“ليست الأمة هي من تولد الدولة كما تقول الفكرة الطبيعانية القديمة التي كانت أساس النظريات السياسية للدول القومية في القرن التاسع عشر. ما يخلق الأمة هي الدولة التي تهب للشعب وعيا بوحدتها الأخلاقية وإرادة وبالتالي وجودا فعالا… إن الدولة، حقيقةً، بصفتها إرادة أخلاقية عالمية، هي من تخلق الحق”
موسوليني في مقالته “مذهب الفاشية“
أطروحة حميد الدين:
في يوم ١٦ فبراير من عام ٢٠١٣، أجرت نادين البدير لقاء مع عبدالله حميد الدين في برنامجها اتجاهات، وكان موضوع الحلقة عن الهوية الوطنية السعودية. في الدقيقة الحادية عشر من هذا اللقاء سألت البدير حميد الدين: “إيش الشي اللي بيجمعنا اليوم؟”، بعد برهة صمت، وقليل من التلعثم، جاءت إجابة حميد الدين كالتالي: “أنا.. يعني.. قناعتي الشخصية… الدولة… أننا ننتمي إلى دولة واحدة”. سألته البدير: “يعني بس جوازات السفر هو اللي يجمعنا كمواطنين لهذا المكان؟”. أجاب حميد الدين: “لأ… يعني جواز السفر هو أحد تجليات الانتماء للدولة، الذي يجمعنا أن هناك وطن اسمه السعودية، له حدود معينة، له نظام سياسي معيّن: النظام الأساسي للحكم مثلا، وما يمكن أن يتطور إليه إلى أن يكون دستور أو أمر آخر… يجمعنا أننا لنا… آآآ… يعني ال آآ.. العامل الغائب– إذا صح التعبير- يجمعنا الذي هو أن نشارك مع بعض في بناء هذا الوطن.. فالحدود، النظام الأساسي، زائد المشاركة هي المفروض المقومات الأساسية لما يعني أن أكون سعوديا“.
اليوم، في جريدة الحياة، كتب حميد الدين مقالة بعنوان “نحو نظرة معمقة إلى الدولة الوطنية السعودية“. وفي هذه المقالة، قرر حميد الدين التالي (وسأختار النقاط المهمة التي أريد التعليق عليها):
١- أن الثقافة السياسية إما تبنى على أفكار كالقوم والدين، أو أنها تبنى على أساس- وما بين معقوفتين هو كلامه- “الحدود السيادية لدولة ما”.
٢- قد يكون للفرد ثقافات متنوعة، لكن مهما كانت الثقافة الأخرى فيجب أن تخضع للثقافة القومية. فالثقافة التركية للتركي القاطن في ألمانيا يجب أن تخضع للثقافة القومية الألمانية، وثقافة البخاري السعودي يجب أن تخضع للثقافة السعودية.
٣- الثقافة السياسية المبنية على الحدود السيادية هي الأقدر على احتواء واحترام الفروقات والتنوعات بين مختلف أطياف الشعب.
٤- القومي العربي السعودي عندما يصر على اعتبار “السعودي-البخاري” عربيا، لا يقوم بحل “مشكلة الثقافات” بل يقوم بمحوها لصالح الثقافة العروبية.
٥- على الدولة السعودية مراعاة مصالحها كدولة في سياستها الخارجية وليس مصالح الأمة العربية. وهو تفكير سطحي التضحية بالمصالح الجيوسياسية مقابل مصالح للأمة العربية ككل.
٦- القومي السعودي يعتبر نفسه امتدادا للمشاريع القومية والتي كانت كلها تهدف لتقويض الدولة السعودية.
٧- هناك فرق بين “شرعية الإنشاء” وبين “شرعية الاستمرار”. فكون الدول العربية نشأت بطريقة غير شرعية، لا يعني هذا أن استمرارها غير شرعي.
٨- أن القومي يساهم في استمرار الثقافة الشمولية التي “تريد من الفرد الولاء المطلق للفكرة”، و”تغض الطرف عن ممارسات العنف لأجل الحفاظ على نفسها، وتقدم نفسها على أنها غير قابلة للمناقشة”.
تفكيك الأطروحة:
هذه تقريبا هي لائحة الاتهام التي يسوقها حميد الدين في معرض دفاعه عن “الهوية السعودية”. سنقوم الآن بتفكيك هذه الدعاوى:
١- الدولة فكرة أيضا:
يصرّ حميد الدين عند مناقشته للهوية القومية بالتأكيد على أنها “فكرة”، وكأنه يريد القول أن “الولاء للحدود السياسية” ليس فكرة. ولا أعرف حقيقة ماذا يمكن أن نسمي “الولاء للحدود السياسية” إذا لم يكن فكرة أيضا. فالحدود السياسية في النهاية ليست “أمرا طبيعيا” بل هي “تواضع اجتماعي”، وهذا يعني أنها فكرة مثل غيرها من الأفكار. لو افترضنا أن شخصا افتراضيا جاء من كوكب آخر ولا يستطيع تمييز إلا المظاهر المادية، سيرى أن كوكب الأرض فيه تراب وجبال ومياه، لكنه أبدا لن يرى أن هناك حدودا بين الأردن والسعودية، فوجود هذه الحدود مرتهن لأفكارنا نحن، لاعترافنا نحن، لتواضعنا نحن.
٢- مآزق في اعتبار الدولة مصدر للهوية:
ملخص طرح حميد الدين: يجب أن تكون فكرة الدولة السعودية الحالية هي أساس الهوية السياسية. وهذا الطرح يعاني من عدة مآزق:
أ- أنه يلغي التاريخ:
وحميد الدين واضح في هذه النقطة، ففي تدوينته عن الهويّة الوطنية السعودية يقول بصريح العبارة أن الهوية الوطنية “ليست الذاكرة التاريخية المشتركة”.
إذا تم إلغاء البعد التاريخي من الهوية الوطنية فما سيبقى هو “الآن، والآن فقط”. ينظر حميد الدين لحدود للدولة التي وجد نفسه منتميا لها الآن (وهي بالمناسبة دولة لم يخترها)، فيقرر: هذه هويتي. وهذه الهوية، لأنها آنية، فإنها متغيرة بالضرورة، وتغيّرها هذا سيتبع تقلبات القوى. فعلى سبيل المثال لو قام الكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين وأجزاء من سوريا ولبنان بالتوسع واحتلال المنطقة الشمالية من السعودية، فسيقول حميد الدين: لا يهم ما مضى، ما يهم هو “الآن”، وبالتالي ستتغير هويته بتغير موازين القوى في العالم.
فهذه الهويّة الآنية مستسلمة تماما للقوي واملاءاته، وهي أفضل تبرير للخضوع للاستعمار. فلو كان حميد الدين يعيش في الهند يوم ١٤ أغسطس ١٩٤٧م، فإنه سيقول أن هويّة الهنود هي الهوية البريطانية، وسيقف في وجه حركة التحرر القومي التي يقودها غاندي معتبرا إياها “تقوض” الهوية السياسية للهنود. في اليوم التالي، أي في تاريخ ١٥ أغسطس، عندما أعلنت الحركة القومية الهندية استقلالها من الاستعمار البريطاني، فسيقول حميد الدين: الهويّة اليوم هي الهندية.
فمناهضة الاستعمار تنطلق في جوهرها على تفسير محدد للتاريخ: أن هذا المستعمر قام في الماضي باستباحة أراضينا نحن، ونحن سنقوم بالتضحية من أجل استعادة حقوقنا التي سلبت في الماضي. إلا أن حميد الدين لا يعتبر التضحية جزءا من الهوية، فهو يقول في تدوينته بشكل صريح أن الهوية الوطنية لا تتضمن “الاستعداد بالتضحية. فقد ينتمي شخص إلى وطن ولا يضحي له”.
فالهوية التي يبشر بها حميد الدين: آنية، مستسلمة للقوي، لا تنتظر أي تضحية لأجلها. أي هوية أنانية نفعية.
ولا مفر لحميد الدين من هذه الإلزامات إلا بأن يعترف بأن التاريخ يلعب دورا في تشكيل الهوية. كأن يقول مثلا: الحدود هي حدود الدول بعد الحرب العالمية الثانية . وهنا- هنا تحديدا- عندما يضع نقطة في التاريخ يجعل ما بعدها شرعيا وما قبلها غير شرعي، سيكون عليه أن يقدم تبرير لاختيار هذه النقطة، وهذا التبرير سيكون تاريخيا ومتحيزا بالضرورة. وأهم ما في هذا التبرير أنه سيعتبر أن للهوية منبعا غير الدولة وحدودها الآنية، بل منبعا منفصلا عنها هو هذه الرواية التاريخية التي يتبناها، وبهذا تنهار أطروحته بشكل كامل.
ب- أن الدولة السعودية كيان تاريخي ثقافي:
فالدولة السعودية ليست كيان محايد ثقافيا وتاريخيا، فالحدود الموجودة الآن لها “قصة”، أي تاريخ. وهذه القصة لا يمكن فصلها وإلغائها عن الدولة.
فعندما يقول حميد الدين أن من مقومات الهوية السعودية هو النظام الأساسي للحكم، فهو هنا يعتبر التالي جزءا من الهوية السعودية:
١- أن “تمثل الدعوة الإصلاحية التي قامت على أساسها الدولة السعودية الركيزة التي اعتمد عليها الحكم فيها ، و تقوم تلك الدعوة على أساس إقامة شرائع الإسلام و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و تطبيق مبـادئ الشريعـة الإسلاميـة ، وإصلاح العقيدة و تنقيتها من البدع و هي بذلك تستمد مبادئها من المبادئ الإسلامية الصحيحة التي كانت سائدة في صدر الإسلام” وأن “المملكة العربية السعودية، دولة إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولغتها العربية، وعاصمتها الرياض”. و “أن علم هذه الدولة “تتوسطه كلمة “لا إله إلا الله ومحمد رسول الله””.
٢- وأن “نظام الحكم في المملكة العربية السعودية … ملكي. وأن “يكون الحكم في أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود وأبناء الأبناء .. ويبايع الأصلح منهم للحكم على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم”.
٤- وأن “الأسرة هي نواة المجتمع السعودي .. ويربى أفرادها على أساس العقيدة الإسلامية وما تقتضيه من الولاء والطاعة لله ولرسوله ولأولي الأمر .. واحترام النظام وتنفيذه وحب الوطن والاعتزاز به وبتاريخه المجيد.” وأن “يهدف التعليم إلى غرس العقيدة الإسلامية في نفوس النشء وإكسابهم المعارف والمهارات وتهيئتهم ليكونوا أعضاء نافعين في بناء مجتمعهم محبين لوطنهم معتزين بتاريخه”.
وضمن نظام الحكم هذا. نجد أن الهوية السعودية التي يبشر بها حميد الدين ليست منفصلة عن التالي:
١- اعتبار الإسلام بحسب نسخته الوهابية جزءا أصيلا فيها.
٢- أعتبار الحكم ملكي- أي غير ديمقراطي- محصور في أسرة واحدة تستمد شرعية حكمها من حدث تاريخي هو “التأسيس”.
أي أن الترويج للهوية السعودية لا يمكن أن ينفصل عن الترويج لما تتضمنه من تحيزات ثقافية ودينية واستبدادية. وسنعود لهذه النقطة بعد قليل.
ج- أن الدولة هي جهاز عنف منظم:
يعرف الفيلسوف ماكس ڤايبر في مقالته “السياسة كمهنة” الدولة بأنها “تجمع بشري استطاع أن يملك تسويغا لاحتكار الاستخدام الشرعي للعنف في رقعة جغرافية محددة”. من هذا التعريف يمكن أن نخرج بنقطتين: الأولى، أن الدولة هي جهاز احتكار للعنف، أي أن الدولة هي التي تسجن، هي التي تعاقب من يخالف القوانين، هي التي تقتل…إلخ. أما الثانية، أن احتكارها للعنف هنا مشروط بأن يكون استخدامه شرعيا. وتحديد هذه الشرعية يعتمد على المرجعية الأخلاقية التي ننطلق منها في تقييمنا لفعل الدولة، وهذه المرجعية الأخلاقية هي في جزء كبير منها محدد الهويّة السياسية التي نتبناها.
في الاقتباس الذي استفتحنا به هذه التدوينة، يقرر موسوليني أن الدولة هي منبع الهويّة، أي أن الفاشية تعتبر أن الدولة هي من تحدد متى يكون استخدام العنف شرعيا من عدمه، وما ينبع من هذا الموقف هو أن كل ما تقوم به الدولة هو حق، وهذا ما صرّح به موسوليني عندما قال أن الدولة “هي من تخلق الحقّ”. من هذا المنطلق لا يمكن الاعتراض على الدولة، لا يمكن تخطئتها، إن قتلت فهي على حق وإن سجنت فهي على حق، ومهما يكن ما تقوم به فهي في كل أفعالها على حق. فبحسب موسوليني: “بالنسبة للفاشي، كل شيء داخل الدولة، ولا شيء بشري أو إنساني أو شيء ذو قيمة يقع خارجها. بهذا المعنى تكون الفاشية شمولية”.
أطروحة حميدالدين تقع ضمن هذه المدرسة، فالهوية تحددها الدولة، تنبع منها. من هم السعوديون؟ هم من يقرر نظام الجنسية السعودية من هم. ما هي حقوقهم؟ هي ما تقرره الدولة. لا شيء خارج هذه الدولة، لا تاريخ، لا ثقافة، لا قومية، تملك أي دعوى ضدها. بهذا المعنى يكون حميد الدين- دون وعي منه- فاشيا.
٣- الفرق بين الهويّة السياسية والمشروع السياسي:
في مقالة سابقة، كتبت عن “الفرق بين الهوية القومية والآيديولوجيا القومية“. وملخص الأطروحة عندما نقول أننا عرب فإننا نعلن أن هناك مجموعة سياسية تمتد من المحيط والخليج تحيط بها تحديات وتعيش ضمن واقع محدد، ويجب أن تقدم لهذه التحديّات جوابا. هذا الجواب ليس واحدا، بل متعدد ومتنوع ومرتبط بالظروف التاريخية والزمنية. فجواب عبدالناصر مثلا للمشاكل التي تحيط بالعرب يختلف عن جواب الملك فيصل، وجواب هؤلاء يختلف عن جوابي أنا أو جواب عزمي بشارة. فالمشاكل نفسها تتغير وتتبدل، والأجوبة نفسها تتغير: فمثلا في زمن عبدالناصر كانت هناك مشكلة رئيسية تتمثل بالاستعمار، الآن تحررت غالب الدول العربية من الاستعمار ما عدا فلسطين. في زماننا الحالي نعاني من مشكلة الطائفية، التي لم تكن حاضرة بقوة في زمن عبدالناصر.
ما لا يفهمه حميد الدين أن القومية العربية ليست هي “أجوبة عبدالناصر” للمشاكل التي كانت تحيط به، الهوية العربية موجودة قبل عبدالناصر- فهي الأساس الذي عليه تم تأسيس الجامعة العربية مثلا- وما زالت توجد حتى بعد عبدالناصر، حيث تتمثل بأبهى صورها في الربيع العربي هذه الأيام. بل حتى في وقت عبدالناصر، كانت هناك مشاريع قومية غير ناصرية، وهذه الحركات والأحزاب هي التي قام بجمعها محمد جمال باروت في سفره الضخم “الأحزاب والحركات والتنظيمات القومية في الوطن العربي“.
إلا أني لا ألوم حميد الدين في إصراره على جعل القومية هي الناصرية ولا شيء غير ذلك، فهو كما سبق أن ذكرنا: فاشي، لا يفهم وجود هوية بدون دولة، وبالتالي يعتبر دولة عبدالناصر هي منبع الهوية القومية ولا يمكن أن توجد بدونها.
فمن جهة الهوية: شيء، والآيديولوجيا: شيء آخر. ولو أصر حميد الدين على المماهاة بين الهوية والآيديولوجيا، فهل سيقبل مثلا أن نعتبر هويته امتدادا للمشروع السعودي؟ أنها هي الوهابية مثلا؟ هل سيقبل أن نعتبر التجربة السياسية السعودية من استبداد، واعتقال للمئات دون محاكمة وتهمة لسنوات، وقمع الحراك الدستوري السلمي، وملاحقة الناشطين والتضييق عليهم، بأنه هو ما يعنيه بالهوية السعودية؟ هل سيقبل أن يكون رموز هويته الوطنية هم الملك فهد والأمير نايف والأمير مشعل والشيخ ابن ابراهيم وابن باز؟
أخيرا، هذه القدرة التي تمتلكها الهوية القومية على الفصل بين الهوية والمشروع السياسي ونقده من أرضية مشتركة دون الانخراط فيه، لا تملكها الهوية الفاشية التي ينظر لها حميد الدين التي تعتبر أن الهوية هي المشروع نفسه لا شيء آخر.
جميل ماقلت ولكن هناك بعض العبارات الي وضعتها في فم حميد الدين .
رؤيته للقوميه والدولة خلينا نقول إنه سطحي يقرأ مايوصل له من القوميين القدماء ولم يفصل هو ويستنتج ذلك .
لأن تيار حميد الدين لايؤمن بتأثيره الا من خلال الدولة إذا الدولة ماهي راضية عنه تورط ومات مشروعه .