تفتح تطورات الأوضاع في العراق وسوريا الباب واسعاً على انفجارٍ كبير في المشرق العربي، وعلى احتقان مذهبي متصاعد قد يتحول إلى صراع دموي في أكثر من بلد عربي، ومع التعبئة المذهبية القائمة يبدو أننا ننتقل إلى مرحلة أكثر خطورة في مسألة الصراع المذهبي.
من الممكن العودة إلى فهم الإشكالية التي صنعتها أنظمة الاستبداد في العراق وسوريا، حيث فشلت هذه الأنظمة في إيجاد هوية تجمع مواطنيها، وحين زال غطاء الاستبداد أو ضعفت سلطته المركزية في هذه المجتمعات ظهرت أمراضٌ ساهم الاستبداد في صناعتها، لكن هذا الحديث لا يكفي لفهم المشكل الطائفي الذي يبرز اليوم.
عند الحديث عن الطائفية في هذا الظرف لابد من تحديد مفهومنا لها ابتداءً، خاصةً وأن النقاش الذي يدور هذه الأيام يقود إلى تراشق التهم بالطائفية بين الأطراف المختلفة بما يفقد مصطلح الطائفية أي معنى غير اعتباره “شتيمة” تستخدم في سجالٍ هو طائفي بطبيعته، لذلك عندما نتحدث عن الطائفية فإننا نعني تحديداً تسييس الانتماء المذهبي، وتعريف الذات كجزء من جماعة مذهبية فاعلة في المجال السياسي، ورسم الخطوط الفاصلة سياسياً بين الكتل المذهبية باستخدام عبارات (نحن و هم) في الخطاب (وتالياً في الممارسة السياسية)، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى صراع سياسي قائم على أسس مذهبية.
إن تسييس المذاهب وتحويل الجماعة المذهبية إلى جماعة سياسية هو العامل المؤجج للأزمات الطائفية في منطقتنا، وقد ساهم الاستبداد في هذا الأمر عبر حظره لوجود قوى مدنية حديثة تنشأ على أساس مصالح مختلفة عن مصالح الجماعات الأهلية، وهكذا بقيت الجماعات الأهلية (الطوائف والعشائر) التشكيلات الوحيدة التي يمكن العمل من خلالها في مجتمعاتنا.
ما يقدمه تسييس المذهب وتحويل الجماعة المذهبية إلى جماعة سياسية هو تحديد مجموعة من المصالح وأولويات الصداقة والعداء الخاصة بالهوية المذهبية والمختلفة عن مصالح وأولويات الجماعة الوطنية،وهكذا يصبح التناقض الطائفي أعلى شأناً من التناقض مع عدو الأمة، وتصبح مسألة التدخل الخارجي حتى من الأعداء مبررة للانتصار على الخصم المذهبي، فتضيع السيادة والدولة وتتحول الجماعات المذهبية إلى بيادق بيد قوى إقليمية ودولية.
تحول العراق وسوريا ولبنان إلى ساحات صراع بين “الشيعية السياسية” التي تقودها إيران، وبين “السنية السياسية” التي تقودها تركيا وقطر والإخوان المسلمون، وبعيداً عن الدور القطري المنتفخ أكثر من حجمه الطبيعي، فإن تركيا تحديداً تخوض صراع نفوذ مع إيران في العراق والشام، وقد قاد تسييس المذاهب وغياب مشروع ورؤية عربية يمكنها تحديد المصالح العربية وتوضيح طبيعة الاختلاف والاتفاق مع الدورين الإيراني والتركي انطلاقاً من مصالح العرب إلى غياب السيادة وانحياز الجماعات المذهبية المتصارعة إلى قوى إقليمية ودولية تدعمها، وطبعاً إلى دخول الولايات المتحدة وإسرائيل على الخط. Continue reading
ما «العادي» و«غير العادي» في الثورة السورية؟
في حياتنا اليومية هناك أمور «عادية»… أن تنام ابنتك، فهذا أمر عادي، أن تستيقظ صباحاً للمدرسة، فهذا أمر عادي أيضاً، أن تذهب أنت لعملك وتعود منه متوقعاً أن تكون وجبة الغداء جاهزة وتنتظرك، فهذا أيضاً أمر عادي، لكن ما الذي نعنيه تحديداً عندما نقول عن أمر ما أنه «عادي»؟ لنستبعد مبدئياً أن معنى «عادي» هنا تعني «طبيعي»، إن هذا يحدث نتيجة «سنة كونية»، أو «حتمية تاريخية»، أو «قانون طبيعي»… إلخ. بعد استبعادنا لهذه المعاني، فإن كون شيء ما عادياً يتضمن أموراً عدة، يعني أولاً أنه متوقع، أنه لا يثير فينا أي حس استغراب، وهو ثانياً: يعني أنه روتيني، يحدث بشكل متكرر بحيث ليس فيه ما يفاجئ أو ما يدهش، هذه المعاني تتضافر لتعني شيئاً أساسياً وجوهرياً، هو أننا متكيفون مع ما نعتبره عادياً، تكيفنا هذا يعني تحديداً أن هذه الأمور العادية لا تصدمنا أخلاقياً ولا عاطفياً ولا فكرياً. Continue reading