في مبحث “التعلق بآيتي العمارة والاستخلاف” ناقش السكران استدلال من يصفهم بـ”غلاة المدنية” بقوله تعالى: “هو أنشاكم في الأرض واستعمركم فيها” وقوله: “وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة” على أولوية المدنية والحضارة المادية. وفي مناقشته للآية الاولى توصل لنتيجة مفادها أن العمارة ليست مطلبا شرعيا، وأنه على فرض كونها مطلبا شرعيا فإن العمارة تأتي بمعنيين: إيماني ومادي، والعمارة الإيمانية أشرف من المادية. وكذلك ذكر أن العمارة المادية ذكرت في سياق ذمّ الأمم السابقة التي لم تتوفر على العمارة الإيمانية. وأخيرا،يرى السكران أنه لو كان معنى الآية دال على الحث على المدنية والحضارة المادية، فإن هذا لا يعني أن هذه المدنية أولى من العبودية.
أما بخصوص الاستدلال بآية الخلافة فقد أوضح السكران أن الخلافة تعني “خلافة الادميين بعضهم بعضا” لا أنها نيابة عن الله. وعلى فرض صحّة كونها نيابة، فإن من اختار هذا القول جعل مضمونها إقامة دين الله… لا عمارة الأرض ماديا. والاعتماد على آيات الخلافة للاستدلال على مركزية الإنسان بغض النظر عن هويته الدينية هو مصادمة للوحي. وذلك لأن هذا الأخير ربط بين قيمة الانسان وتحقيقه للعبودية.
هكذا قام السكران بمناقشة الاستدلال بهذين الآيتين، وكل الذي سنقوم به هنا هو توضيح بعض المعطيات التي تم تغييبها في هذه المناقشة:
1- القضية التي يحاول السكران هدمها من وراء هذه المناقشة هي أولوية المدنية والحضارة المادية على العبودية. وهذه القضية كنا قد وضحنا أنها لا تعدو أن تكون وهما لا أساس له، إذ أن مفهوم المدنية لا يمكن أن يكون مستقلا او مناقضا لمفهوم العبودية، بل الاثنين متداخلين ويحيلان إلى بعضهما البعض كما قد وضحنا من قبل.
2- كون العمارة لم تأت في سياق المطالبة الشرعية، فهذا لا يعني أنها ليست مطلبا رئيسيا وجوهريا للإنسان. وكنّا قد وضحنا في نقدنا للتيار الزهدي أن وظائف الإنسان ليست محصورة في قيمة العبودية فقط، بل إن الدنيا غاية أيضا كما أن الآخرة غاية، وأن هناك ثم وظائف دنيوية تستحق أن يكرّس الإنسان حياته لأجلها بالكيفية التي لا تجعلها مصادمة لوظيفة العبودية.
وعلى سبيل المثال لا يمكن أن يقال لنا أن التنفس والنوم ليسا مطلبين لعدم ورودهما في نصوص الوحي في سياق المطالبة الشرعية. هذا الكلام غير معقول، وكذلك الامر بخصوص العمارة التي هي فعالية حضارية ضرورية مطلوبة من بني البشر لاستمرار حياتهم… فبناء المساكن والتكسب والمتاجرة كل هذه تندرج تحت وظيفة عمارة الأرض وهي جزء ضروري لبقاء البشر واستمرارهم.
3- في مناقشة السكران لآية الخلافة شدّد في أكثر من موضع على أن الخلافة معناها “خلافة الآدميين بعضهم بعضا”. والقضية التي فات السكران التطرق إليها هي السؤال التالي: يتخالفون على ماذا؟
إن كان التخالف يعني مجرد التعاقب والتوالد، فلا معنى من تخصيص البشر بهذه الصفة التي يشترك معهم فيها كافة الحيوانات. ولهذا، فإن الخلافة هي تعاقب البشر على سيادة الأرض. وهذا هو المعنى الواضح من قوله تعالى: “واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح” أي أنكم ورثتم السيادة الحضارية على الأرض من بعدهم، وهو المعنى نفسه الوارد في قوله تعالى: “ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم”.
وهذا هو معنى قوله تعالى :”وإذ قال ربك إني جاعل في الأرض خليفة” أي أني سأجعل على الأرض مخلوقات تتعاقب سيادة الأرض.
وهذا ما تمدنا به المشاهدة، فلم نسمع عن مخلوق ساد الأرض وعمرها مثل الإنسان. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالمشاهدة تمدنا أيضا بأن البشر لم يسودوا الأرض جميعا، بل كانت الخلافة متداولة بينهم، فحضارة الفراعنة تلتها الحضارة اليونانية وهذه تلتها الحضارة الرومانية ، وهكذا.
4- أما بخصوص تكريم جنس الإنسان، فقد دلّت عليه آيات متعددة… منها قوله تعالى “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”. فهذه الآية توضح خصوصية “جنس الإنسان” من بين بقيّة المخلوقات. أما قوله تعالى “هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا”، فهو دليل على أن كل ما في الأرض مخلوق من أجل الإنسان، وهذا فيه دلالة على مركزيّة جنس هذا الإنسان.
وعندما نقول “مركزيّة جنس الإنسان”، فهذا لا يعني أن الإنسان، لأنه إنسان، فهو في منجى من العقاب الأخروي حتى لو لم يؤدي وظيفة العبودية المطلوبة منه. وإنما يعني أن هناك فروقات هامة وأساسية بين البشر وبقية المخلوقات، فالأصل في دماءهم واموالهم وأنفسهم، بغض النظر عن هويتهم الدينية، أنها محرمة لا يجوز انتهاكها. وهذه الحرمة إنما جاءتهم فقط لأنهم يشتركون في معنى الإنسانية. كما أن حقوقهم الإنسانية التي طورتها البشرية على مرّ العصور منذ إعلانها أول مرة في خطبة الوداع، إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، هذه الحقوق إنما استحقها الإنسان لكونه إنسانا دون الالتفات لأي اعتبار آخر.
وهكذا، وبمجرد الخروج من كمّاشة: أيهما أولى المدنية أم العبودية، نجد أن كافة الإشكاليات التي صاغها السكران لا تقوم على أساس واضح، وأن ما توهمه مصادمة للوحي او مخالفة له، إنما هو ناتج عن الحدود التي سجن بها الوحي وألزم نفسه وقارئه بها دون وجه حق.
وقبل أن نختم مناقشة هذه القسم، سنتطرق لما تناوله السكران في فقرة “الإسلاميون ضد الحضارة؟”، وبعدها سننتقل لمناقشة القسم الثاني الخاص بالأنسنة ومدرستها.