يحدث أنه في خضم التغطية اليومية للأحداث الدموية التي تجري في سوريا هذه الايام، أن يتم اغفال الاطار العام الذي تحدث فيه الاحداث، بل وأن يتم صناعة اطار مختلف تماما عما هو عليه الأمر. وهذا الاطار الجديد، حال ترسيخه وتقويته عبر وسائل الاعلام والخطب التعبوية، فإنه يُفقد هذه التضحيات اليومية معناها، بل إنه- وإن كان ينبثق من حسن نية وتعاطف صادق- يتسبب بـ(موت) آخر للمعنى الذي من أجله كان الموت الأول. ما يحدث في سوريا هو (ثورة)، وكل الاحداث المؤلمة التي نشاهدها يوميا هي تضحيات وتبعات لثورة شعب مظلوم ومضطهد يقابلها نظام ظالم ووحشي بأبشع وسائل التنكيل والقمع. وهذا الاطار تقوم التغطية الاعلامية اليومية بتحطيمه لتستبدله باطار آخر يقوم على وهمين أساسيين: أن ما يحدث هو (مأساة انسانية)، وأن ما يحدث هو (فتنة طائفية) وما ينشأ عن التصويرين من تصور أكبر يرى الحدث كله (مشكلة) بحاجة إلى حل.
أن نرفض تصوير ما يحدث بأنه (مأساة انسانية)، فهذا لا يعني التقليل من شأن الآلام والتضحيات التي يقاسيها الثوار هناك، بل هو يعني بشكل رئيسي رفض تصوير الشعب السوري وكأنه (ضحية) لكارثة طبيعية أو احتلال اجنبي أو لحدث لم يصنعه بشكل عام. إذ أن النظام السوري لم يقرر هكذا أن يقوم بتقتيل الناس دون سبب، بل إن أعماله الوحشية كانت ردة فعل على أن ثورة سورية قد حدثت. وهؤلاء الذين يقتلون ليسو (شعبا أعزل لا حول له ولا قوة)، بل هم (ثوار) ارتضو اتخاذ النضال السلمي وسيلة لهم. وموت أحدهم هو (تضحية) لأجل إنجاح الثورة وتحقيق غايتها التي هي (الحرية)، لا كما يصوره الإعلام بأنه (ضحية) عشوائية وقعت نتيجة وحشية عمياء. التأكيد على أن ما يحدث هو ثورة وليست مأساة انسانية، ليس تلاعبا بالكلمات بقدر ما هو قلب لكامل الصورة، إذ يصبح دور المتعاطفين ليس السعي لإنقاذ الناس من الموت وإيقاف آلة القتل، بقدر ما هو دعم الثوار على تحقيق الحرية، واعتبار موت أحدهم خطوة نحو الهدف لا فصلا حزينا جديدا من فصول المأساة.
كما أن رفض تصوير ما يحدث على أنه (فتنة دينية) أو طائفية أو أنه استهداف من طائفة محتمية بأدوات قمع جبارة لطائفة أخرى، هي الأكثرية، لكنها بلا حول ولا قوة. إن رفض هذا التصوير إنما هو رفض لكل تزوير للواقع وتشويهه. فالصراع في سوريا بين ثوار ونظام، بين مظلومين يناضلون من أجل حريتهم، وظلمة يقاتلون دون سلطتهم. هؤلاء المظلومين ليسوا من طائفة محددة، بل من جميع الطوائف، كما أن هذا النظام ليس من طائفة محددة بل من جميع الطوائف. والصراع الدائر بين الطرفين هو صراع بين الاستبداد والحرية، ليس صراعا بين طائفتين أو مذهبين، وكل تصوير طائفي للصراع هو محاولة لاستغلاله كي يتحول لحلبة صراع بين قوى خارجية لا تهتم بتطلعات الشعب السوري بقدر اهتمامها بالدور الاقليمي التي تؤديه سوريا في المنطقة. كما أن كل تصوير طائفي للصراع، هو دفع باتجاه إنحرافه من (ثورة) إلى (حرب أهلية)، بحيث يعمل هذا التصوير مثلما تعمل النبوءة الذاتية التحقق.
إن الإطار العام الذي يقوم كلا التصويرين السابقين على احاطة الأحداث به هو تحويله إلى (مشكلة) بحاجة إلى حل. إن الحلول التي تنبثق من طريقة التفكير التي تتبع نموذج (مشكلة-حل) ليست مجرد استنتاجات وتحليلات ذهنية مستقلة لمعطيات موثوق بها عن الوقائع، بل هي مرتبطة ارتباط مباشر بالمشكلة وكيفية تصويرها. ومن هنا إذا صورت المشكلة باعتبارها (مأساة انسانية) يصبح الحل الرئيسي هو فعل كل ما يمكن من أجل (حماية المدنيين) ولو كان بالتدخل العسكري. أما اذا تم تصوير المشكلة باعتبارها (فتنة طائفية)، تصبح الحلول كلها تفكر بمنطق طائفي تبدأ من حل المحاصصة الطائفية للسلطة (أي لبنان وعراق جديد) ولا تنتهي عند حلول الانفصال واستقلال كل طائفة بنفسها. وهكذا، تغيب طريقة التفكير هذه أن (ثورة ما حدثت) وتلغي استحقاقاتها قبل أن تحقق نجاحها، أي أن طريقة التفكير هذه تغتال استحقاقات الثورة على مستوى الادراك قبل أن يتمكن النظام من سحقها.
إن ما يحدث في سوريا ليس (مشكلة) بحاجة إلى حل، بقدر ما هي ثورة بحاجة إلى دعم. في كل مرة يغيب عن ادراكنا أن هذه الاحداث تحدث ضمن ثورة للشعب السوري، نجد أنفسنا ننزلق إلى حديث مثالي عن حماية المدنيين يخفي فتح الباب للتدخل الذي لن يكون بالضرورة أفضل حالا من النظام الحالي، ونجد أنفسنا كذلك ننزلق إلى خطاب طائفي يصور الأمر وكأنه نصرة لاخواننا في الطائفة هناك. وهاتين الصورتين والخطابين، اللذين دأبت وسائل الاعلام على ترويجهما وتسخيرهما، ليستا أكثر من وهمين، لكنهما من تلك الأوهام الخطرة، التي لها قدرة أكبر على التأثير للدرجة التي تستطيع أن تستحيل إلى حقيقة.
فخم
اشتقت لك يا سلطان لك وحشه اخوك طارق
هي ليست ثوره او خلاف طائفي او ..او …او… شيئ انساني تعرفنا عليه من التاريخ بل هو امراً كُتب في السماء لايقاس كثوره او عملاً طائفياً هو فقط طريق فتح ونهايته خلاف ما نفهمه !
مقالك هذا يقم على نقطتين أتفق مع إحداهما و أختلف مع الأخرى.
نزع وصف “المأساة الإنسانية” عما يحدث في سوريا كان سيكون خطوة سليمة في أوضاع أخرى، و لكن ما يحدث في سوريا هو بالفعل مأساة إنسانية و ذلك لـ “غياب التكافؤ بين طرفي الصراع”. قد يكن الطرفان أقرب إلى التكافؤ الآن و لكننا نعلم بأن الكفة كانت راجحة لطرف واحد لمدة ليست بالقصيرة. أتفهم سبب رفضك لوصف “مأساة إنسانية” كما وضحت في المقال، و لكن يظل ما يحدث في سوريا مأساة إنسانية بصفتها واقعاُ، لا وهماً.
أما بالنسبة لنقطة الطائفية، فأتفق معك فيها، و لكن اتفاقنا لا يهم الآن، “فالفأس الطائفي قد وقع على الرأس”، للأسف ! لذلك، هذا الأمر ليس وهماً اليوم.