الدليل لا يكون دليلا إلا إذا أفضى لمدلوله. فعندما أتبع رجلا ليدلني إلى مكان ما، فانا لا أتبعه إلا لأنه سيوصلني للمكان الذي أريده، وفي حال أوصلني لمكان آخر، كفّ عن كونه دليلا لي إلى المكان الذي أريده. والسكران سيحشد مجموعة من الأدلة للدلالة على قضيتين : الاولى ، “أن المدنية الدنيوية ذات قيمة ثانوية باعتبارها مجرد وسيلة لنصرة الإسلام”(ص20). الثانية، أن قانون الانحراف في التاريخ الذي “يكاد القرآن أن يربط كل مظهر من مظاهر الخلل العقدي والأخلاقي به، ألا وهو “الانبهار بالمظاهر المادية” وتعظيمها وامتلاء القلب بالتعلق بها”(ص20). وما سنفعله الآن هو التدقيق في هذه الادلة والتساؤل : هل فعلا هذه الادلّة توصل لما يريد السكران الوصول إليه؟
في إثبات القضيّة الأولى، يبدأ السكران بإثبات أن القرآن جاء “بتأسيس “مركزيّة الآخرة” في مقابل “مركزية الدنيا” …. جاء القرآن ليحول الدنيا من “غاية” إلى مجرد “وسيلة” ” (ص20). وبعد أن يثبت تأسيس مركزيّة الآخرة، ينتقل لتوضيح قيمة “الدنيا” بأنها “في التصور القرآني مجرد “وسيلة” خطرة يجب التعامل معها بحذر خوفا من أن تجرفنا عن الحياة المستقبلية اللانهائية في الدار الآخرة”(ص20) ، بل إن توضيح القرآن لخطر الدنيا أكثر من توضيحه لعمرانها. ولأنها مصلحة مؤقتة، فإن من “أبرز مبادئ العقلانية تقديم المصلحة المؤبدة على المصلحة المؤقتة”(ص20). وأخيرا يؤكد السكران أن القرآن “كثيرا ما يشير … إلى أن كل ما على هذه البسيطة من موارد وإمكانيات ليس المراد بها رفاه الجنس الإنساني، وإنما المراد بها ابتلاء الناس وامتحانهم” (ص21)، ويقوم بعرض بعض الاستدلالات القرآنية على هذه القضيّة. ثم يعود فيؤكد على “تفاهة الممتلكات الماديّة في “ميزان الله” “بل أن القرآن لا تخلو طائفة من آياته على التنبيه على “حقارة الدنيا” (ص21).
وفي إثبات القضية الثانية: وهي أن الإنحراف في التاريخ نابع عن “الانبهار بالمظاهر الماديّة”، يقول السكران: “تكاد أن تجد كل “ضلال فكري” أو “انحراف سلوكي” إنما منشؤه تعظيم الدنيا “(ص22) ويبدأ بسرد الآيات على ذلك.
هكذا بنى السكران استدلالاته على القضيتين، والآن سنبدأ بتوضيح أنها استدلالات مزيّفة ولا تحمل أي قيمة برهانيّة، وذلك من عدّة وجوه:
أولا، نلاحظ أن السكران يخلط خلطا عجيبا بين “الحضارة” و “المظاهر المادية” و”المدنيّة” ، بينها وبين الدنيا. فلإثبات تبعيّة الحضارة وانحطاطها وتفاهتها ، يسعى لإثبات تبعيّة الدنيا وانحطاطها وتفاهتها. وهكذا فلكي يثبت تبعيّة الحضارة، يشدد على التذكير بأن القرآن جاء بمركزيّة الآخرة، الذي بمجرد التذكير بها، يعني تلقائيا إثبات “تبعية الحضارة”!
وهذا الخلط لا يجد له مبررا إلا عندما تكون الحضارة و”ألوية العمارة الماديّة” تعني ضمنيّا اعتبار الدنيا الغاية الوحيدة للإنسان. وهذا الاقتضاء الضمني واضح البطلان فأعظم المنجزات الحضاريّة العمرانيّة لم تكن تتضمن بالضرورة نظرة مركزيّة للدنيا. فالاهرامات ليست شيئا سوى مقابر للفراعنة، أي أنها رمز لما بعد الدنيا ، أكثر من كونها رمز للدنيا. بل إن أعظم المنجزات العمرانية كانت تشير لمعنى ديني أو معنى ماورائي، كرموز الكواكب الرومانية ومعابد الالهة اليونانية وفن عمارة الكنائس في عصر النهضة الأوروبيّة. بل إن الفنون الدنيوية كالنحت والرسم والموسيقى كانت فنونا دينية بمعنى من المعاني. هذا لا يعني طبعا إبعاد العامل الدنيوي، فكما أن مسجد قرطبة يعتبر رمزا معماريا أندلسيا يشير لغير الدنيا، فكذلك قصر الحمراء رمز معماري يتغيّا الدنيا، وكما ان المسجد الاموي يعتبر منجزا ماديّا عمرانيا يشير إلى قيمة دينية، فـ”تاج محل” منجز عمراني إسلامي يشير إلى قيمة دنيوية. فحصر الحضارة والمدنيّة والعلوم والفنون بقيم دنيوية هو حصر تعسفي لا معنى له، وبالتالي فالتأكيد على مركزيّة الآخرة، لا يتضمن أي دلالة على مكانة الحضارة والمدنيّة.
ثانيا، يخلط السكران أيضا بين “الدنيا” كغاية من ضمن غايات الإنسان و “الدنيوية” كنزعة متمركزة على الدنيا كقيمة أساسية وغاية وحيدة. فيحشد النصوص التي تذمّ هذه الأخيرة ، ليعممها على كل موقف يعتبر الدنيا غاية. وحتى نبين هذه المسألة لنتسائل: كيف ينظر القرآن للدنيا؟
في القرآن ذكرت الدنيا حوالي 111 مرّة … وذكرت في معان مختلفة، ففي حوالي 35 موضعا جاءت الآيات لتتناول “الدنيوية” أي الإكتفاء بالدنيا، وإيثارها، وتبيين فساد هذا المنحى(1). أما باقي المواضع فجاءت كالتالي: إما تبيين مدى العذاب الذي سيحيق بالكافرين في الدنيا والآخرة، أو مدى المكانة العالية التي يهبها الله لمن يشاءفي الدنيا والآخرة. أي أن الدنيا مرحلة ثواب وعقاب كما أنها مرحلة عمل أيضا. وكذلك جاءت الآيات التي تثني على المسار الذي يرجو في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة. وفي حوالي 10 مواضع جاء ذكر الدنيا كفترة زمنية.
والدنيا حسب التصور الإسلامي هي مرحلة من مراحل الحياة البشريّة، يأمر الله فيها الإنسان أن يتمثّل عبوديته، ويحذره من الركون إليها والانغرار بها، وهذا لا لشيء سوى لأن هناك مرحلة خير منها وأبقى. ولكن هذا لا يعني أبدا العزوف عن الدنيا و عدم اعتبارها غاية. فالدنيا وسيلة للآخرة، وغاية في حد ذاتها. والتشنيع القرآني كله موجه لأولئك الذين اكتفوا باعتبار الدنيا غاية دون كونها وسيلة إلى ما هو خير.
ونستطيع أن نقول أن هناك ثلاث مواقف من الدنيا: من يراها مجرّد وسيلة لحياة أخرى، وبالتالي يزهد بكل شيء لا يقود إلى تلك الحياة، ومن يراها غاية لا حياة بعدها، وبالتالي يبذل جهده في التمتع بها، وموقف ثالث يراها وسيلة وغاية، حيث أن طلب الحياة الاخرى لا يتعارض مع التنافس على خيرات الدنيا.
وبحسب هذه المواقف من الدنيا تم تأويل القرآن، فالتيارات الزهديّة تتوسل القرآن للتأكيد على حقارة الدنيا وتفاهتها وانحطاطها. وتضع مقابلة جذرية بين طلب الدنيا وطلب الآخرة، وتجعل اختيار أحدهما نفيا للآخر. وهناك تيارات أولت القرآن تأويلا دنيويا بحيث نفت المعاد أو أولته ، ونفت الجنّة والنار بتأويلهما، وحولت العبادات إلى معان دنيوية خالصة تدور حول الإمام أو غيره، ومن هذه التيارات غلاة الإسماعيلية والفرق الناشئة عنها كالدروز.
وحسب السياق التاريخي، نجد ان التيارات الدنيوية ازدهرت منذ انتهاء العهد العربي مع هزيمة الأمين ، حتى بدايات الحروب الصليبية والطوفان المغوليّ. ومن هذه الفترة ازدهرت التيارات الزهديّة والصوفيّة وانتعشت، حتى تمّ تبنيها بشكل رسمي من قبل الامبراطورية العثمانية والشمال الافريقي وايران الصفوية ودخل الاسلام لدول اسيا كاندونيسيا وماليزيا بصيغته الصوفية. ونستطيع أن نرى تجدد ظهور التيار الدنيوي في التأويلات الحديثة للقرآن، منذ بداية الاحتكاك بالحضارة الغربيّة ، التي هي دنيوية بامتياز، ليبلغ الغاية مع حسن حنفي في كتابه “من العقيدة إلى الثورة”.
وفي الفكر السعودي تطغى أيديولوجيا الزهد، وبجولة سريعة نجد أن الدنيا دائما “تافهة” و “منحطة” و “حقيرة” ..إلخ. بل إن الشيخ محمد المنجد في خطبته “دور القرآن في إنشاء تصورات المسلمين” يتساءل السؤال الزهديّ التالي: “ماذا نختار ؟ وإلى أي جانب نميل؟ متاع الحياة الدنيا أم حسن المآب التي عند الله عز وجل؟”(2). وكذلك الأمر بالنسبة للشيخ عمر بادحدح في محاضرته “القرآن والحياة” إذ يشدد على “أهمية معرفة حقارة الدنيا وحقيقتها (3). ولأن التيار الديني في الفكر السعودي تيار مرتبط بسلفيّة ابن تيمية وابن القيم ومحمد عبد الوهاب، وكان هؤلاء قد تصدوا للتيارات الصوفيّة، فقد سعى هذا التيّار للتأكيد على قيمة الزهد، في الوقت الذي كان ينفي ارتباطه بالزهد الصوفي. والحقيقة أن التياران يتفقان على المضمون النظري للزهد، من حيث هو النظر للدنيا بما هي وسيلة للآخرة، ويختلفان في قضايا عملية، ترتبط كلها بمفهوم التوكل: هل نسعى لأرزاقنا ام ننقطع عنها للعبادة والله يرزقنا؟.
وكذلك نشأت تيارات حديثة في الفكر السعودي تقع كلها تحت شعار”المسلم الليبرالي”، بحيث تتبنى تأويلا دنيويا للإسلام، بحيث تنزع لتأويل كل جوانب الدين تأويلا دنيويا. وهذه التيارات هي التي يسعى السكران لتفحص “مآلاتها” مخطئا التشخيص بإرجاعه كليّا للحضارة والمدنيّة، في الوقت الذي يتوجب عليه إرجاعه للدنيوية. ولا يكتفِ السكران بخطأ التشخيص بل يقوم بمحاكمتها انطلاقا من مقولات التيار الزهدي، الذي يخلط بين الدنيا كغاية ووسيلة والدنيوية التي لا ترى في الدنيا إلا كونها غاية.
وتقوم الأيديولوجيا الزهدية على أساسين: الأول، النظر للدنيا كوسيلة للآخرة فقط، ونجد هذا عند السكران كأفضل ما يكون إذ يقول : ” وكل ما لم يعن على عبوديّة الله ولم يؤد إلى هذا الغرض فهو دائر بين مرتبتين لا ثالث لهما: إما محرم يجب الكفّ عنه، وإما فضول يشرع الزهد فيه” (ص17). الثاني، تفسير وجود الموارد والامكانيات على أنه امتحان من الله وابتلاء، ونجده كذلك عند السكران في قوله : “كثيرا ما يشير القرآن إلى أن كل ما على هذه البسيطة من موارد وإمكانيات ليس المراد بها رفاه الجنس الإنساني، وإنما المراد بها ابتلاء الناس وامتحانهم هل يؤمنون ويقبلون على الله أم يعرضون عنه؟” (ص21). وسنقوم بمناقشة الأدلّة التي جاء بها السكران:
1- “إنا جعلنا ما على الأرض زينةً لها لنبلوهم أيّهم أحسن عملاً” و “ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون”.
يستدل السكران بهذين الدليلين على أن المراد من “موارد وإمكانيات” الأرض ابتلاء الناس لا رفاهيتهم. وهذا الاستدلال ينطلق من الخلط بين الغاية من خلق الموارد بما هي موارد، وبين الغاية من “غاية خلق الموارد”. فهذه الموارد كلها في التصور القرآن عبارة عن “نِعَم”. و النعمة في اللغة مرادفة للرفاه، يقول الفيروزآبادي : “والتنعم: الترفه … وينعمهم كيكرمهم”(4). والأدلّة على أن هذه الموارد إنما هي إنعام من الله على عباده كثيرة، منها :
أ- “الذي جعل لكم الارض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم”.
ب- ” الذي جعل لكم ما في الأرض جميعا”
ت- “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”
ث- “أانتم أشد خلقا أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها، والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، والجبال أرساها ، متاعا لكم ولانعامكم”
ج- بل إن آيات سورة النحل أبلغ ما يدلّ على ذلك : “والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون، وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشقّ الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم، والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون، وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين، هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون، ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون، وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، وما ذرأ لكم في الأرض مختلف ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون، وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريّا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون” وصولا لقوله ” وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها”.
هذه الأدلّة تدل على أن كل شيء مخلوق إنما خلق لأجل الإنسان، لا لسد احتياجاته الاساسية فقط، وإنما أيضا لرفاهيته وزينته ، بل ان الله خلق الانسان وقد زُيّن له “حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث”. والله يذكر في القرآن كثيرا بهذا الإنعام عندما يأمر الناس بعبادته.
هل هذا يعني انتفاء الابتلاء ؟ الجواب: كلّا ، ولكن الابتلاء هو في هذا الرفاه أصلا، فالله يخيّر الإنسان بين الاكتفاء برفاه الدنيا، أو ضمّه إلى رفاه الآخرة الذي هو “خير وأبقى”. وهذا معنى قوله تعالى : ” فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق، ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، أولئك لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب”.
2- “ولقد مكنّاهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله”
يستدل السكران بهذه الآية على أن الله عرض هذه المعايش كنعمة من الله لابتلاء الناس لا أنها هي المطلب الشرعي الرئيس. وهذا استدلال نتفق معه فيه، ولكن السكران هنا يغالط أشدّ المغالطة. فهو يورد هذا الاستدلال في معرض إثبات أن هذه الامكانيات ليس المقصود بها رفاه الناس، لا في معرض إثبات أنها ليست مطلبا شرعيا. بل الأشد من ذلك أنه يثبت أن هذه الموارد هي “نعم” من الله ، أي أن المراد منها رفاهية البشر، فأثبت ما أراد أن ينفيه !
3- “وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى”
يستدل السكران بهذا الدليل على أن هذه الاموال والاولاد لا توصل للمكانة والمنزلة الحقيقية عند الله وذلك لتفاهتها وحقارتها في ميزان الله. وهذا تحميل للنص بما لا يحتمل. فنعم، الأموال والاولاد ليست الطريق الذي يقرب إلى الله، ولكن هذا لا يعني ، أيضا ، أنها طريق حقيرة وتافهة… هي فقط ليست الطريق الصحيح، وليس في الدليل النقلي ولا في اللزوم العقلي ما يقول ان نفي كون الطريق موصل إلى الله، فإن هذا يقتضي حقارة وتفاهة هذا الطريق.
ومن هذا النوع من الاستدلالات العجيبة يقول السكران “وقد كشف الله في مواضع كثيرة تفاهة هذه المظاهر المادية .. . فلا تخلوا طائفة من آيات القرآن إلا وفيها التنبيه على حقارة الدنيا وانها مجرد لعب ولهو ، ومتاع ….والجامع بين هذه الأوصاف كلها هو كونها “لذة مؤقتة” “.
ونحن نتفق على توصيف الدنيا بهذه الأوصاف في القرآن ، ونتفق على أن الجامع بينها أنها “لذّة مؤقتة”، ولكن الذي لا نتفق معه ، ولا نفهم كيف توصّل السكران إليه أن كون الشيء لذّة مؤقتة ، فهذا يعني تلقائيا أنه حقير وتافه! كيف يكون حقيرا وتافها ما دعى النبي سليمان التميّز فيه ، لا مجرد الحصول عليه، إذ سأل ربّه : “رب اغفرلي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب”؟ كيف يكون حقيرا وتافها ما يتفضّل الله به على عباده ويذكرهم من خلاله أنه الأحق بتوجيه أصناف العبادة والتذلل إليه؟
ولنختم هذا الوجه بأن نقول أن الله إنما بعث الأنبياء وأنزل الكتب لحثّ الناس على الامتثال لعبوديته، ولكن هذا لا يعني أن يعتبر الإنسان الدنيا مجرد وسيلة، فالقرآن لم يشدد على العمارة والحضارة، لأنها خصيصة بشريّة بها يكون الانسان انسانا، وكل ما هنالك أنه أكّد عدم الانغرار بها والاكتفاء بها.
ثالثا ، أن دعوى كون الانحراف ومظاهر الخلل العقدي والاخلاقي مردها للانبهار بالمظاهر المادية، واعتبار هذا قانونا تاريخيا، أقول : أن هذه الدعوى لا تنبني على أي أساس .. وقد حشد السكران لإثبات هذه المسألة حوالي 10 أدلة، لا يوجد من بينها دليل واحد على ما يريد.
فالأدلة تتحدث عن “العاجلة” وعن “متاع الحياة الدنيا” وعن ” حرث الدنيا” .. وأن الدنيا لعب ولهو ومتاع وانتقاص لمن يفرح بالدنيا .. هذه هي أدلّة السكران، التي لا تشير لا من قريب ولا من بعيد على علاقة مباشرة وواضحة بين “الانبهار بالمظاهر المادية” والخلل العقدي والاخلاقي والانحراف. بل كل ما تدل عليه الآيات التي أوردها ، هو التحذير من الاكتفاء بالدنيا.
في حين أن الله يقول ” كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى” ، وهذه الآية توضح السبب الرئيسي للطغيان والانصراف عن عبادة الله، ألا وهو توهم الاستغناء، والاستغناء هنا قد يكون ماديا وقد يكون روحيا وقد يكون غير ذلك .. وحصره بالانبهار بالمظاهر الماديّة وجعل هذا الحصر قانونا تاريخيا إنما هو تسطيح واختزال لتعقيد الانسان وتعدد رغباته ونزعاته وأهوائه.
وكملخص لما أردنا قوله في هذه الفقرة، نقول التالي:
1- أن الحضارة مفهوم إجرائي يصف خاصيّة بشريّة، ولا يمكن اختصارها باعتبار أي منجز حضاري بأنه يتمركز حول الدنيا. ومن هنا فالأحكام التي تنسحب على الدنيا لا تنسحب بالضرورة على الحضارة.
2- أن هناك فرق بين اعتبار الدنيا كغاية من ضمن غايات، وبين اعتبارها الغاية الوحيدة. والآيات التي تقارن بين الدنيا والآخرة، إنما كانت تناقش هذه الدنيوية.
3- أن مقالة السكران تنطلق من منطلقات آيديولوجيا الزهد التي تلغي كون الدنيا غاية وإنما تصرّ على اعتبارها مجرد وسيلة.
4- فساد دعوى “قانون الانحراف التاريخي” وربطه بالمظاهر المادية.
وبعد ، سيبحث السكران الإجابة عن هذا السؤال ” ما الموقف من الحضارة المعاصرة؟” … ونحن قبل أن نناقش جوابه عليه ، سنناقش مشروعية السؤال.. وهذا ما سنفعله في الفقرة التالية ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البقرة: 86، 200، 212. النساء: 94.الأنعام: 29 ،70 ،71. الأعراف: 51 . الأنفال: 67. التوبة: 38 (مرتين)، 56، 85. يونس: 7. هود: 15. الرعد: 27 (مرتين) . ابراهيم:3. النحل: 107. الكهف: 104. المؤمنين: 28. القصص: 79. العنكبوت:25. لقمان:33. الأحزاب: 28. فصلت: 16. الشورى: 20. الجاثية: 24، 35. الأحقاف: 20. النجم: 29 .الحشر:3. النازعات: 38. الأعلى:16.