قبل عدة أيام وصلني بريد إلكتروني يبشرني بموافقة مطبعة إحدى الجامعات الأمريكية على مقترح كتاب تقدمنا به أنا ومجموعة من الأكاديميين والذي سيشارك فيه كل واحد منّا بفصل. تعجّبت من نفسي وأنا أقرأ البريد، فلم تكن السعادة ولذة الإنجاز هو أول ما شعرت به بقدر ما كان شعور بالضيق بأن إلتزاما جديدا سيضاف الآن لقائمة طويلة تنتظرني من الإلتزامات. عندما قمت بكتابة أول مقالة لي قبل عشرين عاما، لم أكن أعلم يوما بأن الكتابة ستتحول من مجرد كونها شغفا وهواية إلى مهنة تحمل ما تحمله المهنة من معاني ومشاعر الإغتراب.
عندما كنت أسئل “ماذا تريد أن تصبح إذا كبرت؟” أجيب: “طيار”. لم تكن الكتابة حلما أو غاية، بل لم تكن تقدم على أنها مهنة أصلا. لو أردت تحديد نقطة بداية اعتباطية لعلاقتي مع الكتابة، فإن أول ما يحضر في ذهني هو بدايات القراءة المتبعثرة. فأنا أتذكر جيدا أول كتاب تعثرت به. كان ذلك ذات صيف قديم، بينما كنت في المرحلة المتوسطة أقضي جزءاً من الإجازة في الرياض عند خالتي في حيّ الربوة، أحد تجمّعات القصمان في الرياض. فالرياض، على الأقل في تلك الفترة، ليست من ذلك النوع من المدن الذي ينصهر فيه الناس. أحد الأصدقاء يصفها بأنها مدينة بلا معدة، تأكل الناس ولا تهضمهم. فهي أقرب ما تكون إلى مجموعة من التجمعات المناطقية والقبلية المتراصة جنبا إلى جنب: حيّ للقصمان هناك بجانبه حيّ لأهل الزبير، وهناك حيّ لأهل الجنوب، وهكذا، لدرجة أنك تستطيع التنبؤ بأحياء الأشخاص بمجرد أن تعرف من أي منطقة أو خلفية اجتماعية يتحدرون منها. الفقر وحده، ربما، هو الذي يتجاوز هذه الحدود المناطقية والقبلية، ذلك أن الفقراء من كل الأماكن يعيشون في نفس الأحياء المهمشة والفقيرة والمهملة. Continue reading