ترجمة/ ناصر البشري
مع مرور الوقت دائماً ما أتسائل ويسألني كذلك الصحفيين: هل نستطيع التسامح مع التشدد؟ مثل هذا السؤال يُبرز حقيقة أن التسامح يُمنح فقط لمن يستحقه.
عندما يسأل الناس سؤالهم الافتراضي “هل تمادينا في التسامح” فإن ما يقولونه في حقيقة الأمر هو أن التسامح يجب أن يُحصر فقط على من يشاركنا أخلاقياتنا المتعارف عليها عالمياً، فمن خلال طرح فكرة وجود ’تسامح أكثر من اللازم’ فإن هذه الفضيلة عندئذٍ تصبح ترفاً يمكن لأي مجتمع الإستغناء عنها، وعليه فإن ربط التسامح بالدلالات السلبية للسلوك المتسامح يصبح جلياً أكثر في تلك المقولة المسيئة: “عدم تسامح” (zero tolerance). حين يُطالبُ سياسي ما بعدم التسامح فإنه في الواقع يعتبر أن أدنى درجات الانفتاح حيال مسألة مهمة مثل التسامح ما هي إلا نوع من الجبن الأخلاقي.
لقد استخدم السياسيين عدم التسامح ومنع حرية التعبير في بعض الأمور من خلال قوانين “خطاب الكراهية” و”التحريض على الكراهية الدينية” لتوفير حلول إدارية لمشكلة سياسية، فالتسامح حتى في أفضل الأوقات لا يظهر بشكل طبيعي؛ فهو ليس عاطفة تظهر بشكل عفوي إستجابة لعقائد وطرق عيش تتناقض مع عقائدنا وسبل عيشنا. ولهذا من الصعب علينا مقاومة إغراءات تبني معايير مزدوجة وإيجاد أسباب مقنعة لعدم التسامح مع حق أحدهم في التعبير عن آراءه التي قد تبدو لنا كريهة. فالرقابة في عالمنا اليوم، والتي تعني رفض التسامح مع حرية الآخرين في التعبير عن آراءهم، هي في الحقيقة غالباً ما تُبرّر على أنها ضرورة لحماية الأفراد والجماعات من التشدد. وعليه فإن الإدعاء الذي ينادي بالتشدد في مواجهة المتشددين يبيّن الحالة الهشة التي يوليها المجتمع للتسامح.
ومن المفارقات، أن دعوات التشدد ضد المتشددين تتزامن مع اتجاه متنامي يعتبر أن التسامح خيار متساهل يتجاهل حقيقة التهديدات والمشاكل التي يواجهها المجتمع. وهذا ما كان يعنيه رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون في إشارة للإرهاب الإسلامي حيث قال: “بصراحة، يجب علينا أن نقلل كثيراً من التسامح السلبي الذي مارسناه في الأعوام الماضية وأن نزيد من الليبرالية النشطة القوية.” والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو، ما هو ’التسامح السلبي’؟ فالتسامح لا يمكن أن يكون سلبياً أبداً، فهو يتطلب شجاعة، وإيمان وإلتزام بالحرية، وتلك صفات أساسية لأي بطل شعبي. التسامح يستلزم الإيمان بحرية الضمير والإستقلالية الفردية، ويتناقض مع التدخل في خصوصيات الآخرين، فهو يشدد على ضرورة الالتزام بالمعتقدات والآراء المستقلة طالما لا يضر ذلك الآخرين أو ينتهك حرياتهم الأخلاقية، وكذلك ينبغي أن لا يفرض التسامح أي قيود على السلوكيات المتعلقة بممارسات إستقلالية الفرد.
أحد أسباب استخدام السيد/ كاميرون لمصطلح ’التسامح السلبي’ هو لإعادة تعريف التسامح لتصبح نسخه مهذبه من عدم التحيز. فمصطلح التسامح يستخدم في الوثائق الرسمية والمناهج الدراسية كصفة محببة بدلاً من استخدامها كطريقة للتعامل مع الآراء والمعتقدات المختلفة. بالفعل دائماً ما يُطرح التسامح في المناهج الدراسية على أنه مرادف لعدم التحيز، ولهذا عوضاً عن كون التسامح الوسيلة المُثلى للتعاطي مع إختلاف الرأي أصبح التسامح مجرد لا مبالاة بالرأي الآخر.
ولهذا عندما يُقدم التسامح على أنه شكل من أشكال اللا مبالاة، أو قبولٌ شكلي مجرد من المشاعر، فإن التسامح حينئذ يصبح ذنباً لا فضيلةً. فالتسامح بالضرورة يتطلب شيئاً من إصدار الحكم. ووفقاً للمشهد الليبرالي التقليدي فإن التسامح يتطلب إطلاق الأحكام وكذلك التفرقة، ولكن إصدار الأحكام لم يكن قط بدايةً للرقابة على آراء الآخرين وان كانت خاطئة، وذلك لأن التسامح يتطلب أيضاً إحترام حق الآخرين بالإيمان بما يرونه متوافقاً مع ضمائرهم.
إن المقدرة على التسامح مع الآراء المختلفة مبني على مبدأ أن هذه الفضيلة توفر الفرصة ليس فقط لأختبار أفكار أخرى بل ولمواجهة المعضلات الأخلاقية. وتضارب الأفكار المختلفة مع أفكارنا ومعتقداتنا أمر يستحث التحرك الخلاّق للمثقف ويعمل على تطوير الأخلاق في المجتمع بأسره. ومن هذا المنطلق فإن التسامح مع المعتقدات التي نكرهها ما هو إلا مبلغ زهيد ندفعه في مقابل الحصول على التطور الأخلاقي والثقافي للمجتمع.
وأخيراً، فالتسامح يعتبر فضيلة لأنه يهتم بالآخرين بصدق، فمن خلال منع الناس من حرية الوقوع في الزلل، سيكون من الصعب على المجتمع شق طريقة للوصول للحقيقة المنشودة.
1 Response