لو سألت أي علماني عربي أن يعطيك تعريفاً بسيطاً وسريعاً للعلمانية، لقال لك فوراً هي: «فصل الدين عن الدولة». وهذا التعريف مشهور ومعروف، لدرجة أنه مهما تكن النظرة في الفكر العربي للعلمانية معقدة وفيها تفاصيل كثيرة فهي غالباً تحمل في جوهرها هذه الرؤية، التي ترى العلمانية حال فصل بين الدين والدولة.
وشيوع هذا التعريف هو ما لاحظه عبدالوهاب المسيري – وهو يسميه بالعلمانية الجزئية – عندما حاول استقصاء معنى العلمانية عند المفكرين العرب في كتابه «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة»، فعلى سبيل المثال، محمد عابد الجابري يعرفها بأنها: «فصل الكنيسة عن الدولة»، وفهمي هويدي يعتبر أن معتدلي العلمانيين يطالبون بوجود «حاجز بين الدين والدولة».
وقبل أن نتحدث عن العلمانية المقلوبة، لنسأل أولاً هذا السؤال، لماذا يعتبر العلماني العربي مطلب الفصل بين الدين والدولة ضرورياً؟
هناك إجابات عدة عن هذا السؤال، تبدأ من أن هذه الطريقة هي التي قام من خلالها الغرب بتحقيق «التقدم»، وتمر بأن الدين يستفز عواطف وتعصبات لا يمكن التحكم بها، ومن ثم يجب إبعاده عن السياسة، وكذلك بأن الدين عندما يخالط الدولة يجعل منها سلطة مقدسة، ومن ثم تصبح معارضتها جريمة، وتنتهي هذه الأجوبة عند أن الفصل بين الدين والسياسة حماية للدين من تدنيس السياسة لها والإبقاء على نقائه وطهره. وعلى رغم رفع هذه الشعارات والمُثُل، نجد في ممارسة العلمانيين العرب علمانية أخرى، علمانية مقلوبة. لنأخذ على سبيل المثال الاعتداءات المجرمة التي يشنها «داعش» ضد المصلين المسالمين في المساجد، كيف تكون معالجة العلمانيين العرب لها؟
نجد على الفور عملية ربط بين هذه الأحداث وبين خطاب الإسلاميين ككل، أو خطاب طيف عريض من أطيافه، ربطاً يجعل من هذا الخطاب سبباً رئيساً لهذه الأحداث. هذا هو تشخيص المشكلة، أما الحل فهو المطالبة بتقييد الخطاب الديني، وذلك عبر زيادة القيود على خطب المساجد والأنشطة الدينية، وإخضاعها تحت إشراف الدولة، وتأكيد أهمية مراقبة ما يقال في الدروس الدينية والأنشطة اللاصفية، التي ينظمها إسلاميون. إضافة إلى ذلك، يجب إلغاء – أو على الأقل – مراقبة القنوات الدينية وما إلى ذلك.
بعيداً عن التفاصيل، بماذا يطالب العلمانيون هنا؟ الجواب أنهم لا يطالبون بأكثر من مزيد من تدخلٍ للدولة في الدين، أي العكس تماماً من معنى العلمانية باعتبارها فصلاً بين الاثنين. هذا ما أقصده بالعلمانية المقلوبة، أن العلمانيين العرب هم أكثر المطالبين بإخضاع المجال الديني للدولة، في حين أن الإسلاميين – عموماً – يفضلون أن يكون هذا المجال مفصولاً عن الدولة. إنها مفارقة مضحكة.
لكن بعيداً عن كونها مضحكة، ما هو تفسير هذا التناقض الصارخ بين رفع شعار الفصل ثم المطالبة بكل ما يؤدي إلى نقيضه؟
باعتقادي، أن العلمانيين العرب ليسوا معنيين بفصل المجال الديني عن الدولة، فهم مثلاً لا يأبهون لوجود وزارات للأوقاف والشؤون الإسلامية وما شابهها من المؤسسات الرسمية التي تشرف على المجال الديني.
لكن ما يثير اهتمامهم هم الإسلاميون، فالعلمانية تعني عندهم هو منع الإسلاميين من الوصول إلى السلطة، وإن كان منعهم من الوصول إلى السلطة يقتضي أن يكون كل المجال الديني تحت إشراف الدولة فلن يشكل هذا مشكلة.
ماذا يعني هذا التفسير؟ إنه يعني أن العلمانيين العرب يقومون باستيراد الثنائية (دين/ دولة) ذات القدسية في السياق الأوروبي وتوظيفها في الفضاء العربي، من أجل إقصاء فصيل سياسي بعينه عبر خلع وصف الديني عليه. وعبر المحافظة على هذه القسمة (علماني/ ديني) بشكلها السليم فإن النظام السياسي سيحظى بشيء من الشرعية لدى الأوروبيين والغربيين، حتى لو كان القسم العلماني من هذه القسمة عبارة عن نظام سلطوي لا يعترف بحقوق ولا حريات.
فعند التدقيق في حال الدولة العربيّة المعاصرة التي تدعى علمانية، لا نجد أي ملمح من ملامح الفصل بين الدين والدولة، بل على العكس من ذلك، فمن نشأة هذه الدولة وهي تدير وتدبّر الشأن الديني بواسطة أجهزة بيروقراطية ضخمة، ومن دون أن يقلل هذا التداخل من وصفها بأنها علمانية، فعلمانيتها لا تنبع من بنيتها، بل من هوية حكامها، وعند هذا المستوى تتحوّل العلمانية من كونها برنامج عمل أو سعياً للفصل بين المجال الديني والمجال السياسي إلى مجرد هوية، ويتحول أتباعها من كونهم مناضلين ضد محاولات السلطة للتدخل في المجال الديني إلى مجرد طائفة مثل أية طائفة أخرى تسعى للحفاظ على نفوذها داخل الدولة بطرق سلطوية وغير ديموقراطية.
وبعد هذا كله يمكن القول إن أول مهمة يتوجب على العلمانيين العرب الجادين في تمسكهم بشعارات العلمانية القيام بها، هي فصل طائفة العلمانيين عن الدولة.