الطائفية عارية..سوريا نموذجاً / بقلم:بدر الإبراهيم

تفتح تطورات الأوضاع في العراق وسوريا الباب واسعاً على انفجارٍ كبير في المشرق العربي، وعلى احتقان مذهبي متصاعد قد يتحول إلى صراع دموي في أكثر من بلد عربي، ومع التعبئة المذهبية القائمة يبدو أننا ننتقل إلى مرحلة أكثر خطورة في مسألة الصراع المذهبي.
من الممكن العودة إلى فهم الإشكالية التي صنعتها أنظمة الاستبداد في العراق وسوريا، حيث فشلت هذه الأنظمة في إيجاد هوية تجمع مواطنيها، وحين زال غطاء الاستبداد أو ضعفت سلطته المركزية في هذه المجتمعات ظهرت أمراضٌ ساهم الاستبداد في صناعتها، لكن هذا الحديث لا يكفي لفهم المشكل الطائفي الذي يبرز اليوم.
عند الحديث عن الطائفية في هذا الظرف لابد من تحديد مفهومنا لها ابتداءً، خاصةً وأن النقاش الذي يدور هذه الأيام يقود إلى تراشق التهم بالطائفية بين الأطراف المختلفة بما يفقد مصطلح الطائفية أي معنى غير اعتباره “شتيمة” تستخدم في سجالٍ هو طائفي بطبيعته، لذلك عندما نتحدث عن الطائفية فإننا نعني تحديداً تسييس الانتماء المذهبي، وتعريف الذات كجزء من جماعة مذهبية فاعلة في المجال السياسي، ورسم الخطوط الفاصلة سياسياً بين الكتل المذهبية باستخدام عبارات (نحن و هم) في الخطاب (وتالياً في الممارسة السياسية)، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى صراع سياسي قائم على أسس مذهبية.
إن تسييس المذاهب وتحويل الجماعة المذهبية إلى جماعة سياسية هو العامل المؤجج للأزمات الطائفية في منطقتنا، وقد ساهم الاستبداد في هذا الأمر عبر حظره لوجود قوى مدنية حديثة تنشأ على أساس مصالح مختلفة عن مصالح الجماعات الأهلية، وهكذا بقيت الجماعات الأهلية (الطوائف والعشائر) التشكيلات الوحيدة التي يمكن العمل من خلالها في مجتمعاتنا.
ما يقدمه تسييس المذهب وتحويل الجماعة المذهبية إلى جماعة سياسية هو تحديد مجموعة من المصالح وأولويات الصداقة والعداء الخاصة بالهوية المذهبية والمختلفة عن مصالح وأولويات الجماعة الوطنية،وهكذا يصبح التناقض الطائفي أعلى شأناً من التناقض مع عدو الأمة، وتصبح مسألة التدخل الخارجي حتى من الأعداء مبررة للانتصار على الخصم المذهبي، فتضيع السيادة والدولة وتتحول الجماعات المذهبية إلى بيادق بيد قوى إقليمية ودولية.
تحول العراق وسوريا ولبنان إلى ساحات صراع بين “الشيعية السياسية” التي تقودها إيران، وبين “السنية السياسية” التي تقودها تركيا وقطر والإخوان المسلمون، وبعيداً عن الدور القطري المنتفخ أكثر من حجمه الطبيعي، فإن تركيا تحديداً تخوض صراع نفوذ مع إيران في العراق والشام، وقد قاد تسييس المذاهب وغياب مشروع ورؤية عربية يمكنها تحديد المصالح العربية وتوضيح طبيعة الاختلاف والاتفاق مع الدورين الإيراني والتركي انطلاقاً من مصالح العرب إلى غياب السيادة وانحياز الجماعات المذهبية المتصارعة إلى قوى إقليمية ودولية تدعمها، وطبعاً إلى دخول الولايات المتحدة وإسرائيل على الخط.
في حالة السعار الطائفي الناتجة عن احتدام الصراع بين الأطراف المذهبية في المنطقة يصبح الضحايا مجرد أرقام، ويغدو النقاش حول نبش قبور الأموات أهم من قتل الأحياء، ويبدو الحديث عن رفض الطائفية أشبه بالخرافة، بل إنه يصبح مثار سخرية، ويصبح أقصى طموح أشخاصٍ ضد الطائفية أن يسلموا على أنفسهم من الانزلاق إلى المستنقع الطائفي الذي مع اشتداد الأزمة يسحب إليه مجموعات يفترض أنها عقلانية ومعتدلة وترفض الطائفية في خطابها، ويظهر التعاطي مع تطورات الحالة السورية كنموذج لما يمكن أن يكون عليه السعار الطائفي الممزوج من قبل البعض بالقبول بحلول صهيونية، وغياب العقلانية وحس المسؤولية عند بعض المثقفين وركوبهم موجة التحريض الشعبوي، وهذا النموذج يستحق وقفة مفصلة معه.

مشكلة مفهوم الثورة

يمكن فهم الحماسة الشديدة عند قطاعات واسعة من الشعوب العربية للثورات التي اندلعت في العالم العربي مع نهاية عام 2010م، بل يمكن القول إن هذه الحماسة تثير البهجة والارتياح لأن هذه القطاعات الواسعة باتت تفهم الحاجة إلى التغيير في العالم العربي بعد عقود من سطوة الاستبداد والفساد.
لكن المشكلة أن هناك من يحول هذه الحماسة إلى حالة دوغمائية ترفض مجرد مناقشة تفاصيل هذه الثورات أو نقد بعض الجهات الثورية، ولا تعود قادرة حتى على التمييز بين نقد الثورات المنطلق من رفضٍ مبدئي لها لاعتبارات سياسية أو فكرية أو مصلحية وبين النقد المنطلق من تأييد هذه الثورات والحرص على أن تحقق تطلعات من ثاروا وقدموا التضحيات، ويعود هذا إلى رؤية الثورة كحالة صراع بين الخير والشر، ما يجعلنا بحاجة إلى نفي هذه الفكرة التي تظهر بوعي أحياناً ودون وعي في أحيانٍ كثيرة أخرى قبل الدخول في تفاصيل المشهد السوري.
ليست الغاية هنا تحديد مفهوم جامد وأيديولوجي للثورة، لكنها مجرد مقاربة للمفهوم المعاصر في المجال السياسي، وهنا نقول إن الثورة فعل تمرد على المنظومة القائمة يقوم به مجموعة من الناس من خارج هذه المنظومة بهدف تغييرها، وهكذا فإن الثورة هي وصف لتمردٍ على ما هو قائم باعتباره غير شرعي، وهي فعل يسعى لإحلال شرعية جديدة تقوم على أسس مغايرة لتلك الشرعية القائمة.
من خلال هذا التوصيف يمكن اعتبار أي متمرد يسعى لتغيير المنظومة القائمة سواءً عن طريق التظاهر السلمي أو من خلال السلاح ثائراً، فأعضاء تنظيم القاعدة على سبيل المثال ثوار على النظام الدولي، ولا يقتضي وصفهم بالثوار إضفاء أي قيمة أخلاقية أو إيجابية عليهم، ذلك أن الثورة ليست قيمة متسامية وشاعرية بحد ذاتها، وليست أخلاقية وخيّرة بطبيعتها، إنما هي توصيف لفعل التمرد الذي يقوم به الثوار.
وهؤلاء الثوار ليسوا أخياراً لأنهم ثوار، ولا تعني ثورتهم بالضرورة أنهم أخلاقيون، وليس كل مظلوم أو ثائر هو منحاز لقيم الخير بالضرورة، بل إن الحكم على الثوار يتعلق بتفاصيل المشروع الذي يحملونه للتغيير وليس بفعلهم الثوري ابتداءً، لذلك من المهم التأكيد على أن النظر إلى الثورات والثوار كحالات أخلاقية خيّرة يصنع مشكلة.
تكمن مشكلة الربط المبدئي بين الثورة وقيم الخير وإسقاط الأخلاقيات على فعل التمرد السياسي في تكوين “عمى أيديولوجي” يرى في الثوار كل الخير وفي المنظومة القائمة كل الشر، فيقع أصحاب هذا الربط في معضلة أخلاقية تتمثل في غضهم الطرف عن المشاكل الأخلاقية التي يمكن أن يقع فيها ثائر على النظام القائم، فالمظلوم ليس خيّراً بالضرورة، وهو قد يتحول إلى ظالم، لذلك لا قداسة للفعل الثوري ولا للثائر ضد نظام مستبد، والمسألة متعلقة بالقيم التي تحملها ثورته لا بفعل الثورة بحد ذاته.
يجري خلط كبير في التعاطي الأخلاقي والسياسي مع الثورات، فتُسقَط القيم الأخلاقية على الفعل الثوري نفسه، وهنا لابد من التأكيد على الفصل بين الواجب الأخلاقي في إدانة جريمة نظام قمعي ضد مجموعة من المدنيين العزل من المتظاهرين أو من غيرهم، وبين التقييم السياسي للمشروع الثوري والذي يخضع لاتفاق واختلاف المواقف والأفكار والمشاريع السياسية، لأن الخلط يعني إضفاء صفة القداسة على الثورات والثوار ومنع نقدها بحجج أخلاقية، ما يقود إلى ممارسات مكارثية في طابعها العام ضد كل من يحمل اختلافاً سياسياً مع مشاريع الثوار أو سلوكهم السياسي.
بالنسبة للثورات العربية – ومن ضمنها الثورة السورية – يمكن الحديث عن مطالب بالحرية والكرامة والديمقراطية عبرت عنها الجماهير التي خرجت في المظاهرات السلمية ثائرةً على أنظمة الاستبداد والفساد، وهو ما يجعل تأييدها طبيعياً لمن يرفض الظلم والاستبداد وينحاز إلى قيم الحرية، وفي ظل غياب أيديولوجيا سياسية قائدة يمكن الحديث حولها وتقييمها كما في ثورات روسيا وإيران وكوبا فإن الانحياز إلى مطالب الجمهور الخارج بعفوية ودون تنظيم مسبق هو الموقف الذي يمكن أن يتخذه مناصرو الحرية ومعادو هذه الأنظمة التي عاثت في بلاد العرب فساداً طيلة عقود.
المهم هنا هو أن الموقف مرتبط بطبيعة الثورة وتفاصيل مطالبها، وليس متعلقاً بتأييد أعمى لأي ثورة على نظام استبدادي، ولو كان الأمر تأييداً أعمى لأي ثورة على نظام مستبد لأيدنا أعمال القاعدة والجهاديين طيلة السنوات الماضية في مواجهتها لأنظمة مستبدة عربية، لكن هذا لم يحصل لأن الحكم كان على طبيعة المشروع السياسي الذي يحمله “ثوار القاعدة” وعلى سلوكهم ووسائلهم التي يعتمدونها لتحقيق هذا المشروع. إنه موقف سياسي إذاً.

التحول في سوريا

يمكن اعتبار النظام السوري واحداً من أكثر الأنظمة قمعية في المنطقة العربية، فهو يعتمد على القبضة الأمنية بشكل رئيسي في الحفاظ على سيطرته وحكمه، وهذا ما أمّن استقراراً لحكم حافظ الأسد بعد سنوات من الانقلابات العسكرية المتوالية في سوريا.
ومثل بقية الأنظمة العربية الجمهورية في العقود الأخيرة تحول النظام السوري من حكم الحزب إلى حكم العائلة التي قادت البلاد بالتحالف مع الأجهزة الأمنية ومجموعة من رجال الأعمال الذين برز دورهم بشكل كبير في عهد بشار الأسد مع سياسات الانفتاح النيوليبرالية التي طبقها، وهو ما مكن عدداً من رجال الأعمال (كثير منهم من أقرباء الأسد مثل رامي مخلوف وذو الهمة شاليش) من احتكار بعض الصناعات والسلع، ومع زيادة معدلات الفساد وتعزيز نمط الاقتصاد الاستهلاكي في مقابل تهميش الصناعة وإهمال الزراعة زاد الضغط على الناس في الأرياف بالذات، وهكذا فإن الثورة السورية بدأت بمظاهرات شعبية في الأرياف، وعبرت عن بعد طبقي واضح ممزوج بالطبع بتأثيرات الرياح الثورية التي هبت من تونس ومصر.
كان من الطبيعي لمؤيدي الحريات ومعارضي الاستبداد أن يقفوا مباشرة مع هذه الثورة، ومع مطالبها التي تدرجت من إصلاح النظام إلى إسقاطه، فالجماهير التي خرجت بعفوية ضد النظام تستحق الحرية والكرامة، وهذا النظام المغلق حد الترهل والشرس في قمعه يستحق سقوطاً مدوياً. استمرت الثورة السلمية شهوراً عانت خلالها من قمع النظام، فتراجع المتظاهرون السلميون لتدخل فصائل المعارضة المسلحة على الخط وتعلن بداية مرحلة جديدة من الصراع مع النظام:الثورة المسلحة.
بدايةً لا مشكلة مع مفهوم الثورة المسلحة، وليس صحيحاً أن الثورة يجب أن تكون سلمية لتسمى ثورة كما يدّعي البعض، فالثورة كمفهوم كما وضحناه لا يشترط السلمية، لكن السلمية هي الخيار الأسلم باعتبار أن الدولة هي التي تحتكر العنف، وهي أفضل خيار ثوري في مجتمعاتنا لأن استخدام السلاح قد يذهب بهذه المجتمعات المتنوعة والمنقسمة إلى الفوضى. عموماً حدث الانتقال من ثورة الجماهير العفوية إلى ثورة الفصائل المسلحة، وهو ما يعني طرح الأسئلة على مشروع هذه الفصائل.
تتنوع فصائل المعارضة المسلحة في سوريا، ويتنوع المقاتلون، فمجموعة انشقت عن الجيش النظامي وانضمت للفصائل، وأخرى مكونة من الأهالي الذين تطوعوا للدفاع عن أنفسهم في البداية ثم انخرطوا في العمل المسلح، وثالثة هي مجموعة من السلفيين الجهاديين السوريين وغير السوريين الذين دخلوا على خط المعركة مع نظام الأسد. تظهر رغم هذا التنوع وتعدد الفصائل صبغة إسلامية مهيمنة على العمل العسكري للمعارضة، فالفصائل الفاعلة على الأرض تحمل في خطابها وشعاراتها صبغة إسلامية مذهبية واضحة، ولهذه الهيمنة الإسلامية أسباب.
يتحدث كثيرون عن ضرورة الخطاب الديني في عمل مسلح في مجتمعاتنا المتدينة بطبيعتها، لكن هذا ليس قاعدة ثابتة، فقد قدم اليسار في عقودٍ خلت عملاً نضالياً مسلحاً دون أدبيات دينية، وهناك فصائل مسلحة وطنية ويسارية ضمن المعارضة السورية، ومجموعة من الأهالي والجنود السابقين ليسوا من الإسلاميين، كما أن الناس تضحي من أجل الوطن والكرامة ورفضاً للحرمان الاقتصادي وغير ذلك من الدوافع. يمكن المحاججة بسطوة الخطاب الديني في العقود الثلاثة الأخيرة، وباستعداد المقاتلين السلفيين للتضحية وقدرتهم على القتال أكثر من غيرهم، لكن هذا وحده لا يفسر الصبغة الإسلامية للمعارضة المسلحة، فالتمويل تحديداً يلعب دوراً مفتاحياً في هذه الهيمنة.
يؤكد بحثٌ قدمه آرون لوند الباحث في المعهد السويدي للشؤون الدولية (١) على أهمية التمويل في تصعيد نغمة الخطاب الإسلامي المذهبي داخل المعارضة المسلحة السورية، فالتمويل القادم من دولٍ قطر والسعودية وتركيا، ومن لجانٍ ومنظمات إسلامية في الخليج، يُمَكِّن المجموعات الإسلامية المذهبية من جذب المتطوعين والحلفاء أكثر من منافسيها من المجموعات غير الإسلامية بما أنها قادرة من خلال المال على توفير سلاح وعتاد أفضل، وفي بعض الأحيان رواتب شهرية لمنتسبيها.
يضيف لوند أن التمويل مهم ليس فقط لكفاءة الفصائل المقاتلة، بل أيضاً لصناعة التحالفات بين هذه الفصائل والأيديولوجيا التي تحكمها، وينقل عن الصحفي السوري مالك العبدة قوله أن التحالفات بين الفصائل في معظم الأحيان تحصل عندما يريد الممول أن تحصل وحدة بينها، وتنفك هذه التحالفات حين يغير الممول استراتيجيته أو يحصل خلاف بين الفصائل حول التوزيع المالي.
يؤكد عبدالباسط سيدا – رئيس المجلس الوطني السوري السابق – لآرون لوند أن اتفاقاً حصل في مارس 2012 بين أميركا وقطر والسعودية وتركيا على تحويل ملايين الدولارات من الدول الخليجية إلى قيادة الجيش السوري الحر في تركيا (بزعامة العقيد رياض الأسعد) من خلال مكتب المجلس الوطني السوري (الذي توسع لاحقاً وبات جزءاً من الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة)، ولهذه الآلية عدة أهداف: فهي تزاوج بين القيادة السياسية الممثلة بالمجلس الوطني وقيادة الجيش الحر، وتقوم بتمويل الثوار، وتصنع مركزية لتمويل الفصائل المسلحة، بحيث تجبر فصائل المعارضة المسلحة على الدوران في فلك محور المجلس الوطني / الجيش الحر.
أما التمويل الشعبي القادم من الخليج فهو يعزز الفصائل السلفية المذهبية المقاتلة على الأرض السورية بالمال لشراء السلاح والعتاد، وهناك لجان شعبية معلنة في الكويت مثلاً لهذا الغرض، وهناك أيضاً بحسب آرون لوند لجنة يشرف عليها محمد سرور زين العابدين (المقيم في قطر) تقوم أيضاً بتقديم مساعدات مالية إنسانية وعسكرية وخاصة في جنوب سوريا.
تواصل الدول الخليجية تقديم المساعدات على محور المجلس الوطني (الائتلاف) / الجيش الحر، بينما يتذمر قادة هذا المحور من ضعف التمويل المالي، فيما يشير آرون لوند إلى إن هناك فساداً كبيراً يمنع الأموال من الوصول من تركيا إلى الفصائل المقاتلة في سوريا، بالإضافة إلى عوائق أخرى بيروقراطية وأمنية، وهو ما يؤكده عدد من المراقبين للشأن السوري، على عكس التبرعات الشعبية التي تصل بشكل أفضل على ما يبدو. يلعب السي آي أيه دوراً في المتابعة ومراقبة الفصائل المقاتلة منعاً لوصول المال إلى مجموعات يعتبرها متطرفة بحسب مقال نشره إريك شميت في نيويورك تايمز (٢).
كذلك تقدم الولايات المتحدة دعماً للجيش الحر (٣) عبر منظمة تحمل اسم “مجموعة الدعم السورية” أو (Syrian Support Group) وهي منظمة خاصة حصلت على ترخيص في صيف عام 2012 من وزارة الخزانة الأميركية لجمع التبرعات المالية للجيش الحر، وهي توفر للحكومة الأميركية رفع الحرج عنها في قضية الدعم المباشر والعلني للفصائل المسلحة في سوريا، ولا تتعامل المجموعة مع رياض الأسعد في تركيا، بل تذهب بالمال مباشرة إلى المجالس العسكرية داخل سوريا (وهي مجموعات مقاتلة تحت لواء الجيش الحر، عددها تسعة ولا يبدو أنها خاضعة لقيادة الأسعد، وفي مارس 2012 أعلنت خمسة من هذه المجالس توحدها تحت قيادة داخلية جديدة للجيش الحر يمثلها قائد المجلس العسكري في حمص العقيد قاسم سعد الدين، لكنه فيما يبدو أيضاً لا يمتلك تأثيراً كبيراً).
إن المال الخليجي الرسمي والشعبي هو اللاعب الرئيسي في تغذية الفصائل المسلحة وإعلاء شأن المجموعات الإسلامية المذهبية على غيرها، وهو ما تؤكده عدة تقارير غربية، من أحدثها مثلاً تقرير كولين فريمان في صندي تلغراف البريطانية (٤) عن دعم قطر للمجموعات المتطرفة في سوريا وانخراطها في دعم المقاتلين الأجانب، وهو ما يعني أن الفصائل الفاعلة على الأرض السورية هي تلك المدعومة خليجياً، وأي تقييم سياسي يجب أن يركز على الفصائل الرئيسية الفاعلة التي هي أقدر من غيرها على الحصول على التمويل الخليجي الرسمي والشعبي، وكذلك على المجموعات الجهادية التي تمول من أكثر من طرف وتبدو أكثر قدرة تنظيمياً من غيرها.

الخطاب والشعارات

حين نتحدث عن المشروع الذي تحمله الفصائل الفاعلة على الأرض فلابد من العودة إلى خطاب هذه الفصائل والشعارات التي ترفعها ثم سلوكها على الأرض. فيما يخص الخطاب والشعارات فإن الفصائل المسلحة تنقسم إلى فصائل منضوية تحت لواء الجيش السوري الحر، وفصائل جهادية مكونة من مقاتلين سوريين وعرب وأجانب.
الجيش الحر هو حالة غير منظمة بشكل مركزي، فهناك فصائل عديدة تقاتل تحت شعار الجيش الحر لكنها لا تلتزم بقيادة واحدة مركزية، غير أن هذا لا يعني أنه لا يوجد تنسيق بين الفصائل المقاتلة، والتنسيق يأخد بعدين رئيسيين:أحدهما متعلق بالتمويل كما أسلفنا، والآخر بالتوزيع الجغرافي، حيث تنسق الفصائل المقاتلة في إدلب وريف حلب مثلاً مع بعضها فيما يمكن تسميته غرف عمليات مشتركة، وتنسق فصائل تقاتل في حمص مع بعضها، وهكذا.
قائد الجيش الحر رياض الأسعد لا يملك تأثيراً مركزياً من الناحية التنظيمية، لكنه يملك تأثيراً مالياً من خلال الدعم الخليجي، وهو في تطلعه إلى المزيد من الدعم الخليجي الشعبي والرسمي يبني خطابه “لأهل السنة في الخليج” (٥) على تفسير الصراع في سوريا على أنه صراع مصيري بين “السنة والصفويين” وليس صراعاً بين شعب ونظام، ويحذر دول الخليج من الهلال الشيعي الذي لن تسلم منه، خاصةً وأنهم (الإيرانيون والسوريون) يحركون الشيعة في البحرين والمنطقة الشرقية من السعودية، وبالتالي يقود المال إلى تشكيل الأيديولوجيا والتحالفات بين الفصائل المقاتلة كما أسلفنا على أساس التجييش المذهبي، وبعد أن كانت الثورة السلمية في الأرياف تأخذ بعداً طبقياً مُطَعّماً بشعارات الحرية والكرامة، جاءت الفصائل المسلحة المدعومة بالمال الخليجي لتستخدم الخطاب المذهبي في التعبئة ضد النظام.
هذا الخطاب يجد صداه أيضاً في عدد من الخطابات والشعارات المرفوعة من قادة الألوية والكتائب المنضوية تحت اسم الجيش السوري الحر، بل وحتى في أسماء هذه الكتائب، فمثلاً هناك كتيبة يزيد بن معاوية (٦) (هناك اكثر من كتيبة باسم يزيد بن معاوية في اكثر من منطقة) مع ما يحمله الاسم من دلالة طائفية، وهناك كتيبة الشهيد صدام حسين (٧) التي غير قائدها اسمها معتذراً من إخوتنا الكويتيين ومبرراً هذه التسمية بأنها تقدير لموقف صدام حسين في وجه “المد الشيعي الفارسي المجوسي”.
لواء التوحيد يبدو أقل الفصائل طائفية كما يشير إلى ذلك الباحث آرون لوند، وهو لواء يتبع أيضاً للجيش الحر لكنه مستقل عملياً وفاعل بالذات في حلب وريفها، ويقوده عبدالقادر الصالح، ويموله بحسب بعض المصادر إسلاميون مغتربون ومن بينهم الإخوان المسلمون، وقائد اللواء يشدد في لقاءاته (٨) على حفظ حقوق الأقليات، لكن النزعة الإسلامية لا تفارق هذا اللواء الذي يصفه آرون لوند بأنه أقل الألوية طائفية وأنه من النادر أن تجد فصيلاً مسلحاً أقل طائفية منه، فهو اعترض مع جبهة النصرة وأحرار الشام وغيرها من التنظيمات الجهادية على ظهور الائتلاف الوطني السوري في الدوحة، وشدد مع هذه الفصائل على مشروع الدولة الإسلامية في حلب (٩)، وهكذا فإن لواء التوحيد يقترب أكثر من الجهاديين في تصوره السياسي للدولة، خصوصاً وأنه ينسق معهم في قتاله في حلب وريفها من خلال مركز عمليات مشترك.
الفصائل الجهادية أكثر تنظيماً وتبدو أيضاً أكثر وضوحاً في مشروعها، وأبرز الفصائل الجهادية الفاعلة في سوريا جبهة النصرة (بزعامة أبي محمد الجولاني) وأحرار الشام (وهي مجموعة تنشط في أكثر من منطقة سوريا وبالذات في شمال غرب البلاد)، هناك أيضاً مجموعة من الفصائل الجهادية أقل من الفصيلين المذكورين، منها على سبيل المثال فتح الإسلام (وهي مجموعة تأسست عام 2006 في لبنان بقيادة شاكر العبسي واشتُهِرت بعد حربها في مخيم نهر البارد مع الجيش اللبناني عام 2007)، ولواء صقور الشام (الذي تأسس في سبتمبر 2011 في جبل الزاوية بقيادة أحمد عيسى الشيخ “أبو عيسى” وهو يتلقى تمويلاً من محمد سرور زين العابدين بحسب آرون لوند)، وأيضاً كتيبة الأنصار ولواء الأمة وفجر الإسلام وكتائب عبدالله عزام وأنصار الإسلام وغيرهم.
جبهة النصرة الجهة الجهادية الأبرز في سوريا، بل وهي اليوم الأبرز تنظيمياً والأكثر بسالة في قتال الجيش النظامي، وقائدها الفاتح أبو محمد الجولاني بايع أيمن الظواهري زعيم تنظيم القاعدة، كما أن كثيراً من مقاتليها كانوا ممن قاتلوا في العراق لفترات طويلة، وأدبيات القاعدة ليست بحاجة إلى شرح مفصل، لكن المهم أن إعلان الجبهة عن نفسها كان في 23 ديسمبر 2011، وقامت على إثره بتفجيرات عدة في دمشق في بداية العام 2012 حيث بدأت الجبهة تظهر وتعرف نفسها من خلال بيانات تتبنى التفجيرات (١٠) وتتوعد النظام: “أوقف مجازرك ضد أهل السنة، وإلا فإنما عليك إثم النصيريين (العلويين)، والمقبل أدهى وأمرّ بإذن الله تعالى”، والمثير أن إعلان الجبهة قوبل بتشكيك واسع من معارضين سوريين، حيث اعتبروها مؤامرة من النظام لإلصاق “الإرهاب” بالثورة، لكن الجبهة لاحقاً فرضت نفسها على الأرض، ما دعى هؤلاء إلى التعايش مع “الإرهاب” وتبريره.

ماذا عن سلوك الفصائل؟

إذا كان الخطاب العام للفصائل المسلحة الفاعلة في سوريا يحمل نبرة طائفية، فهل يترجم هذا إلى أعمال عنف طائفي وقتل على الهوية؟. في الحقيقة يمكن رصد العديد من أعمال العنف الطائفي في سوريا، والتي شاركت فيها فصائل المعارضة المسلحة، فمثلاً كتبت ليز سلاي في واشنطن بوست في نوفمبر 2011 (١١) عن قتال طائفي في حمص بين السنة والعلويين، وعن جرائم متبادلة باعتراف نشطاء معارضين في حمص.
هذا القتال الطائفي في حمص ظهر أيضاُ في حماة والقرى المجاورة لها، وأيضاً في حصار الشيعة في قريتي كفريا والفوعة ( تأكيداً لشعارات كالتي تتردد في إحدى أناشيد جبهة النصرة (١٢) التي ينشدها طفل صغير: رح نحمي هالضيعة / بنّش ما منبيعا / رح ندبح الشيعة / بكفريا والفوعة) لأكثر من عام من خلال مقاتلين ينتمون لكتيبة صقور شمال إدلب (١٣) وكتائب أخرى تابعة للجيش الحر، وهذا الحصار والتجويع يبرر عقائدياً بكون “الشيعة محاربين لله”.
هناك أيضاً تفجير منطقة جرمانا (١٤) في ريف دمشق والتي يقطنها غالبية من المسيحيين والدروز، وهذه المنطقة لم يتم تفجيرها بالسيارات المفخخة مرة واحدة، بل عدة مرات في 28 أغسطس و3 سبتمبر و29 أكتوبر و28 نوفمبر 2012. أيضاً يمكننا أن نذكر القصف المتكرر لحي المزة 86 (١٥) في دمشق الذي تقطنه غالبية علوية، وتفجير سيارات مفخخة فيه، وتهجير سكانه أيضاً، وتهجير سكان حي السيدة زينب (١٦)، وتفجير باب توما في دمشق (١٧) حيث يقطن المسيحيون، وفي بلدة السلمية بمحافظة حماة (١٨) حيث تقطن غالبية إسماعيلية فجرت جبهة النصرة معملاً للسجاد، والحجة الدائمة في تفجيرات كهذه هي أنها تستهدف الشبيحة، وتفجير السلمية هذا كان قد استنكره الائتلاف (١٩) الوطني المعارض قبل إعلان الجبهة المسؤولية عنه، وهذه شواهد للتمثيل لا الحصر.
أعمال القتل تطال أبناء الطائفة السنية أيضاً بناءً على الموقف السياسي، وأعمال تفجيرٍ تستهدف الناس في أحياء ومناطق موالية للنظام مثل تفجير كلية العمارة في حلب، والتفجيرات التي تتبناها جبهة النصرة مثلاً في دمشق، وبعضها يستهدف أمن النظام وعسكره ويصيب المدنيين (وهذه المسألة مبررة عند الجهاديين، فماذا عن غيرهم؟)، كما أن الجبهة تستهدف كل موالٍ للنظام، فلا تترك حتى الإعلاميين، وهكذا فهي تعلن مسؤوليتها عن قتل الإعلامي محمد السعيد (٢٠) المذيع في التلفزيون السوري الرسمي.
ويجدر بنا أن نتذكر أن الفتاوى بقتل الموالين للنظام أياً كان موقعهم صدرت حتى من خارج سوريا ومن أشخاص غير محسوبين تقليديين على الخط الجهادي بل وخاضوا معارك فكرية معه في وقت سابق، مثل فتوى الشيخ يوسف القرضاوي (٢١) بقتل كل الموالين للنظام سواءً كانوا مدنيين أو عسكريين أو علماء أو جاهلين، ما يدل على حالة الجنون التي تترجم على الأرض في سوريا، ومن هذه الترجمة تفجير الشيخ البوطي ومن معه في المسجد، والتي هلل لها البعض وكبّر، واعتبر أن دم البوطي وماله مستباحان.
أعمال القتل الأهلي والطائفي تحظى بإدانة شديدة من تقارير حقوقية (٢٢) لمنظمات مثل هيومن رايتس ووتش، كما تحظى أيضاً بتغطيات واسعة في الإعلام الغربي والعالمي الذي بات يصف ما يجري في سوريا بأنه حرب أهلية، لكن هذه الأخبار لا تسلط عليها الضوء قناتا الجزيرة والعربية، فهي ليست في صلب اهتماماتهما التعبوية، فالدور المطلوب منهما هو تتبع الأجندة السياسية الخليجية دون أدنى تفكير بالمهنية.

هل هذه أخطاء فردية؟

المشهد في سوريا يعرض صورةً لثورة تحتضن صراعاً أهلياً يعبر أيضاً عن حرب إقليمية ودولية على الساحة السورية، وهذا الصراع الأهلي متمثل بعمل الفصائل المسلحة على محاربة المكونات الاجتماعية الموالية للنظام أو غير المناصرة للثورة وعدم الاكتفاء بمحاربة الجيش النظامي.
إن ما تقوم به الفصائل المسلحة ليست أخطاءً فردية
أولاً: لأن ما نتحدث عنه ليس سلوكيات معزولة لأفراد، لكنه مشروع الفصائل المسلحة الفاعلة والممولة خليجياً، فالتمويل يصنع التحالفات والأيديولوجيا، والخطاب والشعارات والتعبئة تُستَخدم فيها لغة طائفية، والسلوك الطائفي وقتل الموالين للنظام من السنة أو من غيرهم يُتَرجِم الخطاب، فالسلوك ليس معزولاً لأنه متوافق مع الخطاب، والاثنان يكوِّنان مشروعاً، ومشروع الفصائل هذا حين نخضعه للتقييم نجد أنه مشروع دولة طالبانية في أقل الأحوال سوءاً، ومشروع احترابٍ أهلي في أسوئها.
ثانياً: لأن هذه السلوكيات لا يمكن تفسيرها بخطأ فردي، فلو أننا تحدثنا عن بعض الشعارات الطائفية التي رفعت في المظاهرات السلمية لأمكننا القول إنها أخطاء فردية لأنها لا تعبر عن الجو العام للمظاهرات التي تؤكد في خطابها العام على المطالبة بالحرية والدولة المدنية، ولو تحدثنا عن حادثة خطف مثل تلك التي استهدفت المطرانين بولس يازجي ويوحنا إبراهيم في حلب لربما جاز الحديث عن أخطاءٍ فردية، لكن لا يمكن اعتبار عمل مجموعة كاملة على استهداف حي بالتفجيرات المفخخة عدة مرات خطأً فردياً، أو قصف حي بالهاون والمدفعية الثقيلة وتهجير أهله، أو محاصرة قرية لأكثر من سنة وليس ليوم أو يومين، فكل هذه الأعمال لا يقوم بها أفراد معزولون بل فصائل تفاخر أصلاً بهذه الأعمال وتتبنى كثيراً منها.
ثالثاً: لأن حجة عدم وجود مركزية في تنظيم الجيش الحر (بينما جبهة النصرة تتمتع بمركزية في التنظيم) المستخدمة للقول بأن هذه أخطاء فردية غير دقيقة، فالتمويل الذي تقدمه دول الخليج لفصائل الجيش الحر مركزي ويُسلم لأيادٍ محددة، وصحيح أن الفصائل نفسها تتحرك بشكل غير مركزي على الأرض، لكن تمويلها يمكن أن يُمنع في حال ثبت تورطها في أعمال عنف طائفي، أو على الأقل يمكن التبرؤ منها إعلامياً، كما أن هناك حد أدنى من التنظيم في كل فصيل، وهو الذي يجعل قائد لواء التوحيد عبدالقادر الصالح (٢٣) يحاسب كتيبة أبو القاسم بسبب قيامها “بأعمال شائنة تمس سمعة لواء التوحيد من معاملة الناس بطريقة سيئة و القيام بالاستيلاء على البضائع القادمة من المعامل“، ما يعني أن المحاسبة ممكنة، من خلال التمويل نفسه أو من خلال القيادات داخل الفصائل.
إن اعتبار مشروع الفصائل المسلحة الممولة خليجياً “ثورةً مضادة” لتطلعات الجماهير التي خرجت في بداية الثورة تطالب بالحرية والكرامة ليس رفضاً للثورة على نظام استبدادي مجرم وليس فيه أي انحياز له كما يتوهم البعض، إنما هو انحياز للجماهير التي بدأت الثورة والتي لم تكن تريد استبدال مستبد بمستبد آخر أو بمجموعة من أمراء الحرب ليقودوا البلاد للفوضى، وإنما كانت تطالب بالحرية والدولة المدنية، وهو ما يختلف جذرياً مع مشروع الفصائل المسلحة المتمثل في خطابها وسلوكها على الأرض، والتي قدمت للنظام فرصة ذهبية لممارسة تكتيكه المفضل الذي اتبعه إبان أزمة الثمانينات مع الإخوان المسلمين، وهو التأكيد للسوريين والعالم أنه يتعامل مع مجموعات متطرفة طائفية تحمل السلاح وتريد الخراب.
الواجب الأخلاقي يقتضي إدانة إجرام النظام بدايةً، والذي لم يتورع عن استخدام الطائرات وصواريخ سكود في قصف القرى والمدن، لكنه يقتضي أيضاً إدانة كل اعتداء على المدنيين الأبرياء، وكل أعمال العنف الطائفي أياً كان منفذها، وكل المشاركين في مشروع احترابٍ أهلي على الأرض السورية، وحديث البعض عن رفض المساواة “أخلاقياً” بين جرائم النظام وجرائم الفصائل المسلحة غير صحيح، فلا مساواة في المسؤولية، حيث النظام يتحمل المسؤولية الأكبر عن كل ما جرى ويجري.
لكن الجريمة هي الجريمة، وإدانتها ضرورة أخلاقية، والحديث عن رفض المساواة بين الجريمتين يستبطن التعامل مع الضحايا كأعداد لا كأرواح بشر، فمن يقتل أكثر هو المستحق للإدانة، كما يستبطن التعامل مع هوية المجرم لا مع الجريمة ذاتها، فالمطلوب إدانة مجرم محدد بناءً على موقف سياسي، والتغاضي عن مجرم آخر أيضاً بناءً على موقف سياسي، ويكشف هذا أن الشعار الأخلاقي في هذا الكلام هو غطاء لموقف سياسي يتم تقديمه في السجال على أنه موقف أخلاقي لإضفاء “العصمة” عليه.
لا يتوقف الأمر على التناقض الأخلاقي، بل يتعداه إلى ارتباك الموقف السياسي، فهناك من يتحدث عن الثورات الديمقراطية في الوقت الذي يؤيد فيه فصائل تحمل مشروع الدولة الطالبانية، وهنا يبدو الأمر مجرد انتقام من نظام الأسد دون تصور لنظام بديل، أو تقديم التصور الساذج بأن جبهة النصرة ستسقط الأسد ثم يأتي دور المعارضة الخارجية لتسلم البلاد، ويحاول البعض معالجة هذا المأزق في الرؤية السياسية بهذه الطريقة: “فلتُسقِط جبهة النصرة الأسد، ثم نتفاهم معها بعد ذلك”.
وهذا حديثٌ عن حرب فصائل مؤجلة على طريقة الفصائل الأفغانية بعد الانسحاب السوفييتي، وهو حديث مستند على وعود قدمتها قيادة الجيش الحر ورعاته الإقليميون للولايات المتحدة بمحاربة النصرة في حال سقوط النظام، لكن هذه الحرب لم تنتظر هذا التأجيل أصلاً، فقد بدأت بوادرها بالفعل بعد مقتل ثائر وقاص القيادي في كتائب الفاروق (٢٤) التابعة للجيش الحر، والشكوك حول تورط جبهة النصرة في هذا الاغتيال انتقاماً من وقاص للاعتقاد بأنه قتل فراس العبسي أحد قيادييها.
هذا الموقف السياسي المرتبك الذي يصرخ مديناً سفك النظام للدماء ويزايد على الآخرين لا يطرح إلا حلولاً دموية: من التدخل الخارجي (الذي ثبت في ليبيا أنه زاد عدد القتلى المدنيين) (٢٥) إلى تسليح الفصائل المتطرفة، وصولاً للتنظير لحرب فصائل مؤجلة وحرب أهلية واسعة بالضرورة بعد سقوط النظام على غرار أفغانستان.
لكن الارتباك السياسي والأخلاقي في الموضوع السوري لم يمنع بعض أصحابه من إقامة حفلة مزايدات وصلت إلى تبني خطابٍ طائفي بشعار الاستنكار الأخلاقي لجرائم النظام السوري.

المزايدة طريق الطائفية

ابتُلينا بأشخاص ومجموعات تنصب نفسها حارسة لقيمة من القيم أو قضية من القضايا ووكيلاً حصرياً لها، فالحكوميون (ومن يُسمون “البيض” في تويتر) يقدمون أنفسهم وكلاء للوطنية، ويتبرعون بفحص دم الناس للتأكد من وطنيتهم، وبعد الثورات وجدنا من ينصبون أنفسهم وكلاء للثورات، يزايدون حتى على مؤيديها، ويقدمون موقفهم التفصيلي منها باعتباره موقفاً معيارياً لابد للمرء أن يتبناه حتى يُحسب ثورياً أو مؤيداً للثورات.
تبني ثنائية الخير/الشر في النظر إلى المسألة السورية دفع البعض إلى الذهاب بعيداً في “التكفير السياسي” لأنصار النظام ومؤيديه، وهو ما اتضح في الاحتفال بمقتل البوطي، بما يعني أن شعار “لا حرية لأعداء الحرية” تم استبداله بشعار “لا حياة لأعداء الحرية”.
ولا يخلو الأمر من مزايدات على الثوار أنفسهم وعلى معارضي النظام، فهيثم مناع الذي قتل النظام أخاه وكان معارضاً شرساً للنظام قبل الثورة وبعدها يُتهم بأنه مع النظام فقط لأنه ضد التدخل الخارجي، والأمر نفسه يحدث مع رئيس الائتلاف الوطني السابق الشيخ أحمد معاذ الخطيب الذي يتهم من أطراف في المعارضة السورية ومن آخرين بأنه باع الثورة فقط لأنه اقترح حواراً مع النظام.
إن ما حصل في مواقع التواصل الاجتماعي بعد مجزرة بانياس البشعة هو معالجة لسفك الدم بالمطالبة بالمزيد من سفك الدم وخوض الحرب الأهلية، فقد حصلت حملة “تشبيح” واسعة ترفض مجرد انتقاد الفصائل المسلحة في سوريا وتعتبر ناقديها شركاء في قتل الأطفال!. لا مشكلة في أن تعبر عن غضبك وعن موقفك السياسي، لكن المشكلة في تحويل الموقف السياسي إلى مفاصلة عَقَدية ومسألة ولاء وبراء باسم الدم المسفوك، والمزايدة على الآخرين وإقامة محاكم التفتيش لاستنطاق مواقفهم.
استُخدمت عبارة الأغلبية والأقلية بكثرة في حفلة الجنون تلك، وهذه عبارة يمكن القبول باستخدامها على أساس الأغلبية والأقلية السياسية، أما الأغلبيات والأقليات الطائفية فهي ليست معتبرة في خطاب ينشد المواطنة ولا ينظر للناس وفق خلفياتهم المذهبية بل باعتبارهم مواطنين متساوين، لكن هناك من قرر أن يُخرج الطائفي الذي بداخله، وباسم الدم (ومن موقع الأغلبية السنية الضحية لاعتداءات الأقلية العلوية) يتحدث عن مهزلة التسامح مع الأقليات والحرص المبالغ فيه عليها، مع أن من ينظر للسوريين كمواطنين عرب لا يرى أقلية علوية وأكثرية سنية وإنما يرى مواطنين مدنيين لا يجوز الاعتداء عليهم لا من النظام ولا من الفصائل المسلحة، ويعتبر أن قتل المدنيين العزّل مدان من أي جهة أتى وعلى أي جهة وقع.
تنتقل المزايدات من “إن لم تكن مع التدخل الخارجي فأنت مع النظام” إلى “إن لم تكن مع الطائفية فأنت مع النظام”، ويصل الأمر إلى مستوى جديد عبر مزج الطائفية بالعنصرية، فالبعض يتحدث عن “السكان الأصليين” – وهم السنة هنا – في مواجهة “مجموعات متوحشة في الجبال” – وهم العلويون – رابطاً هذا الحديث بالتأكيد على توظيف الطائفيين في الخليج والعراق ولبنان (الطائفيون هنا هم الشيعة فقط) لشعارات الحرب على الإرهاب في استهداف “الأغلبية السنية” ومحاصرتها، وهذا الكلام طبعاً يرجى منه التأسيس لخطاب المواطنة والديمقراطية الدولة المدنية!.
ولتبرير هذا التموضع الطائفي لابد من السخرية من كل رفضٍ للطائفية، وهكذا فإن “لا للتائفية” تقال في سياق السخرية برافضي حفلة الجنون المكارثية، وينشر هذه السخرية بعض من يفترض أن يكونوا أصلاً في الصف الرافض للطائفية، لكنهم بقدرة قادر يتحولون في لحظة انفعال إلى ركوب الموجة المذهبية، وينتهي الأمر بهم إلى الموافقة على أنه انتهى عهد ضبط النفس، ولنقصف قرى العلويين إذاً و”تباً لكل شيء يا صديقي”، مع ما تعنيه هذه العبارة من التحلل من كل اعتبار أخلاقي، والدعوة لمعالجة سفك الدم بالمزيد من سفك الدم، وهكذا فإن هذه الغضبة على المجزرة لا يعود لها معنى أخلاقي حين يقودك من يرتكب المجزرة إلى أخلاقياته وسلوكه.
بعض من يقدمون أنفسهم وكلاء للثورة السورية وأحرص على الدم السوري من الآخرين يذهبون بعيداً في المزايدة، فيؤكدون أن “عقلاء الشيعة” – وهي الكلمة التي يستخدمها الصحفيون الحكوميون في مسألة تحديد الولاء – أمام ” حرجٍ تاريخي بصمتهم عن المجازر الوحشية التي ارتكبها حزب الله”.
وبعيداً عن التوصيف المذهبي لهذا الكلام المنطلق من ثنائية “نحن و هم” المذهبية، فإن هؤلاء هم آخر من يتحدث عن “الحرج التاريخي” في المواقف والملفات المطروحة على الساحة، فيمكن ببساطة تذكيرهم بحرجهم التاريخي أمام تفجير الناس في العراق، وأمام قتل الثوار السلميين في البحرين وتعذيبهم، ويمكن أيضاً تذكيرهم بحرجهم التاريخي داخل بلدهم أمام قتل المتظاهرين في القطيف، وأمام الظلم الذي تعرض له حمزة كشغري، وأمام اعتقال تركي الحمد، وأمام عشرات الملفات الأخرى التي لا يجرؤون إلا على الصمت أمامها لأسباب سياسية وتكتيكية متعلقة بالجمهور.
إن من يزايد في هذه المواقف عليه أن يتذكر أنه لم يؤدِ قسطه للعلا، وأنه سيُواجَه بتقصيره في عدد من القضايا، وستُفتح له الملفات، والأسلم له ألا يخوض معركة خاسرة ويكتفي بالستر على نفسه.
يصل العمى الطائفي إلى تضييع بوصلة الأصدقاء والأعداء، فيهلل فلول المعارضة الصحوية في التسعينات لغارات إسرائيل على الأراضي السورية (وهي غارة عدو الأمة على أرض سوريا وليست على نظام بشار الأسد)، كما يعبر الشيخ “التنويري” الذي عارض بشراسة استقدام القوات الأميركية لتحرير الكويت عام 1990 عن بهجته في صباح الغارات الإسرائيلية، فهو صباح “المسرات والأفراح”، والله سبحانه وتعالى “قد ينتقم من ظالمٍ بظالم”، ثم ينتقم من الآخر.
ما تعنيه عبارات التأييد هذه للغارة الإسرائيلية على سوريا أن هؤلاء يعترفون بإسرائيل ضمنياً ويرونها “دولةً فاعلة” في المنطقة، إذ إنهم يقبلون بالتقاء مصالح معها ولو مؤقتاً، والتحالف معها في وجه “أعداء أخطر”، وهكذا فإن أولويات الصداقة والعداء تخضع لتعريف جديد، وهنا يبدو أننا ندخل مرحلة جديدة بات فيها التأكيد على ثوابت وبديهيات من قبيل العداء مع إسرائيل ورفض الطائفية أمراً ضرورياً كي لا يكون الخطاب الطائفي عادياً، وكي لا يصبح احتفال عربي سوري في قنوات الصهاينة بغارة على سوريا باسم الثورة طبيعياً.
ويبدو أن التفريق سيصبح صعباً في الفترة المقبلة بين الإسلاميين من دعاة “الدولة المدنية” وبين الجهاديين، وسيكون التفريق صعباً أيضاً في مسألة التدخل الخارجي بينهم وبين النيوليبراليين من أمثال أحمد الجلبي والمعارضة الشيعية العراقية المتحالفة مع الاحتلال الأميركي، بل إن بعض الإسلاميين سيتفوق بالتحالف مع إسرائيل مباشرة.

لحظة مفصلية

إن دور المثقف الرافض للطائفية أن يرفع صوته برفضها في وقت الأزمات، لا أن يكتفي بالتنظير ضدها في أوقات الاسترخاء ثم ينجرف مع موجتها حين تشتد الأزمة ويمارس التحريض الشعبوي على من يختلف معه في الرأي والموقف، كما أن المثقف الناقد لا يوجهه الجمهور وانفعالاته، بل هو يقوم بدوره في رفض الموجات الانفعالية المؤدية إلى الفوضى والخراب، ولو عارض هذا رغبات الجمهور.
إننا أمام لحظة مفصلية في سوريا والمنطقة، فإما أن يحصل حل سياسي يغيِّر النظام وينهي الصراع (ولا حل سياسي مقبول إلا بتغيير هذا النظام المسؤول عن كل هذه الكوارث)، وأن يكون حلاً يضمن إنتاج نظام ديمقراطي، لا أن يكون حلاً محاصصياً بين الطوائف تمسك بمفاصله القوى الإقليمية والدولية تكراراً للنموذجين اللبناني والعراقي، وإما أن تستمر حرب أهلية مفتوحة لا تتوقف على حدود سوريا، وتشمل المشرق العربي برمته.
من لم يجبن ولم تمنعه شعارات المقاومة والممانعة ولا حسابات سياسية معينة من انتقاد نظام الأسد والوقوف مع الثورة لإسقاطه، لن يجبن ولن تمنعه شعارات الثورة والمزايدات باسم الدم المسفوك عن نقد الفصائل المسلحة الممولة خليجياً، وعن إدانة أي جريمة تقع بحق مدنيين سوريين، وعن رفض المحاور الطائفية والدعوة إلى مشروع عربي ينهي الطائفية ولا يضيع بوصلته ويعرف عدوه جيداً، فلا يفرط بأرضه وسيادته ولا يدوس على شعبه باسم المقاومة والممانعة.
هذا ما ستفعله بنا الطائفية: سيكون خراباً.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هامش:

(١) https://www.sultan-alamer.com/wp-content/uploads/77409.pdf

(٢) http://www.nytimes.com/2012/06/21/world/middleeast/cia-said-to-aid-in-steering-arms-to-syrian-rebels.html?pagewanted=all&_r=0

(٣) http://www.reuters.com/article/2012/08/02/us-usa-syria-obama-order-idUSBRE8701OK20120802

(٤) http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/middleeast/qatar/10022759/Qatar-playing-with-fire-as-it-funds-Syrian-Islamists-in-quest-for-global-influence.html

(٥) http://www.youtube.com/watch?v=-Ee7obXrmvk

(٦) http://www.youtube.com/watch?v=HSlfQ-UPlHk

 (٧) http://www.youtube.com/watch?v=NYs8C_2ahxc

(٨) http://www.youtube.com/watch?v=IXui55Jrbi8

(٩) http://www.youtube.com/watch?v=v151Fh6q_qM

(١٠) http://www.aawsat.com/details.asp?section=4&article=669153&issueno=12168#.UY85XoI8xG4

(١١) http://articles.washingtonpost.com/2011-11-03/world/35280901_1_arab-league-plan-homs-sunni

(١٢) http://www.youtube.com/watch?v=-BKUNbDfkxw

(١٣) http://www.youtube.com/watch?v=UjVoB5vnYI4

(١٤) http://observers.france24.com/ar/content/20121129-%D9%82%D8%B5%D9%81-%D8%B1%D9%8A%D9%81-%D8%AF%D9%85%D8%B4%D9%82-%D9%87%D8%B0%D8%A7-%D8%A5%D9%86%D8%B0%D8%A7%D8%B1-%D9%84%D9%84%D8%A3%D9%82%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%A3%D9%86-%D8%AA%D8%AE%D8%AA%D8%A7%D8%B1-%D8%B5%D9%81%D9%87%D8%A7

(١٥) http://www.syriahr.net/index.php?option=com_news&nid=553&Itemid=2&task=displaynews#.UY87xoI8xG4

(١٦) http://www.youtube.com/watch?v=zjDFzHyqchk

(١٧) http://www.telegraph.co.uk/news/worldnews/middleeast/syria/9624753/Syria-car-bomb-kills-10-in-Christian-quarter-of-Damascus.html(١٨) http://www.alraimedia.com/Alrai/Article.aspx?id=410310&date=28012013

(١٩)  http://arabic.rt.com/news/606163-%D8%AC%D8%A8%D9%87%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D8%B1%D8%A9_%D8%AA%D8%AA%D8%A8%D9%86%D9%89_%D8%AA%D9%81%D8%AC%D9%8A%D8%B1_%D9%85%D8%AF%D9%8A%D9%86%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A9_%D9%81%D9%8A_%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9/

(٢٠) http://www.france24.com/ar/20120804-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%84%D9%81%D8%B2%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%B3%D9%85%D9%8A-%D9%85%D8%B0%D9%8A%D8%B9-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D8%AF-%D8%AE%D8%B7%D9%81-%D8%AA%D8%A8%D9%86%D9%8A-%D9%85%D9%82%D8%AA%D9%84-%D8%AC%D8%A8%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5%D8%B1%D8%A9-%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%B9%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1

(٢١) http://www.youtube.com/watch?v=rMVyYj9-wAA

(٢٢) http://www.guardian.co.uk/world/middle-east-live/2012/mar/20/syria-opposition-accused-abuses-live

(٢٣) http://lewaaltawheed.com/?p=3017

(٢٤) http://www.iumsonline.net/ar/default.asp?ContentID=5625&menuID=12

(٢٥) http://www.guardian.co.uk/commentisfree/2011/oct/26/libya-war-saving-lives-catastrophic-failure