في حياتنا اليومية هناك أمور «عادية»… أن تنام ابنتك، فهذا أمر عادي، أن تستيقظ صباحاً للمدرسة، فهذا أمر عادي أيضاً، أن تذهب أنت لعملك وتعود منه متوقعاً أن تكون وجبة الغداء جاهزة وتنتظرك، فهذا أيضاً أمر عادي، لكن ما الذي نعنيه تحديداً عندما نقول عن أمر ما أنه «عادي»؟ لنستبعد مبدئياً أن معنى «عادي» هنا تعني «طبيعي»، إن هذا يحدث نتيجة «سنة كونية»، أو «حتمية تاريخية»، أو «قانون طبيعي»… إلخ. بعد استبعادنا لهذه المعاني، فإن كون شيء ما عادياً يتضمن أموراً عدة، يعني أولاً أنه متوقع، أنه لا يثير فينا أي حس استغراب، وهو ثانياً: يعني أنه روتيني، يحدث بشكل متكرر بحيث ليس فيه ما يفاجئ أو ما يدهش، هذه المعاني تتضافر لتعني شيئاً أساسياً وجوهرياً، هو أننا متكيفون مع ما نعتبره عادياً، تكيفنا هذا يعني تحديداً أن هذه الأمور العادية لا تصدمنا أخلاقياً ولا عاطفياً ولا فكرياً.
حتى نفهم هذا بشكل أوضح، لنفكر بماذا يمكن أن يكون أمراً «غير عادي»، ألا تنام ابنتك لثلاثة أيام متواصلة، فهذا أمر غير عادي، أن يموت أحد أقربائك، فهذا أمر غير عادي، أن تتعرض لحادثة سير وأنت في طريقك عائد من العمل إلى البيت، فهذا أمر غير عادي، سواء لك أو لزوجتك التي تنتظرك.
في هذه الحالات غير العادية سيكون «تبلدك» الحسي والعاطفي والأخلاقي رذيلة، إذ ما يجعل من هذه الأمور «غير عادية»، هو كونها تستفز وعينا، حسنا الأخلاقي، وعواطفنا، وهذا في جانب منه مستمد من كون هذه الأحداث مفاجئة، مباغتة، غير متوقعة.
النقطة الرئيسة هو أن من أعطى هذه المعاني لهذه الأحداث هم نحن، عبر مشاركتنا الجماعية اليومية فيها وإعادة إنتاجها، فنحن سوية – عبر تواصلنا، وتربيتنا، وتكيفنا مع ما حولنا – نضع الخط الفاصل بين ما «العادي» وما «غير العادي» بالنسبة لنا. لا يعني هذا بالضرورة أن ما تواطأنا عليه – لمجرد كوننا تواطأنا عليه – هو صحيح بالضرورة، فتواطؤاتنا ليست مقدسة، وآية ذلك أنها تتبدل، فما كان غير عادي قبل سنوات يكون عادياً اليوم والعكس.
الآن لنعد إلى عنوان المقال ولنتساءل: ما الذي يمكن أن يعتبر «عادياً» و«غير عادي» في الثورة السورية؟ أو بصياغة أخرى: أي الأخبار التي تردنا من الشام هي التي يجب أن تكون «مربكة، مستفزة، مثيرة للأعصاب… إلخ»، وأيها الذي نتقبله من دون أي رد فعل؟
في الأيام الماضية، نجد أن ما هو «غير عادي» في الثورة عند عدد من المهتمين بالشأن العام العربي هو قائمة الأعمال الآتية: نبش القبور وهدم الأضرحة، القتل الأهلي اليدوي والبدائي على أساس طائفي، ضرب الطيران الإسرائيلي لمخازن أسلحة تابعة للنظام، استخدام النظام لأسلحة كيماوية في قمع الثوار… إلخ.
هذه القائمة غير المنتهية من الأمور «غير العادية»، أي تلك التي تجد رد فعل من المتلقين، هي فعلاً «غير عادية»، لكن التأكيد عليها يتضمن أمراً خطراً للغاية، وهذا الأمر هو الآتي: عمليات القتل التي يقوم بها النظام ضد الشعب عبر الآليات والمدفعيات الحديثة.
فعمليات القتل التي يقوم بها الشبيحة، أو جبهة النصر، على أساس طائفي هي غير العادية، لكن قتل النظام للثوار أصبح «أمراً معتاداً» بشرط ألا يكون القتل يدوياً أو كيماوياً، ولكن عندما يكون بصواريخ «سكود» فهذا أمر أصبح معتاداً يومياً.
هذا التحول في الوعي تجاه الثورة، لا يعني سوى انتصار إعلامي للنظام السوري، إذ لا يوجد أكثر من أن يتمنى النظام أن تتحول أعماله الوحشية إلى أعمال معتادة، وهذا الانتصار لم يتأت نتيجة كفاءة في أجهزته الإعلامية بقدر ما هو، أولاً، النزعة للتغطية العددية الإخبارية لدى القنوات التي يفترض أن موقفها الإعلامي منحاز لمصلحة الأبرياء، وثانياً، سرعة تكيفنا مع حالات الاعتداء اليومية.
فمن الناحية الإعلامية، عندما يصبح ضمن التغطية اليومية ذكر «أعداد» الشهداء كل يوم، فإن هذا كفيل بتحويل هذا الأمر إلى «خبر عادي»، بل يتحول في بعض الأحيان إلى خبر «ممل»، هناك مقولة تنسب لـ«غوزيف ستالين» يقول فيها: «أن يقتل إنسان واحد فهذه حادثة مأسوية، لكن أن يقتل مليون شخص فهذه مجرد إحصائية»، هذه النزعة العددية تحول عملية القتل إلى خبر ميت بلا حياة، في حين أن التغطية «القصصية»، أي تحويل الشهداء من مجرد عدد يذكر إلى قصص تروى لكفيل بقلب المعادلة كافة وتحويل كل قصة إلى قصة غير «عادية» في ذاتها.
أما بالنسبة لسرعة تكيفنا لحالات الاعتداء اليومية، فالشواهد كثيرة، هذه واحدة منها فقط: فإسرائيل اليوم تحتل أرضاً عربية منذ أكثر من ستة عقود، إلا أن هذا الأمر يتم التعامل معه على أنه أمر عادي، ما هو غير العادي عندما تقصف إسرائيل غزة، أو تضرب لبنان، أو تقصف مخزن أسلحة في سورية، أما احتلالها للأراضي العربية فهذا في حد ذاته «عادي».
كما ذكرت سابقاً، أننا نحن من نضفي هذه المعاني على الأحداث، ولهذا فإنه من واجبنا – ويا له من واجب ضعيف – ألا نجعل من قتل السوريين أمراً عادياً، وأن نجعل من كل جريمة يقترفها النظام، من كل بيت يهدمه، من كل ضحية تسقطه قصة لوحدها، غير عادية في ذاتها، وكافية لوحدها لاستفزاز وعينا وحسنا الأخلاقي والعاطفي.
مساء الخير
أن تبدع يا سلطان فهذا أمر عادي,
ولكن أن تستفز فينا الدمعة على عجزنا العربي المعتاد فذاك امر غير عادي!,مع انها لحظات توقف نتوجع فيها ثم نقلب الصفحة وننسى ونسلى!
الف تحية وشكر لك ولمقالك الموجع هذا.
في هذه الثورة بالذات يبدو أن كل شيء أصبح عاجز عن منع القتل والدمار.
العجز والصمت والتبلد هو شعار المرحلة بالنسبة للعرب حيث كل صرخاتهم لم تؤثر في أحد ولم تغير الواقع المر الذي يعيشونه ، أعداد الشهداء وصور الأطفال الذين رحلوا و قصص السجون التي إمتلئت بالتعذيب والإهانة والإغتصاب وكل القصص المروعة التي لا يستحمل العقل أن يتخيلها بدت في عقولنا إعتيادية وكأن الشر هو القاعدة التي تسير عليها البشرية.
أحس إننا نمر بمرحلة شبيهة بالتي مرت بها البشرية بعد الحرب العالمية مرحلة من اليأس والقنوط مرحلة من عدم الإيمان والتشتت
أصبح كل شيء غير مفهوم وغير مبرر وبلا معنى، وحشية هذا النظام أسقطت كل شيء وكأن بشار يعلم أنه سيذهب للجحيم وأراد أن يجرنا معه.
“من واجبنا – ويا له من واجب ضعيف – ألا نجعل من قتل السوريين أمراً عادياً” هذه العبارة تلخص البؤس التي تمر به أمتنا.
هل تلومني عندما انتقد إيثار السلامة والهون أبرك ما يكون؟
صحح لي اذا كنت مخطئة؟ هل تحدثتوا يوماً عن المطالبة بتدخل عسكري وسريع من قبل المملكة وجاراتها لايقاف حمام الدم في سوريا..خطاب مباشر وواضح وصريح لمطالبة أصحاب القرار بالتدخل وتحليل هالمليارات اللي تصرف على تسليح عسكري راح يصدي وما بعد استخدمناه.
هالتنظير البارد يبط الچبد ويفقع المرارة ..اكتب لمَ هو عادي أن “ندرعم” عالجارة البحرين ونضبط أمورها…..ولمَ هو غير عادي أن ندخل على الجارة سورياً وننقذها من أول ما تيقنا من تجاوزات النظام وقبل لا ندخل في تعقيدات نصرة وحزب الله وغيرها.
اعذرني لحماستي ..بس ما يجب أن نكتبه هو ما نشعر به ونؤمن به بقوة..لذلك وُجِدت الكتابة.
شكراً
مقال رائع ولكن تمنيت كلمة واحد تضيفها فيصبح المقال أروع وأكثر اتزاناً
تمنيت منك أن تقول “أن نجعل من كل جريمة يقترفها النظام (أو المعارضة) غير عادية في ذاتها”