”هذه أول مرة أسمع عن سعودي يقول أنه يريد أن يتطوع“. هذه هي الجملة التي تلفّظ بها– بسخرية– المفتش العام لجيش الإنقاذ العراقي طه الهاشمي عندما قدّم له فهد المارك أوراق تطوعه. كان ذلك في عام ١٩٤٨م إبّان إعداد الدول العربيّة للحرب من أجل تحرير فلسطين. كانت الحادثة في دمشق، حيث كانت سوريا آنذاك أول جمهورية برلمانية في الوطن العربي بقيادة شكري القوتلي. وكان الأخير على قناعة بأن ملك الأردن عبدالله يريد استغلال الحرب على التنظيمات الصهيونية التي أعلنت نفسها دولة فوق أرض فلسطين من أجل تحقيق حلمه في توحيد سوريا الكبرى. ولأن سوريا حديثة التكوين، فقد دفعت الجامعة العربية من أجل إنشاء جيش مستقل من المتطوعين العرب سمي بجيش الإنقاذ. كان عدد جيش الإنقاذ قرابة ٣٨٠٠ مكوّن من جنسيات عراقية وسورية وأردنية ومصرية وفلسطينية وسعودية ويوغسلافية، واسم قائده هو فوزي القاوقجي من طرابلس من لبنان، والذي ساهم في تجهيز الجيش السعودي قبل معركة السبلة، والذي شارك في الثورة ضد الفرنسيين وكذلك في ثورة الكيلاني في العراق. يقول فهد المارك أنه أجاب الهاشمي بقوله ”سوف لن أكون الأخير“. ولكن قبل أن نتحدث كيف حوّل المارك إجابته هذه إلى فعل، علينا أن نتعرف على الطريق الذي اتخذه– كما يرويه بنفسه في مذكراته– حتى يتطوع في الجيش. فسيرة حياة المارك تختزل في داخلها شبكة العلاقات المتداخلة في الوطن العربي.
ولد المارك في حائل في عام ١٩١٠ وقد كانت في ذلك الوقت تحت حكم آل رشيد الذي انتهى في عام ١٩٢١م، لينزح مع أبوه إلى الحجاز، والتي كان عمره خمسة عشر عاما عندما دخلت في حكم عبدالعزيز في عام ١٩٢٥م. بعدها قرر الخروج من الحجاز إلى السودان بصحبة شيخ صوفي اسمه أحمد بن عبدالرحمن العركي، حيث تعلم منه المذهب المالكي والطريقة التيجانية، كما أنه عمل في ورشة بلاط ثم في ورشة اسمنت في مدينة عطبرة الواقعة في ولاية نهر النيل شمال العاصمة الخرطوم.
ولأنه خرج تهريبا من جدة إلى السودان، فلم يكن لديه جواز سفر أو أي أوراق تثبت هويته، فادعى بأنه سوداني وحصل على جواز سفر سوداني مكنه من الذهاب إلى مصر للبحث عن عمل. ولما لم يجد عملا في الاسكندرية، انتقل إلى القاهرة، وهناك عمل خادما عند تاجر هندي ثم عاملا عند شيخ سوداني في نفس الوقت الذي كان يتعلم فيه ليلا لإكمال دراسته. بعد فترة قصيرة، وعندما سمع أن أحد أهالي حائل موجود عند معتمد الملك عبدالعزيز في مصر فوزان السابق ذهب لزيارته، فحرضه هذا إلى الرحيل إلى سورية، وأشار عليه بالذهاب إلى أحد تجار العقيلات من مدينة بريدة واسمه عبدالله الرميح، الذي كان متواجدا في مصر، لحل مشكلته.
وبمساعدة من الرميح، انطلق فهد المارك من مصر إلى غزة في فلسطين، ومن هناك إلى القدس، ثم بعدها إلى عمان في الأردن، وهناك انتقل تهريبا إلى درعا في سورية حيث قبض عليه لكن عمدة من عمد حوران كفله فأطلق سراحه. ومن درعا مضى إلى الجولان، حتى وصل إلى القنيطرة، ومنها إلى دوما حيث كان هناك جنود متطوعين من أهل حائل، بعدها انتقل لحمص عند خاله، لكنه لم يستمر طويلا ليذهب للعمل كعامل بناء وهناك التقى بأحد أهالي نجد فذهبا سويا إلى دير الزور حيث كان البادية من أهل نجد يعملون في قوات البادية.
في دير الزور كان المارك فقيرا معدما، لم يكن لديه ما يأكله، فعرض عليه العمل في قوات البادية التي كان تحت اشراف ضباط الانتداب الفرنسيين آنذاك. يحكي المارك أنه كان مترددا، بل كان في البدء رافضا العمل في قوات البادية، وما كان هذا التردد يعود– كما يقول– إلى “الناحية القومية أو الوعي القومي فإنه لم يكن له عندي أي تأثير على وعيي ولا على مجرد التفكير به… وكل ما في الأمر أنني ذو طريقة تيجانية ولا يصح للتيجاني أن يخدم الكفرة” (ج١، ص٣٧). فالحاجز الثقافي بين المارك القادم من حائل وبين الخدمة في قوات البادية السورية التابعة للانتداب الفرنسي كان التربية الصوفية التي تعلمها في السودان. إلا أنه بعد فترة من المقاومة، أخذته الضرورة للعمل هناك.
بعد فترة قصيرة قضاها المارك في قوات البادية، انتقل للعمل في شركة النفط العراقية، والتي كانت تنقّب عن النفط في الصحراء السورية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي يعمل فيها لدى شركة أجنبية، إذ أن كل الأعمال التي زاولها سابقا كانت لأرباب أعمال محليين. وضعته تجربة العمل هذه أمام العنصرية التي كانت الشركة الإنجليزية تعامل بها العمال العرب، وكذلك انعدام الحقوق العمالية، حيث كانوا يعملون ساعات طويلة ويتكدسون على شكل مجموعات في الخيام ويتم ضربهم من قبل مشرفهم الذي كانت جنسيته أمريكية، الأمر الذي قاد العمال– الذين لم يكن من بينهم اشتراكيين وشيوعيين– لأن يقوموا بإضراب عن العمل حتى يتم تحسين ظروف العمل والعمال.
أيا يكن، بعد هذه التجارب قرر المارك العودة إلى السعودية، وبعد عدة سنوات– وعمره ٣٤ سنة– انتهى به المطاف طالبا في مدرسة ثانوية جديدة في الطائف اسمها دار التوحيد. أسس الملك عبدالعزيز هذه المدرسة في عام ١٩٤٥م، في الطائف، وتم تكليف العالم السلفي النهضوي السوري محمد بهجت البيطار بإدارتها، وقام بالتدريس فيها مجموعة من مشاهير العلماء في العالم العربي كمحمد متولي الشعراوي، وعبدالرزاق عفيفي، ومحمد أبو زهرة وغيرهم. وكان الهدف منها تقديم تعليم نظامي تحفيزي للشباب السعودي – والنجدي خصوصا– من أجل تأهيلهم لتسلم وظائف قضائية ورسمية في البلاد.
لم تمر سنتان على التحاق المارك بدار التوحيد، إلا وبدأت في عام ١٩٤٧م نُذُر الحرب بين العرب والصهاينة تملأ الفضاء العام السعودي. يذكر المارك أن السعوديين بدأوا “يتسابقون بالتبرع بالمال، وكل يوم نقرأ به من تنافس المواطنين الأثرياء الأسخياء بأموالهم الشيء الذي دفعني لأن أنافس بني وطني، ولكن كيف لطالب مديون أن يستطيع منافسة أصحاب الأموال الطائلة كالسيد حسن الشربتلي وأمثاله؟“ وحسن هذا هو حسن عباس الشربتلي، من جدة، أحد أشهر المحسنين العرب، حيث كان من أكثر الداعمين للقضية الفلسطينية، كما تبرّع بأمواله للمساعدة في إعمار بور سعيد في مصر بعد العدوان الثلاثي.
وقد كانت الصحف السعودية في عام ١٩٤٧م تنشر أسماء المبترعين والمبالغ التي تبرعوا بها، فقرر المارك أن يعلن في صحيفة البلاد السعودية الإعلان التالي: “بما أنه لم يكن لدي من المال ما أستطيع أن أتبرع به في مباراة ومنافسة اخواني المواطنين الذين جادت أريحتهم بأموالهم، فإني أتبرع وأتطوع بنفسي على أن أكون أول مواطن متطوع ومجاهد في سبيل الله”(ج٣، ص٨٥).
يروي المارك أن السعودية في تلك الفترة كانت متشددة في السماح لمواطنيها في السفر للخارج، فقد كان الحصول على الجواز أمرا صعبا، وعندما يحصل المرء على جواز فإنه لا يستطيع السفر إلا إذا قدم شاهدين يشهدان بحسن سلوكه وعليه أيضا أن يأتي بثالث من أجل أن يكفله وأن يكون مسؤولا عنه إذا ما قام هذا الشخص بأي نشاط سياسي مضاد للدولة في الخارج. ولهذا السبب، لم يكن أمام المارك حتى يستطيع تنفيذ هذه الرغبة، إلا أن يخترع قصة أنه كان قد تزوّج في مصر، وأن له ابنة هناك، وأنه يريد الحصول على جواز من أجل زيارتها، وقدّم طلبه لعبدالله بن فيصل بن عبدالعزيز الذي كان يقوم بمهام وزير الداخلية آنذاك، فأجابه عبدالله الفيصل بأنه هو مسافر للقاهرة للعلاج أيضا، وأنه سيصطحبه معه.
قام المارك ببيع أثاث منزله واستدان من الشيخ عمر بن حسن آل الشيخ بعض الأموال، وأحضر كفيلا له هو صفوق المبارك ليتمكن من استصدار الجواز، ثم انطلق بعد ذلك إلى مصر بالباخرة التي تكفل بمصاريفها عبدالله الفيصل بعد أن أعتذر عن الذهاب معه. بعد وصوله للقاهرة، أمضى فترة قليلة، ثم لحق به الفيصل، الذي عندما التقى به صارحه بحقيقة نواياه وبأنه ينوي الذهاب للقتال في فلسطين، فكان جواب الفيصل: “إنني أهنئك، وأتمنى لو أن ظروفي تسمح لي بالجهاد الذي تنوي القيام به…”، فأعانه بهبة مالية من عنده، انطلق بعدها المارك إلى الأردن للتطوّع في جيش الإنقاذ.
بعد سماع فهد المارك تعليق طه الهاشمي، طلب منه أن يسمح له بأن يشكل فرقة سعودية. وافق الهاشمي بشرط أن يأتي بتفويض وشهادة حسن وسيرة وسلوك من السفير السعودي في سوريا. يقول فهد المارك أنه منذ لحظة خروجه من مكتب طه الهاشمي في فبراير من عام ١٩٤٨م وأعماله ”لم تكن محدودة على النطاق الشخصي… بل كانت أعمالا شاملة النفع مشاعة الفائدة..“. كان سفيد السعودية في سوريا هو عبدالعزيز بن زيد، ولما أن ذكر له فهد المارك الشروط التي طلبها طه الهاشمي رفض السفير الاستجابة لها، ولم يقدم له سوى وثيقة تؤكد حسن سيرته. قدّم المارك للهاشمي هذه الورقة، فاطلع عليها الأخير وأعادها موافقا على أن يقوم المارك بتكوين فرقة سعودية. فانطلق المارك إلى دوما حيث كان فيها عدد من العمالة السعودية التي ذهبت هناك لطلب الرزق.
في دوما، استأجر المارك بيتا ووضع فوقه العلم السعودي وأعلن عن قبوله للمتطوعين. إلا أنه لم يستطع تجنيد أحد، ذلك أن العمالة السعودية التي أرادته التطوع في الحرب كانت قد ذهبت مباشرة إلى جيش الإنقاذ منضوية تحت لواء سعدون الشمري الذي كان سعوديا يعمل تحت الراية الأردنية. في نهاية المطاف، استطاع تجميع خمسة عشر شخصا. بعد أن تم تجنيدهم، تسلّم المارك سيارة عسكرية وطلب منه الذهاب إلى معسكر قطنا. إلا أنه قبل الذهاب هناك، دخل إلى دمشق وأخذ يطوف شوارعها بعلمه السعودي. فكانت النتيجة أن امتلأت عناوين الصحف السورية في اليوم التالي بمانشيتات عن بعثة الملك عبدالعزيز للجنود السعوديين للقتال في فلسطين. فأرسل الملك عبدالعزيز برقية يشكر فيها السفير ابن زيد على ما قام به، فحظي هو بالشرف رغم ممانعته للفكرة.
إن من الضروري، في ذكرى النكبة وذكرى حرب ١٩٤٨م، أن لا ننسى هذه الدماء السعودية والمشاعر الصادقة المتعاطفة والأموال والدماء التي سالت من قبل السعوديية نصرة للقضية الفلسطينية. فرغم أن الجيش العربية لم تبلي بلاء حسنا في هذا الحرب وخسرتها، إلا أن المارك ومن معه صمدو وهالهم ما شاهدوه من أهوال الحرب وتشريد وتهجير الفلسطينيين عن قراهم وديارهم. وهذه المشاهد التي ستظل حاضرة في مخيلته ليكتب عنها كتبا، ككتاب عن الفوج السعودي بعنوان ”سجل الشرف“ وفيه اسماء السعوديين المشاركين في الحرب، وكتاب ”افتراها الصهاينة وصدقها مغفلو العرب“. إن سلاح التذكّر سلاح ضعيف، لكنه سلاح مهم، فهو هبّة الريح الخفيفة التي تبقى الشمعة مضيئة، وبدون هذا الضياء الخافت، لن نستطيع أن نأمل بعام أكثر أشراقا، عام لا نتذكّر فيه النكبة، بل نحتفل فيه بالعودة.