يستخدم الاستبداد العربي خطابين لنقد الحركات الشعبية الساعية للتحول الديمقراطي في الوطن العربي منذ أوائل القرن العشرين وإلى يومنا هذا، أولها هو جهل الشعوب العربية ووعيها المتدني بالديمقراطية ومن ثم -وهو ثانيها- أن الديمقراطية لن تأتي بالاستقرار والتنمية.
إذ تحاول الأنظمة التسلطية بأدواتها الإعلامية ان تنتقد الوعي السياسي للشعب العربي بوصفه شعباً جاهلاً في السياسة من جهة وغير جاهز للديمقراطية من جهة أخرى، وقبل تفنيد هذا الإدعاء الزائف والساذج، نطرح نحن كأفراد في هذه الشعوب سؤالاً حول مسألة الجهل في شؤون السياسة التي تدعيها الأنظمة في دعاياتها التاريخية
هل حظيت الديمقراطيات في العالم بشعوبٍ ذات ثقافةٌ ديمقراطية في ظل الاستبداد أم بعد ممارسة الديمقراطية؟
ونتساءل أيضا عما فعلته هذه الأنظمة طوال نصف قرن وأكثر لمجتمعاتها؟ هل ساهمت في زيادة الوعي؟ فإذا كانت الإجابة بنعم، فهذا يبطل ادعاءها وينقضه، أما إذا كانت الإجابة لا، أيّ أنها لم تساهم في رفع مستوى الوعي السياسي للجماهير، فهي إذن ليست أهلاً للحكم وكفؤاً له ولإدارة شؤوننا، بل إن هذا تأكيد على صدق مطالبات الجماهير العربية، وعلى فشلها -أي الأنظمة- في توعية وتأهيل المجتمع وبنائه، وهو الدور الرئيسي للدولة الوطنية ومن يتربع في سدة حكمها.
وهل يعني خطاب الأنظمة العربية هذا بأنها تسعى للتخلي عن تسلّطها والبدء في مشروع التحول الديمقراطي حتى تهتم بجاهزية المجتمع؟ لا أعتقد، فهي تدعّي بأنها الاكفأ في الحكم من الشعب كافة، ولكن ما برهانهم على دعواهم وما مبدأ الكفاءة التي تستند إليه؟
إن الدول العربية تعيش عالةً على مجتمعاتها ومثبطة لعزائم شبابها وشاباتها وحاصدةً لروح نهضتها وتقدمه، منذ عهد الاستقلال، فالانقلابات العسكرية والعائلية والإحتلالات والغزوات على الدول المجاورة والحروب العبثية كانت عناوين المشهد السياسي العربي منذ عقود، سالبةً بذلك كل حجة عقلانية ترفع من قدر الحكام وتاريخ حكمهم، وبعد أن أتى الربيع العربي وانتفضت الجماهير وطالبت بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، رفض الاستبداد ان ينصاع لهذه المطالبات مؤكداً على فشل الدولة العربية الممتد منذ عهد الاستقلال في تلبية طموحات الشعوب وعلى انشغاله بتبديد مقدرات الوطن وامتهان كرامات المواطنين.
الواقع يرفض من حيث هو أن يثبت دعوى الإستبداد هذه فهو شاهدٌ على أنظمة يطغى عليها العنف والحرمان، بل إن سجونها ومنافيها أكثر مؤسساتها حداثةً وتطوراً وفعالية، وكذلك أنظمتها التكنولوجية فيما يخص الرقابة والتنصت. ليس من بين تلك الدول من تفتخر بجامعاتها أو برلماناتها أو دساتيرها الحديثة أو حتى رضا مواطنيها عنها.
إذن تؤكد الأدلة والشواهد فشل هذه الأنظمة التسلطية في تحقيق الأستقرار والأمن وحفظ الكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية والتنمية الحضارية. فالإستقرار التي تؤكد عليه هو صمت الشعوب، والأمن هو سجن المعارضين ونفيهم، والكرامة هي لمن في سدة الحكم، والتنمية هي لجماعات طفيلية وعلاقات فساد تاريخية.
ينفي الديمقراطيون بأن الديمقراطية هي الحل النهائي لكل المشكلات التاريخية، فهي لا تحقق النعيم على الأرض ولكنها بالمقابل لا تجعل الأرض جحيماً كما يفعل الاستبداد، فالديمقراطية تستند على أساسين جوهريين وهما الحرية والتجربة، ولا عجب أن يكون أعتى منظريها، جون لوك، الفيلسوف الإنجليزي الشهير ليبرالياً يؤمن بحرية الاعتقاد والتعبير، وأن يكون تجريبياً كذلك مؤمناً بأن الوسيلة الوحيدة لمعرفة صحة نظريةٍ ما، ممكنة فقط من خلال التجربة.
فالديمقراطية تحمل في جوهرها نظرية علمية وهي القابلية للدحض، أي أنه بالتجربة فقط نستطيع معرفة صحة الشيء أو بطلانه، وينسحب هذا المبدأ على المجال السياسي فوفقاً للتجربة وتغييرها أو تكرارها، يمكن معرفة أيّ البرامج السياسية أصلح وأنسب وتشترط مبدأ الحرية كي تمنح الفرصة لمختلف الأفكار أن تناقش وتُختبر، على العكس من الاستبداد، الذي يقدم مشروعاً واحداً ويسجن ويُقتل ويُقصى كل من يشكك فيه، فكيف للناس معرفة صحة المشروع إن كان هو المشروع الأوحد وكيف لهم معرفة المشاريع الأخرى إن كان معتنقوها في غياهب السجون المظلمة؟
إن الديمقراطيات الراسخة في العالم الغربي لم توجد كما هي بل مرّت بتقلبات وإشكالات كبرى، ففي فرنسا قطع رأس الملك لويس السادس عشر إبان الثورة ثم شهدت منذ ذلك الحين قيام ٤ جمهوريات وسقوطها، وتعيش الآن جمهوريتها الخامسة، أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد خاض شعبها حرباً أهلية ضارية ما بين ١٨٦١-١٨٦٥، وليس الاقتحام الأخيرة للكونغرس سوى أحد أشكال هذه الاضطرابات المستمرة، فيما النموذج البريطاني فقد مرّ بما لا يقل عن كلاهما فقد كان الصراع الديني ما بين الملكية والكنيسة والطوائف الأخرى والإقطاع حاداً وأدى في مراحل الى أسر الملك وقطع رأسه على يد كرومل إبان الثورة البيوريتانية ١٦٤٢ وبعد تطورات كبيرة انتهت بالثورة المجيدة التي نصبت غيوم دورانج وزوجته ماري ملكين على انجلترا ١٦٨٩، وآخرها محاولة الملكة تعليق البرلمان عام ٢٠١٩ بعد طلب رئيس الوزراء الحالي بوريس جونسن، والذي أبطلته المحكمة العليا.
إن قراءة التاريخ تؤكد لنا ان العملية الديمقراطية ليست ثابتة ومنتهية بل هي صيرورة مستمرة لترسيخ المؤسسات المدنية وإشراك الجماهير، وليس أيّ من هذه الأنظمة العربية السلطوية من ساهم في ترسيخ المؤسسات أو أشرك الجماهير في بناء الدولة، ولنا في تجربة البعث في سوريا الأسد وصدام حسين في العراق والقذافي في ليبيا وغيرهم عبراً لنعتبر.