهر أساسية في سوق عمل القطاع الخاص، الأولى: هي تركز الخبرات العملية لدى أجيال من العمال الأجانب، أما الأخرى: فهي تعوّد أرباب العمل السعوديين على أعراف محددة في التعامل مع اليد العاملة، أما الثالثة – وهي مرتبطة بسابقتها – فهي نشوء شبكة من أصحاب المصالح حول هذه الأجهزة المسؤولة عن سوق العمل في القطاع الخاص، ما يجعل لها قدرة كبيرة على مفاوضتها بشكل جماعي لتنفيذ مصالحها ومقاومتها عند القيام بأي تغيير.
إلا أنه ومنذ منتصف التسعينات، ونتيجة للتضخم السكاني وانخفاض أسعار النفط، فإن قدرات القطاع العام على استيعاب يد عاملة وطنية جديدة أصبحت مستنفذة، وهو الأمر الذي كانت نتيجته ظهور البطالة في السعودية. كان الحل المقترح حينها هو إحلال العمالة الوطنية مكان العمالة الأجنبية في القطاع الخاص، أي السياسة التي اصطلح على تسميتها بـ«السعودة». وفي دراسة قام بها «ستيفن هيرتوغ» حول سياسة «السعودة» أشار إلى تعثر الخطوات الأولى حتى منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة عندما تم فصل وزارة العمل عن وزارة الشؤون الاجتماعية ومنحها صلاحيات تمكنها من إنجاز مهمة «السعودة»، التي تسارع أداؤها بشكل كبير في السنوات الثلاث الأخيرة.
هذا التحوّل في سياسة الحكومة تجاه القطاع الخاص من التركيز على دعم رجال الأعمال وتقوية القطاع الخاص إلى دعم العمالة الوطنية وتمكينها من التوظف في القطاع الخاص، هو ما أعنيه بشكل مجازي من تحوّل من «آدم سميث» إلى «كارل ماركس».
المشكلة في تنفيذ هذه السياسة الآن هي إغفال الظواهر الثلاث السابقة… فالوزارة تتعامل مع موضوع البطالة بسياسة ذات مدى قصير، أي «تمكين المواطن من الحصول على وظيفة بأسرع وقت»، هذه السياسة إذا ما استمرت على هذا الشكل فإنها ستؤثر بشكل سلبي على السوق، وذلك نتيجة للظواهر المترسخة فيه من العقود السابقة.
فالعمالة الأجنبية – التي تتوفر على الخبرات العملية، إذ إن الخبرة العملية لا تأتي من الدراسة بل تأتي من التدرب في مكان العمل – تشعر بالتهديد من هؤلاء «القادمون الجدد»، ومصدر قوتها الوحيد التي تستطيع أن تناور من خلاله هو «خبرتها العملية»، وبالتالي ستكون عازفة كل العزف عن مشاركة هؤلاء الجدد به. هذا الأمر – إضافة لنظام الكفيل الذي يعطي لصاحب العمل القدرة على التمييز في التعامل بين عماله بحسب الجنسية – يجعل من العامل الوطني الجديد مهمشاً داخل مكان العمل غير قادر على التعلم ولا اكتساب الخبرة ولا الانتاج. ونظراً لقدرات أصحاب العمل التفاوضية مع أجهزة الحكومة، المتأتية لهم من شبكات المصالح التي شكلوها عبر السنين، فإن هؤلاء العمال لا يستطيعون التأثير على سلوك الأجهزة الحكومية، وذلك نظراً لأنهم لا يستطيعون التنظيم بشكل جماعي لانقسام بيئة العمل بحسب الجنسية وعدم وجود الإطار القانوني الذي يكفل لهم القدرة على التجمع.
وبالتالي، حتى تستطيع أن تحتوي وزارة العمل هذا الأمر، يجب ألا تكتفي فقط «بتمكين المواطن من الحصول على وظيفة»، بل عليها تحرير العامل الأجنبي من وصاية نظام الكفيل وتوفر له مناخاً وظيفياً آمناً، هذا الأمر يجعل انتقال الخبرة بين العمّال ممكناً، ويقطع الطريق أمام أرباب العمل من تقسيم موارده البشرية بحسب الجنسية، وبإعطاء العمال – بغض النظر عن جنسيتهم – غطاءً قانونياً يكفل لهم التفاوض بشكل جماعي مع أرباب عملهم، فهنا يمكن أن نقول إن سياسة «السعودة» تسير بشكل آمن على المدى القصير والبعيد.