شاهدنا في الأيام الماضية صعوداً مظفراً لخطاب عنصري ضمن سياق الحملة التصحيحية الموجهة ضد العمالة الأجنبية في السعودية. لعب هذا الخطاب دوراً تعبوياً وتبريرياً لممارسات مفرطة في شدتها، وكان بالإمكان تفاديها بسهولة. ما سأحاول فهمه في هذه المقالة هو السر وراء سهولة بروز وسرعة تفشي مثل هذا الخطاب.
لكن قبل طرح أية إجابة، سأوضح ماذا أقصد بالعنصرية، فعلى رغم أنها مسألة تؤثر في سلوكياتنا وأخلاقيتنا، إلا أنها ليست مسألة محصورة في المجال الأخلاقي، أي أنها ليست محض التحيزات أو مشاعر الكراهية والحب التي قد يحملها الواحد منّا تجاه مجموعة من البشر تتشارك بسمة أو صفة محددة.
إن العنصرية بنية اجتماعية، أي أن هذه المشاعر والتحيزات تشكلت ونبعت ضمن سياقات ومؤسسات اجتماعية وقانونية وسياسية واقتصادية أنتجتها وتعيد إنتاجها باستمرار، جاعلة منها شيئاً أشبه ما تكون بالمسألة الطبيعية.
فعلى سبيل المثال، في الولايات الجنوبية الأميركية قبل الحرب الأهلية، كانت هناك مؤسسة للعبودية. كانت هذه المؤسسة تعتبر أشبه ما تكون بالطبيعية، وذلك نتيجة ترسخها لعقود من التشريع القانوني والأعراف الاجتماعية والمصالح الاقتصادية. قد يدين أحد الأفراد هناك «المعاملة السيئة للعبيد»، لكنه لن يدين حقيقة كونهم عبيداً، إن عدم الإحساس بوجود مشكلة هنا هو الجذر العميق لكل كراهية أو عنف قد ينجم تجاه المجموعة البشرية الخاضعة للعنصرية.
لننتقل إلى إشكاليتنا السابقة الآن، قد يبادر البعض بطرح تفسير سريع من كلمة واحدة قائلاً: «الإعلام»، أي أن البعد الإعلامي للحملة سواء في تغطيته للأحداث أم في حثه المجتمع على التعاون معه أم في محاولته التسويغ والتبرير، أسهم في تأجيج هذه التحيزات العنصرية وتوفير إطار تبريري له.
في الحقيقة، إن هذا الجواب ليس دقيقاً، فالإعلام يحفز ويضخم «صحيح»، لكنه يحفز ويضخم تحيزات ومشاعر موجودة، ولا يستطيع خلق جديد، تستطيع عبر الإعلام أن تؤجج مشاعر الناس الدينية، لكنك لا تستطيع عبر الإعلام أن تجعلهم يتبنون ديناً جديداً. فصحيح أن المعالجة الإعلامية للحملة كان قائماً على تأطير المسألة ضمن سياق أمني وواجب وطني ونوع من الشيطنة للعمالة، إلا أن هذا لا يتجاوز كونه تحفيزاً لا إنشاء.
قد يأتي آخرون لطرح المسألة بإرجاعها إلى بعد اقتصادي بحت، أي أنه في أي مجتمع تتزايد فيه معدلات البطالة يزداد الحنق والغضب من العناصر الأجنبية، خصوصاً إذا كانت منتجة وفاعلة، في البلد. يقوم المحبطون بتفريغ غضبهم من وضعهم الاقتصادي عبر تبني نبرة عنصرية شوفونية حادة ضد الأجنبي، إلا أن هذا التفسير ليس دقيقاً أيضاً. فالبعد الاقتصادي مهم، لكن أهميته لا تنحصر بالنظر إلى العلاقة بين البطالة والعنصرية، بل يتجاوز ذلك في كونه يوفر أساساً يجعل التقسيم والفصل ممكناً. فسوق العمل السعودي منذ تأسيسه في الستينات الميلادية كان سوقاً مقسماً على أساس الجنسية، السعوديون في القطاع العام والأجانب في القطاع الخاص. ومع امتلاء القطاع العام الذي ترافق معه انفجار سكاني نشأت مسألة البطالة التي تسعى وزارة العمل إلى حلها عبر إحلال المواطنين مكان الأجانب في القطاع الخاص، إن جذور «التمايز» سابقة على البطالة، ونابعة في شكل أساسي من كونها عواقب لتبني حلول ظرفية للمشكلات والأزمات.
فمنذ البداية، كان هناك ارتباط عضوي بين الجنسية والوضعية الاقتصادية والقانونية للعامل في سوق العمل السعودي، هذا الترابط أنشأ حالاً اجتماعية جعلت من الجنسية والمهنة والمكانة الاجتماعية حالات مترادفة. على سبيل المثال، أصبح من الدارج في اللغة المحكية تسمية المهن بأسماء الجنسيات، مثلا: «جب لك هندي يصلح لك هذا الخراب»، فـ«هندي» هنا ليست جنسية بل «مهنة». فعلى رغم كون الهندي في السعودية قد يعمل طبيباً ومهندساً وعامل نظافة وسائق تاكسي وميكانيكياً إلا أنه، ربما لأسباب تتعلق بكمية العمالة الهندية في وقت مضى، ولكون الوظائف الحرفية اليدوية هي الظاهرة للعيان والتي يمكن للجميع تجربتها في شكل يومي، كل هذا جعل من الممكن الترادف بين الكلمتين.
هذه الأعراف الاجتماعية التي تشكلت وتراكمت ضمن سياق زمني يمتد لخمسة عقود جعلت حاجز الجنسية ظاهراً في حياتنا اليومية، وجعل منه مركباً قيمياً يحمل في داخله تحيّزات طبقية واجتماعية واقتصادية، أي أن هذا الوضع أسهم في إنتاج عقدة تفوّق أخلاقية وذهنية وثقافية مرتبطة بالجنسية.
وبإعادة الاعتبار لعقدة التفوّق هذه، يمكن فهم الأثر الذي لعبته البطالة ويلعبه الإعلام. فمنذ التسعينات دخلت هذه العقدة في أزمة كبيرة مع نمو وتضخم مشكلة البطالة، إذ إن البطالة هنا ليست أزمة مادية فقط بقدر ما هي إهانة رمزية دائمة لفكرة التفوّق، وإنكار مستمر لها. في مثل هذه الحال الملتهبة لن يحتاج الإعلام إلى جهد كبير لإظهار كل هذه الجروح المحتقنة للسطح.
إن تجاهل هذه الأعراف الاجتماعية والتراكمات التاريخية للعنصرية بيننا، يجعل للسياسات التي يفترض فيها تقديم الحلول دوراً فاعلاً في تأجيج نارها. إن السياسات التي تكتفي بحل المشكلات الاجتماعية من جوانبها الاقتصادية البحتة وإغفال الأبعاد الأخلاقية والاجتماعية للقضايا لهي سياسات أسهمت في تشكيل العنصرية وإعادة تأكيدها، خصوصاً إذا ما جعلت معالجتها الإعلامية تتبنى أُطُراً تجعل من تحفيز التراكمات التاريخية أمراً محبباً ومطلوباً، بل واجباً وطنياً.