كثيرا ما تتكرر عبارة “فلان متشدّد” على مسامع أغلب الناس، ونجدها- أي العبارة- تمّر على مسامعهم بكل سهولة ويسر دون أن تجد عقلا متسائلا يفكّر قليلا في التدقيق حول معناها. أنا- لحسن الحظ- لست من أغلب الناس هؤلاء، ولديّ مشكلة حقيقية في الكلمات من هذا النوع الذي يتم تداولها كما لو كانت تتضمن معنى أو تحمل دلالة واضحة، ولكن عند التدقيق نجد أنها بلا محتوى دقيق أو واضح.
لنبدأ من الجذر اللغوي للكلمة. متشدد، من شدّ، وشدّ- في لسان العرب– من الشدّة وهي “الصلابة ، وهي نقيض اللين تكون في الجواهر والأعراض … وشيء شديد : مشتد قوي … وتقول : شد الله ملكه ; وشدده : قواه . والتشديد : خلاف التخفيف . وقوله تعالى : وشددنا ملكه أي قويناه… وشددت الشيء أشده شدا إذا أوثقته . قال الله تعالى : فشدوا الوثاق . ..ورجل شديد : قوي والجمع أشداء وشداد وشدد…”. من هذه المعاني نستخلص أن المتشدد يعني عكس الليّن، أي الشخص الذي يأخذ الأمور بشدّة وقوّة، ولا يتعامل معها بلين.
لكن هل أخذ الأمور بشدّة عيب؟
هناك شخص يأخذ موضوع وظيفته بشكل متشدد، يستيقظ مبكرا، يحضر نفسه، يصل للعمل قبل الوقت، يخرج بعد انتهائه، يعمل في بيته، لا يؤجل مهامه، حريص على إنجازها على أكمل وجه… هذا الشخص لا يبدي أي لين أو تساهل اتجاه مسؤولياته وعمله. هل هذا الشخص- المتشدد- سيء؟ لا أعتقد أن أحدا يقول ذلك. هذا يعني أن ليس كل متشدد سيء بالضرورة.
قد يجيب أحدكم قائلا: “طبعا أن المعنى اللغوي ليس هو المقصود، ذلك أننا عندما نقول متشدد نقصد به المتشدد دينيا”.
لكن هذا الجواب أيضا غير كافي، إذ ما معنى “متشدد دينيا”؟ هل المقصود به شخص صلب في إيمانه ولا يتساهل فيه ويتعامل معه بشكل جدي؟ إن كان هذا المعنى، فالتشدد هنا أمر محمود، إذ أن الشخص الذي لا يتعامل مع ما يؤمن به بشكل جاد ومسؤول هو شخص لا يحترم ما يؤمن به، وبالتالي لا يحترم نفسه. فلماذا إذن يعتبر “المتشدد” شخص سيء؟ ولماذا يعتبر هذا الوصف مسبّة أو نوع من الانتقاص؟
قد يجيب أحدكم: “المتشدد الديني ليس هو الذي يأخذ دينه بشكل صارم، بل هو تحديدا الذي يتبنى آراءا متشددة”.
ولكن هذه الإجابة غريبة. ماذا يعني أن هناك رأيا متشددا؟ الإحتمال الذي أرجحه هو أن يُقصد به أن الشخص يتبنى الآراء الدينية المتعبة والمرهقة. هل يجوز أكل لحم المطاعم التي يديرها غير المسلمين؟ هناك رأي يقول إذا لم تذبح ذبحا إسلاميا فهي حرام، وهناك من يقول أنها حلال لأنهم أهل كتاب. الرأي الأول يصعّب حياة المرء، في حين أن الثاني يسهله. فإذا تبنى الشخص الرأي الأول، سيكون شخصا متشددا. نفس الأمر يتعلق بالموسيقى وغيره، يأخذ الآراء التي تحرمه من الملذات والجمال والمتع وغيرها. هذا الشخص هو المتشدد.
إذا كان هذا هو المعنى، فلا أعلم سبب اعتباره أمرا معيبا. ذلك أن الرأي الفقهي نابع من الدليل وليس من الهوى. فإذا اعتقد شخص ما أن الدليل يقول أن أكل المطاعم التي يديرها غير المسلمين حرام والتزم به، فهذا شخص يجب أن نحترمه حتى لو اختلفنا معه، لأنه التزم بقناعاته ورأيه حتى لو كان الأمر سيصعب عليه حياته. ومن لا يرغب باحترامه، فهذا شأنه، لكن الأمر لا يعدو اختلافا في الرأي، شخص قادته الأدلة إلى رأي وآخر قادته الأدلة لآخر، ولا يحق لأي منهما التعالي والترفع على الآخر طالما أنهما متماثلان في طريقة وصولهما للحكم.
وبسبب هذه العبارة الأخيرة التي تحتها خط أعتقد أن من الضروري التخلي عن هذا المصطلح، لأنه- كما وضحنا أعلاه- ليس له معنى ثابت وواضح، ولأنه يعمل بطريقة تجعل الحوار مستحيلا، إذ شرط الحوار تساوي المتحاورين، ومتى ما ظن أحد الطرفين أنه أعلى وأرفع أخلاقيا أو قيميا، فإن الحوار ينتهي ويستحيل لنوع من التعليم أو غيره.
جميل، لنترك للطرف الاخر حرية الاختيار لكي نحظى باحترامه لنا هو الاخر
أعتقد أن أصل المفهوم أتى من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: هلك المتنطعون. وباعتقادي أن التعليم ماقبل العالي في دروس التربية الدينية أصل لهذا المفهوم بتصنيف الناس لمن هو المبتدع ومن هم الغلاة وأوصافهم.. والمضحك أن الليبراليين غدوا أكثر من يستخدم هذا الوصف.. كل هذا لايبرر ماذهبت إليه بأنه بلامعنى ولكن فقط محاولة لفهم جذر المسألة.. ومبارك لك ولزوجك العرس بعد الزحمة بس بأكون أول من يبارك على المدونة ?
الله يبارك فيك. ذكر لي أحد الأصدقاء أن المفهوم له أصل شرعي وهو حديث “ولن يشاد أحد الدين إلا غلبه”
يقول ابن حجر في شرح الحديث: “والمشادة بالتشديد المغالبة ، يقال شاده يشاده مشادة إذا قاواه ، والمعنى لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية ويترك الرفق إلا عجز وانقطع فيغلب . قال ابن المنير : في هذا الحديث علم من أعلام النبوة ، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا أن كل متنطع في الدين ينقطع ، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة فإنه من الأمور المحمودة ، بل منع الإفراط المؤدي إلى الملال ، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل ، أو إخراج الفرض عن وقته كمن بات يصلي الليل كله ويغالب النوم إلى أن غلبته عيناه في آخر الليل فنام عن صلاة الصبح في الجماعة ، أو إلى أن خرج الوقت المختار ، أو إلى أن طلعت الشمس فخرج وقت الفريضة”
ورغم أن هذا معنى واضح، إلا أني أزعم أنه ليس هو المقصود بالكلام السائد عن “المتشدد”، ذلك أن هذا الخير غير واضح ولا يمكن تحديده بوضوح، ولهذا السبب قلت أنه بلا معنى.
التشدد في الاصطلاح الشرعي هو : تحريم الجائز أو المكروه أو ايجاب الجائز أو المندوب.
وهذا هو المعنى الأصح والواضح للمتشدد
دروب التيه في الدال والمدلول لا أعتقد أن مايراد ربطه من دال الى مدلول يكون مشكلة إلا حين يكون هذا يتجاوز مساحة الشخص الشخصية فيستخدم تشدده أي كان معناه لتقييد وتنغيص وقطع السبل على غيره من اللذين لايتبنون وجهة نظره في الموضوع