”لو كنت قائداً عربياً، لما هادنت اسرائيل أبداً. هذا طبيعي: لقد احتللنا بلادهم. نعم نحن نرجع بأصولنا إلى إسرائيل، ولكن هذا كان قبل ألفي سنة، فماذا يعني هذا لهم؟. نعم لقد كانت هناك معاداة للسامية ، وكانت هناك نازية، وهتلر، ومعتقل آوشوتز، ولكن هل كان أي من هذا خطأهم؟ هم فقط يرون شيئاً واحداً: أننا أتينا هنا وسرقنا بلادهم، فما الذي يجعلهم يقبلون بذلك؟“
ديفيد بن غوريون- أحد الآباء المؤسسين لـ”دولة اسرائيل”
”الاحتلال مسألة واضحة جداً وما تقتضيه مُدرك بشكل دقيق لدى كل عاقل من العرب واليهود. فهناك هدف واحد فقط للاحتلال، وهذا الهدف هو قطعاً مرفوض لدى عرب هذه البلاد، وهذه ردة فعل طبيعية ولا شيء سيغير منها“
زئيف جابوتنسكي- مؤسس اليمين الإسرائيلي
وضوح متبدد:
لا شيء يضر أي قضية في العالم أكثر من أن يتبدد وضوحها، ولا شيء أكثر من تطاول الزمان يمكنه تبديد هذا الوضوح. فالقضية تكون واضحة في البداية، لا يتساءل مناضلوها حولها، بل يتساءلون حول وسائل حلها، لكن ما إن يتأخر هذا الحل، وتزداد القضية تعقيداً، وتتداخل فيها أطراف متعددة، حتى يبدأ التساؤل بالانتقال من وسائل تحقيق الحل إلى التساؤل حول القضية نفسها. الثورة السورية على سبيل المثال كانت شديدة الوضوح في بدايتها، حيث أنها ثورة الشعب المظلوم ضد النظام الظالم، وهي سعي حثيث نحو الحرية والعدالة، لكن ما إن طال أمدها، حتى بات هذا الوضوح يتبدد، فأصبح الثوار ”معارضة“، واختل الخط الفاصل بين ”الثورة“ و”الجهاد“، وبدأ الصراع ينتقل من كونه صراعاً لأجل التحرر من الاستبداد، إلى صراع بين ”أهل السنة والصفوية/العلوية“. صحيح أن اللحظات الحاسمة في تواريخ الأمم والمجتمعات- كلحظات الثورة، النضال من أجل الاستقلال، المقاومة…- تُظهر في الشعوب أفضل ما فيها في البدايات، لكن ما إن يتطاول الأمد حتى تبدأ بإظهار أوساخها، تظهر الخيانة، والتنكر للقضية، ترتفع المصالح الخاصة لتغطي المصلحة العامة، وتتشوش القضية فتتفرق ردود الفعل.
لا شيء في تاريخ العرب الحديث يؤكد هذا الأمر أكثر من قضية فلسطين، فالوضوح الذي قاد الجيوش العربية لدول مصر والأردن وسوريا والعراق ولبنان والسعودية وفرق المقاومة الفلسطينية لحرب ٤٨ بعد أيام قليلة من إعلان دولة اسرائيل قد تبدد، والآن، بعد سبعة عقود، تحولت قضية فلسطين من قضية ”عربية“ إلى قضية ”فلسطينية“، وتحولت الدول التي واجهت اسرائيل أكثر من مرة- كالأردن ومصر- إلى دول مسالمة، وتلاشى خيار التحرير لصالح عملية سلام هي في حقيقتها عملية استسلام ممنهج، وانتقل الموضوع من كونه ”تحرير الأرض المحتلة“ إلى ”بناء دولة فلسطينية في غزة والضفة“، وبالإضافة لهذا الخط – الذي تسميه الولايات المتحدة بالمعتدل- نجد أيضاً نمو ظاهرة المتصهينين العرب، الذين يسعون لترديد دعاية اسرائيل- الديمقراطية، المتقدمة،…إلخ- مقابل ازدراء وتشفي غريب من الفلسطينيين.
وبالإضافة لهذا اللون وذاك من ظواهر تبدد وضوح القضية وظهور سرديات متنوعة في فهمها وإدراكها، يوجد هناك خطاب ”إنسانوي“ منتشر بين الشباب العرب داعم للقضية باعتبارها ”قضية انسانية“، وهذه المقالة تهدف لمناقشة ”حدود“ هذا الخطاب والمآزق التي يحيط نفسه بها في دفاعه عن القضية، خصوصاً إذا كان المتبني له عربياً. وللقيام بهذه الغاية، اخترت مقالة كتبها محمد الطويرقي بعنوان ”مبررات الخطاب القومي والإسلامي في القضية الفلسطينية“ والتي تعبر كأفضل ما يكون عن هذا اللون من التعاطي الإنسانوي مع القضية. وسبب اختياري لمقالته مزدوج: أولاً لأنه يعبر بشكل جيّد عن هذا الخطاب الذي أرغب في تبيين حدوده وجانبٍ من تهافته، وثانياً لأنه في مقالته استشهد بواحدة من مقالاتي كدليل على طرحه الذي يدين ما دعاه بـ”المبررات القومية“. وفي سبيل مناقشتي لمقالته سأقسم هذه المقالة لثلاثة أقسام: سأقوم بالقسم الأول بتلخيص طرح الطويرقي وسأوضح أن مقالته لم تكن تتحدث عن موضوع واحد بل موضوعين منفصلين، ثم سأقوم في القسم الثاني والثالث بمناقشة كل واحد من هذين الموضوعين.
مقال الطويرقي:
بغض النظر عن عنوان المقال الذي يوحي بأنه متعلق حصراً بموضوع واحد، فإن الطويرقي في مقاله هذا لم يتناول موضوعا واحداً، بل موضوعين اثنين، وسنلخصهما بالتالي:
الموضوع الأول:
ويدور حول التساؤل التالي: ما هو موقفنا نحن كطرف ثالث من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟ يجيب الطويرقي على هذا السؤال بالتالي: موقفنا هو أن ندينه باعتباره اعتداء على بشر أبرياء مسالمين يعيشون في تلك المنطقة التي اسمها فلسطين.
وانطلاقا من هذه الإجابة يبدأ الطويرقي بإدانة ”الخطاب القومي والإسلامي“ لأنهم ينظرون للصراع باعتباره – وكل ما بين علامتي تنصيص هو كلامه بالنص- ”صراع من أجل الهوية بالأساس وليس من أجل الإنسان“، وهذه الرؤية تحول الصراع من بعده الإنساني إلى ”صراع هويات وقوميات“، ومن هذا المنطلق يجب إدانة الخطاب القومي لأنه ”يتجاهل الأساس الإنساني الذي يشترك فيه كل البشر“ ويحول القضية إلى قضية قومية وصراعات ثقافية. ويزيد الطويرقي توضيحا في رفضه لجعل الهوية القومية أساسا للصراع بأن هذه ”الهويات القومية والدينية… لا يمكن أن ترتقي لأن تكون حقوق إنسانية بذاتها، هي تكتسب شرعيتها كونها أحد تطبيقات حقوق الإنسان في التعبير والعيش“.
بعد هذا النقد الإنسانوي، ينتقل الطويرقي لتفنيد المبرر التالي: توظيف ”الخطاب القومي“ في الصراع ضروري نظرا لقوته في الحشد، ورفضه له مبني على الحجج التالية:
أ- هذا مبرر براغماتي، وإذا أردنا الاستسلام لمنطقه البراغماتي، فلماذا لا نوظف الخطاب الديني ونوسع رقعة المخاطبين والمتفاعلين مع القضية؟ بل لماذا لا نعتبرها ”قضية انسانية“ فنكسب تعاطف جميع البشر في العالم؟
ب- إن توظيف ”الخطاب القومي“ للقضية هو توظيف ضعيف، نظرا لأنه لم تكن هناك دولة عربية، وبالتالي يصبح توظيف الخطاب الديني أكثر معقولية كون الدولة العثمانية كانت ”امبراطورية دينية“.
الموضوع الثاني:
قبل أن يختم مقاله، استنزف الطويرقي الفقرات الأخيرة منه للتأكيد على القضية التالية: أن بنية الخطاب القومي لا تختلف كثيرا عن الخطاب الأممي الديني، ويستفيض في توضيح أوجه التشابه بالتالي:
أ- الخطاب الأممي الديني ينقل الدين من الممارسة الفردية ويحوله إلى ”هوية تؤسس لسلطة سياسية“، والخطاب القومي يقوم بتحويل ”الهوية الثقافية لمجتمع ما إلى أساس تشريعي لتكوين السلطة“.
ب- كما في الدين محرمات كبرى يجب على الدولة حراستها، فكذلك الخطاب القومي يحول ”القضايا القومية“ إلى محرمات يجب على الدولة حراستها وحماية المجتمع من المساس بها أو التشكيك بها.
ج- الخطاب القومي يستمد شرعيته من كونه يمثل ”قرار الأغلبية العربية“ تماما مثل الخطاب الديني.
د- صحيح أن الخطاب القومي يختلف عن الخطاب الديني في كونه علماني، إلا أننا- ولسان الحال هنا هو لسان حال الطويرقي- يجب أن نلاحظ أمرين: الأول، أنه يوجد إسلاميين أكثر ”ممارسة علمانية“ من القوميين كإسلاميي تركيا، والثاني، أن فهم القوميين للعلمانية فهم كلاسيكي يتعارض مع العلمانية الحديثة.
وأخيراً، قام الطويرقي بإثبات نقطته الأخيرة بتطبيق عملي وذلك عبر تأكيده أن استبدال لفظ ”القومية العربية“ من مقالي ”ماذا يعني أن تكون عروبياً في هذه الأيام“ بالأممية الإسلامية، لن يؤثر أبداً في بنية المقال، وبالتالي يرى في ذلك تأكيداً على أن الخطابين متماثلين بنيوياً.
هذا بشكل مقتضب ملخص مقاله، وقبل أن أبدأ بمناقشة أفكاره يجب عليَّ أن أوضح أني أرى القضية الفلسطينية قضيةً عربية، وأن الصراع هو صراع بين العرب والمحتلين الإسرائيليين، وأثناء مناقشتي لما طرحه الطويرقي سأوضح مبررات هذا الموقف، وسأقسم نقاشي إلى قسمين: قسم يتناول الموضوع الأول المتعلق باعتبار القضية الفلسطينية قضية عربية وهو الذي سأركز عليه أكثر وأقدمه في الجزء الأول من المقال، ثم قسم أخير يتناول القضية الثانية المتعلقة بالتشابه البنيوي بين الخطاب الديني والقومي وهو ما أتناوله في الجزء الثاني من المقال.
قضية سياسية… قضية عربية:
في الموضوع الأول حول قضية فلسطين يعاني مقال الطويرقي من مشكلتين رئيسيتين: الأولى، هي ابتسار السياسة والنظر إليها باعتبارها قانون. الثانية- وهي في جزء منها متداخلة مع الأولى- وهم المساواة السياسية بين البشر لمجرد كونهم بشراً. وفي ما يلي بيان هاتين النقطتين:
السياسة كقانون؟
هناك فرق جوهري بين أن تأتي عصابة وتسرق منزلاً، وبين أن تأتي أمة لتحتل أرض أمة أخرى، والفرق يتمحور في كون الحالة الأولى ”جريمة“، في حين أن الحالة الثانية ”احتلال“، أي أن الحالة الأولى تعتبر ”قضية قانونية“، والثانية تعتبر ”قضية سياسية“.
الجريمة تفترض وجود قانون مسبق، إذ بدون قانون يحدد ما هو قانوني وما هو غير قانوني، لا يمكن أن نحدد ما إذا كان عملٌ ما جريمة أم لا. لنأخذ ”القتل“ كمثال، فالقانون يحدد متى يكون القتل جائزاً ومتى يكون جريمة. فالقتل دفاعاً عن النفس لا يعتبر جريمة، وعندما تنفذ الدولة حكماً بالإعدام على أحد مواطنيها فهذا لا يعتبر جريمة. لكن عندما يطعن شخص آخر في حديقة عامة عدواناً وظلماً فهذا يعتبر جريمة، فوجود قانون مسبق ضروري لوصف حادثة ما بأنها جريمة.
بعد وصف فعل ما أنه جريمة، فإننا بالضرورة نحدد أركان هذه الجريمة، أي أننا أجبنا عن هذه التساؤلات: من هو الجاني؟ ومن هو المجني عليه؟ وما هي أداة الجريمة؟ وما هو مسرح الجريمة؟…إلخ. إن الجناة والمجني عليهم في الجرائم القانونية لا يكونون إلا أفراداً، لا يمكن إدانة دولة على جرائم قانونية، ففي محاكمات نورنبيرج التي تكفلت بمقاضاة الجناة في الجرائم التي ارتكبت في ظل النظام النازي بعد الحرب العالمية الثانية لم يتم اعتبار الجاني هو ”النظام النازي“ أو ”الحزب النازي“، بل تمت مقاضاة أشخاص وأفراد بلحمهم ودمهم. نستطيع أن نقول أن ”النظام السوري يقوم بقتل شعبه“، لكن عندما يريد المجني عليهم أو موكليهم أن يقيموا دعوى ضد إحدى الجرائم فلن تقبل دعواهم إن كانت مقدمة ”ضد النظام“، بل يجب أن تكون موجهة ومحددة ضد أفراد طبيعيين لا كيانات معنوية أو أنظمة أو دول. هذا الأمر ينطبق أيضا على المجني عليهم، لا يمكن أن أذهب للقاضي وأقيم دعوى على شخص فاسد بحجة أن الفساد يضر المجتمع ككل، ذلك لأن المجتمع ليس فرداً، ولأن أول سؤال سيسأله القاضي: هل تضررت أنت؟ فإذا كان جوابي لا، سيسألني: هل وكّلك شخص متضرر للترافع عنه؟ فإن كانت الإجابة لا، فسيسقط القاضي الدعوى لأن لا صفة لي فيها.
هذا الشرح المطول لمعنى أن تكون قضية ما ”قانونية“ مهم جدا لأنه سيوضح المآزق التي سيقع فيها من يرى ما يحدث في فلسطين على أنه ”جريمة اعتداء على بشر يقطنون في فلسطين“ كما يفعل الطويرقي، بل إنه حتى في أمثلته يقوم بطرح أمثلة على جرائم ”قانونية“ ويتساءل ماذا سيفعل القاضي حين كذا وكذا، فهو ينظر لما يحدث في فلسطين كما لو كان قاضياً. هذا الموقف ينطوي على عدد من المآزق وهي كالتالي:
أول هذه المآزق هو السؤال التالي: ما هو القانون الذي سنستند عليه في تجريم ما وقع في فلسطين؟ أمامنا ثلاث خيارات: الخيار الأول هو الاحتكام لقانون البلاد لحظة وقوع الجريمة، وهذا يعني الاحتكام للقانون البريطاني، نظراً لكون فلسطين لحظة إعلان دولة اسرائيل كانت في آخر أيام الانتداب البريطاني، وإن قلنا أننا سنحتكم للقانون العثماني، فإن الدولة العثمانية لحظة اعلان اسرائيل كان قد مر على زوالها ثلاثة عقود. إذاً لا يوجد قانون محلي يمكن الاحتكام إليه، وإن وجد فإنه سيكون القانون البريطاني الذي هو في نفسه احتلال، وهو الذي قدم فلسطين على طبق من ذهب للصهاينة، أي أن الاحتكام للقانون المحلي لحظة وقوع الجريمة، سينتهي بنا لنتيجة هي لصالح الاسرائيليين، حيث أن البريطانيين أعطوهم الأرض ورحلوا.
لننتقل للخيار الثاني، وهو القانون الدولي، وعلى الرغم من المآزق التي يعاني منها هذا القانون نظراً لأنه لا قانون بلا سيادة، إلا أننا حتى لو سلمنا به جدلا فإننا سنجد أيضا أن الوضع يقف لصالح إسرائيل، إذ أن قرار التقسيم الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة القاضي بتقسيم فلسطين لدولتين: واحدة لليهود وواحدة للعرب- والذي احتفى به الصهاينة مع بعض التحفظات- كان هو الأساس الذي تم بناءً عليه فرض الانسحاب على بريطانيا وإعلان تأسيس “دولة اسرائيل”.
ماذا بقي؟ لم يتبق إلا الخيار الثالث وهو ”القانون الطبيعي“، وهو الذي أعتقد أن الطويرقي يتبناه، والقانون الطبيعي هذا هو ميتافيزيقا ليبرالية تفترض وجود حقوق طبيعية في كل إنسان بمجرد كونه انسانا، ومن هذا المنطلق فإن الاعتداء على هذه الحقوق هو جريمة لأنها مخالفة لهذا القانون الطبيعي الذي يرجعه جون لوك إلى مصدر إلهي، وكل خطاب ”حقوق الإنسان“، الذي يستند إليه الطويرقي كثيراً في تجريمه لما يحدث في اسرائيل، إنما يستند على فرضية وجود هذا القانون الطبيعي، السابق على كل قانون والحاكم على أي منها، وبغض النظر عن حقيقة وجود مثل هذا القانون أم لا، فإن الاستناد على مثل هذا القانون لن يؤدي بنا إلى ”تجريم“ وجود اسرائيل نفسها، بل قصارى ما يمكن لهذا القانون أن يمدنا به هو تجريم قتل بعض الابرياء هنا، وسجن بعضهم هناك، وسرقة ملكيات بعضهم هنا، وهو لن يدين ”إسرائيل“ كدولة وأمة بهذه الجرائم، بل سيدين الأفراد الجناة فقط، لأن الجريمة القانونية كما ذكرنا لا تكون إلا ضد أفراد طبيعيين، أي أن كل ما نستطيع معالجته عبر قانون الطبيعة وحقوق الإنسان هو ”بعض الانتهاكات الاسرائيلية“ والتي يمكن تسويتها دون أن ينهي الأمر مسألة ”الاحتلال“.
وبشكل مختصر، فمهما بحثنا عن القانون الذي نريد أن نعتمده لتجريم الأفعال التي تحدث في اسرائيل، فإن أقصى ما يمكن أن نصل إليه هو أن نهاجم اسرائيل عندما تغتال طفلاً كمحمد الدرة، أو تعتقل شخصاً بشكل غير نظامي كسامر العيساوي، أو تهاجم مدنيين في قطاع غزة كما حدث قبل عدة أسابيع. وسنهاجمها بنفس الميزان الذي سنهاجم فيها عمليات المقاومة التي تستهدف المحتلين معتبرين إياها- في حال ما كان اعتمادنا على القانون الطبيعي- ”اعتداءً على مدنيين ابرياء“، بل قد يصل بالبعض اعتبارها ”إرهاباً“: هذه الكلمة التي بقدر كونها لا تعني شيئا بقدر ما تحمل كما هائلا من الشحنة السالبة التي تحيل إي انسان تلتصق به إلى شيطان. إذا نظرنا للأمور من ناحية قانونية، فإننا سنساوي بين من يحتل وبين من هو تحت الاحتلال، وسنقوم بالتدقيق في ”الجرائم“ التي تقع دون النظر لمن قام بها. بكلمة واحدة: المحكمة لا تستطيع أن ترى الاحتلال، كل ما تراه هو أفعال الأفراد.
بل لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، وهذا ثاني المآزق، بل يتعداه ليصل لنتائج مضحكة مثل أن الجناة الذين قاموا بجرائم القتل توفوا، وبالتالي فإنه من الظلم معاقبة أبناءهم على جرائم لم يرتكبوها، فيصبح قتال أبناء العرب المقتولين لتحرير أرضهم من أبناء القتلة الصهاينة هو فعل جريمة إذا نظرنا للأمور من ناحية قانونية. أي أننا حتى لو تجاوزنا معضلة القانون الذي سنحدد فيه الجريمة، فإننا سنقع في مطب أننا لن نستطيع أن ندين إلا أفرادا ولن ندافع إلا عن أفراد بدون النظر لهوياتهم.
أخيرا- وهنا نتحدث عن المأزق الثالث- لنفرض أننا تنازلنا عن كل شيء ورضينا بالصورة القانونية التي يقدمها لنا الطويرقي للصراع، سنتساءل: ما هي المحكمة التي ستحقق للفلسطينيين فتات العدالة التي منّ عليهم بها الطويرقي؟ هل هي الولايات المتحدة مثلاً؟ أم هي محكمة الجنايات الدولية؟ نحن نعلم جيداً مدى تحيّز هذه المؤسسات لصالح اسرائيل. ماذا نفعل؟ هل نعلن الثورة على كل هذا العالم ونعيد بناء عالم جديد عادل؟ ولكن عند هذه النقطة تحديدا علينا أن نتسائل: من هم نحن؟ وعند هذا السؤال، سنكف عن الحديث بشكل قانوني، وسنبدأ بالحديث سياسيا.
إن هذه المآزق كلها نابعة من تكييف قضية فلسطين باعتبارها قضية ”قانونية“، واعتبارها قضية ”قانونية“ نابعة من رؤية المسألة على أنه صراع بين ”أفراد“. في حين أن المسألة ليست صراعاً بين أفراد بل هو صراع بين جماعات سياسية، والصراع بينهما ليس على ملكية أرض ملكية تجارية بل على السيادة على هذه الأرض، وهذا ما سأوضحه الآن بشكل أكثر تفصيلا.
كل فرد يولد ضمن جماعة سياسية، لا يمكن أن يوجد فرد في العراء، بل يولد ضمن جماعة سياسية تتعهده في سنواته الأولى التي لا يستطيع فيها الاعتماد على نفسه بالرعاية والتنشئة والتربية التي تغرس فيه قيم هذه الجماعة ولغتها وتاريخها. علاقة الفرد بجماعته السياسية هي علاقة انتماء لم يخترها ابتداء مثلما أنه لم يختر أسرته وشكله ومكان ووقت ولادته، إلا أنه- على عكس أسرته وشكله- بإمكانه دوماً تغيير انتماؤه وأن ينتقل إلى جماعة سياسية أخرى، وهذا الفعل – أي الانتقال من جماعة سياسية إلى جماعة سياسية أخرى- هو الهجرة. والهجرة تختلف عن الخيانة، إذ إن الخيانة هي التعاون مع جماعة سياسية أخرى معادية للجماعة السياسية التي يعلن هذا الفرد أو ذاك انتماؤه لها، فالهجرة إعلان مفارقة لجماعة وانتماء لأخرى، لكن الخيانة هي اعلان انتماء لجماعة والتعاون مع أعدائها ضدها. رفض الانتماء إلى جماعة ما، لا يعني عدم الانتماء مطلقا، بل يعني- ضرورةً- الانتماء لجماعة سياسية أخرى، إذ- كما قلنا- لا يوجد أفراد خارج الجماعات السياسية. هذا الانتماء إلى جماعة سياسية يتخذ أشكالا متعددة ومتنوعة، ويتغير بتغير الجماعات السياسية، وتغيره بشكل رئيسي ينطلق من نوعية الالتزامات والواجبات التي تترتب على كل من الجماعة السياسية والفرد، فكما أن الجماعة السياسية توفر الحماية للفرد فهي تتوقع منه التضحية لأجلها، وكما أنها توفر له الحرية فهي تتوقع منه التقيد بأعرافها وقوانينها….إلخ، وهذه العلاقة التي أوصفها هنا هي العلاقة التي حكمت علاقة الفرد بقبيلته، وعلاقته بقريته، وبعشريته… عندما كانت القبيلة والقرية والعشيرة جماعات سياسية.
في العالم الذي نعيش فيه اليوم نجد أن الأرض مقسمة إلى مجموعة من الدول، هذه الدول تمثل الشكل الحديث للتنظُّم السياسي، إذ إن كل دولة من هذه الدول تقوم على دعوى تمثيل سيادة جماعة سياسية- أو أمة- على رقعة جغرافية محددة بحدودها، فدولة فرنسا على سبيل المثال تمثل سيادة الجماعة السياسية الفرنسية- أو الأمة الفرنسية- على حدود جغرافية معينة. الفرق بين الجماعة السياسية الحديثة والجماعة السياسية التقليدية، أي الفرق بين الأمة من جهة، وبين القبيلة والعشيرة من جهة أخرى، هو أن الجماعة السياسية الحديثة جماعة متخيلة في حين أن الجماعات التقليدية جماعات مُدركة. في حالة العشيرة والقرية والقبيلة كل فرد يعرف بقية أفراد جماعته، يعرفهم بالشكل أو بالاسم أو بالسماع، في حين أن الأفراد في الأمة لا يعرفون بعضهم بشكل مباشر بل يستطيعون تخيل أنفسهم ضمن جماعة مشتركة. وعندما أقول ”تخيّل“ فأنا لا أقصد بالتخيّل هنا معنى ”التوهم“ أو خداع النفس، بل أقصد به معنى مقابل للإدراك الحسي المباشر، أي إدراك للإنتماء المشترك مع أفراد آخرين غير مدركين حسيا بناء على عناصر يعيشون ضمنها بشكل يومي، عناصر كاللغة والتاريخ يتم ادراكها عبر وسائل اتصال حديثة كالتلفاز والطباعة والإذاعة…إلخ، فابن القرية يعرف ابن القرية الآخر الذي يشاركه الانتماء لجماعته السياسية بشكل حسي ومباشر، في حين أن الأمريكي الذي يعيش في واشنطن يمتلك من العناصر والأدوات الحديثة ما يمكنه من تخيل نفسه متشاركا مع شخص في ولاية كاليفورنيا- أي شخص لم يره ولا يعرفه بشكل شخصي- ضمن جماعة سياسية.
انطلاقا من هذا التوصيف، نستطيع فهم ماذا يمكن أن نعني عندما نقول أن أرض فلسطين خاضعة لسيادة جماعة سياسية، وأن الإسرائيليين قاموا باحتلال هذه الأرض وتشريد أفراد تلك الجماعة وانتهاك سيادتها، وأن هذا الاحتلال يعطي لأفراد تلك الجماعة السياسية التي تم احتلالها ليس فقط حق بل واجب مقاومة هذا الاحتلال، وتعاون أحد أفراد هذا الشعب مع الاحتلال ضد جماعته السياسية يعتبر خيانة للإنتماء الذي يجمعه بجماعته. بهذا المعنى تكون قضية فلسطين ”قضية سياسية“، وليست قضية قانونية، قضية جماعة سياسية وليست قضية مجموعة أفراد.
وبهذا المعنى أيضاً يصبح موقف الفرد المنتمي للجماعة السياسية التي تعرضت للاحتلال يختلف عن موقف الفرد غير المنتمي، فالفرد الذي ينتمي لتلك الجماعة من واجبه أن يدافع عن جماعته وأن يضحي من أجلها وأن يسعى في سبيل تحررها من الاحتلال. الفرد المنتمي للجماعة السياسية ليس ”طرفاً ثالثاً“ في الصراع، ليس ”طرفاً محايداً“ يلعب دور الحكم، بل هو متورط في الصراع وأحد أطرافه وهو الطرف الواقع عليه الظلم وهو الذي يقع عليه الدفاع عن نفسه والمقاومة، إنها المسؤولية الجماعية التي تنبع من الانتماء إلى جماعة سياسية. بالمقابل، فإن الفرد غير المنتمي للجماعة السياسية يُفَسَّر تعاطفه ومناصرته للقضية بكونها موقفاً أخلاقياً دفعه إليه نبله ومناصرته لما يراه حقاً، فهو ليس عليه التزام سياسي للدفاع عن هذه القضية، إنما محض التزام أخلاقي، في حين أن الفرد المنتمي للجماعة عليه التزام سياسي، أي التزام نابع من ذلك الانتماء، وهو لا يملك ترف التخلي عنه أو التخاذل عن القيام به إلا عندما يقرر ”هجر“ جماعته إلى جماعة أخرى.
تهافت الخطاب الإنسانوي
في الجزء الأول كان كل الذي أردت أن أثبته أن قضية فلسطين ليست قضية أفراد فيتم التعامل معها وكأنها قضية جنائية قانونية، بل هي قضية سياسية متعلقة بانتهاك سيادة جماعة سياسية. مهما اختلفنا حول هوية هذه الجماعة السياسية، فإن هذا لا يلغي أن القضية هناك هي قضية سياسية، أي قضية هذه الجماعة السياسية. في هذا الجزء سأتعرض للمشكلة الثانية في خطاب الطويرقي وهي ما أسميته ”وهم المساواة السياسية بين البشر“، وبعد تعرضي له سأبين المبررات التي تدفعني لاعتبار أن الجماعة السياسية المنتهكة حقوقها إنما هي الأمة العربية.
يقول الطويرقي ”… وهذا بالضبط ما يحاول فعله القوميون. هم يريدون أن يصوروا الصراع الفلسطيني أو العربي الإسرائيلي على أنه صراع من أجل الهوية بالأساس وليس من أجل الإنسان…هذه الرؤية تحول القضية الإنسانية من اعتداء انساني على حقوق ناس أبرياء إلى صراع هويات وقوميات…“. كيف نستطيع فهم المصطلحات التي يوردها الطويرقي مثل ”القضية الإنسانية“ و“اعتداء انساني“ و“من أجل الإنسان“؟ ماذا يعني عندما يقوم شخص برفض انتماء سياسي محدد- كالانتماء للعروبة أو الأمة الفرنسية أو الألمانية- انحيازا للإنسانية؟ هذا الذي سنفعله هنا.
عندما توضع ”الإنسانية“ كمقابل للانتماءات السياسية فهذا يعني تسييساً لها، والتسييس هنا يعني نقل انتماء ما من مجال ما إلى مجال السياسة، فالإنسان- أي انسان- متعدد الانتماءات، فهو اجتماعيا قد ينتمي لأسرته أو لحيّه أو لدوائر أصدقائه وقبيلته أو للجمعيات الأهلية التي يختار الانضمام لها، وهو – دينيا- قد ينتمي إلى هذا المذهب أو ذاك، وهو- اقتصادياً- ينتمي إلى طبقة اقتصادية محددة قد تكون طبقة ثرية أو وسطى أو فقيرة، هذه الانتماءات عندما تُسيَّس فإنها تُنقل من فضائها الخاص إلى الفضاء السياسي، وحين يتم هذا فإنها ستتحول إلى ظواهر مختلفة، فتسييس الانتماء الديني سيظهر لنا الحركات الطائفية- سنية كانت أو شيعية، إسلامية كانت أم مسيحية أو يهودية أو بوذية- وتسييس الانتماء الاقتصادي، سيظهر لنا الحركات الشيوعية والإشتراكية واللبرتارية. عملية النقل هذه – أو عمليات التسييس- تصبغ هذا الانتماء بعد نقله بالمنطق الأساسي الذي يتحكم بالمجال الجديد أي مجال السياسة.
كل مجال من مجالات التجمع البشري يحمل منطقاً خاصا به، يقول كارل شميت في ”مفهوم السياسة“: ”لنعتبر أن التمييز في مجال الأخلاق هو بين الخير والشر، وفي مجال الجمال بين الجميل والقبيح، والتمييز في مجال الاقتصاد هو بين الربحي وغير الربحي… إن التمييز السياسي الذي بناءً عليه يمكن رد كل الأفعال والدوافع السياسية إنما هو التمييز بين الصديق والعدو… العدو السياسي ليس بالضرورة أن يكون شريراً أخلاقياً أو قبيحاً جمالياً، وليس عليه أيضا أن يبدو كمنافس اقتصادي، بل قد يبدو من المفيد الانخراط معه بصفقات اقتصادية، لكنه ذلك الآخر، الغريب… وتحديده لا يكون باللجوء إلى معيار أو مبدأ ما ولا عبر طرف ثالث محايد“، فعلى سبيل المثال التمايز بين العمال وأصحاب العمل هو تمايز اقتصادي يمكن رده إلى التمايز بين المربح وغير المربح، ولكن عندما يتم تسييس هذا التمايز فإنه يتم تغيير العلاقة بين الطرفين إلى علاقة صديق-عدو، ويصبح الغرض المتطرف لكل طرف هو ”إفناء“ الآخر، وهذا بالضبط ما قام به ماركس حيث أن كل نظريته قائمة على إلغاء السياسية وتسييس الاقتصاد وتفسير الصراع السياسي على أنه صراع بين طبقات والانحياز لطبقة العمال والتبشير بأنهم في النهاية سيقومون بالقضاء على الطبقة البوروجوازية. يمكن أن نرى نفس هذا الأمر أيضا في المجال الديني، فالتمايز في المجال الديني هو بين الحق والباطل، وأطراف هذا المجال يمكن تصنيفهم بين من هو محق ومخطئ وبين من هو مبتدع وضال، ومؤمن وكافر، والوسيلة التي يمكن تسوية هذه التمايزات في هذا المجال إنما تكون بأدوات كالحوار والنقاش والدعوة وما إلى ذلك، لكن بمجرد ما يتم تسييس هذا المجال، وتحويل العلاقة بين المؤمن والكافر إلى علاقة بين صديق-عدو، فإن الهدف النهائي لكل طرف سيكون القضاء على الآخر بالقوّة.
بحسب هذا الفهم المحدد لمعنى ”التسييس“- أي نقل انتماء ما من مجال ما إلى المجال السياسي- ماذا يعني تسييس انتماءنا الانساني؟ ما هو المجال الذي ينتمي إليه ”انتماؤنا إلى الإنسانية“ والذي يريد الطويرقي ومجمل المتبنين للخطاب الانسانوي نقله إلى المجال السياسي أي إلى التمايز “عدو-صديق”؟ في الحقيقة إن الخطاب الإنسانوي يقوم بتسييس خليط من المجالات بعد دمجها سوية بشكل محدد، وهذا ما سأشرحه بقليل من التفصيل فيما يلي.
لنبدأ بالمجال الأول، وهو المجال البيولوجي، أي التمايز بين الكائنات الحية من ناحية الصفات والخصائص البيولوجية، فهنا نجد أن ما يقابل الانسان هو الحيوان، فانتماؤنا للنوع الإنساني في هذا المجال لا يعني أكثر من تشاركنا بمجموعة من السمات والخصائص البيولوجية التي تميزنا عن باقي الحيوانات التي تشاركنا هذا الكوكب. إن أبرز نموذج على تسييس هذا المجال ، أي نقله لتمايز إنسان-حيوان من المجال البيولوجي إلى المجال السياسي وتحويله إلى تمايز صديق-عدو، نجده في التراث اليهودي وفي فكرة ”شعب الله المختار“، إن هذه الفكرة تعني أن العلاقة بين المنتمي لليهودية والمنتمي لغيرها من الأعراق/الأديان مماثلة للعلاقة بين الانسان-الحيوان، وبتسييسها يتم إعلان العداء ضد كل من هو غير يهودي. نفس المعنى نجده في التمايز الأوروبي بين ”المتحضر-المتوحش أو البربري“ الذي هو علمنة لمقولة شعب الله المختار.
الفرق الذي يقوم به الخطاب الإنساني أنه لا يحصر معنى الانسانية في عرق أو قبيلة أو دين محدد، بقدر ما يقوم بوضع تعريف أخلاقي وقانوني- أي بدمج المجال الأول البيولوجي بمجالات أخرى أخلاقية وقانونية- لمن هو ”الإنسان“، أي بجعل الإنسان مرادف للبريء في المجال القانوني ومرادف للخيّر في المجال الأخلاقي، ثم يقوم بتسييس هذا الخليط معا، ليصبح ”العدو“ هو الحيوان المتوحش المجرم الشرير. يمكن ملاحظة خطاب الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد ما تسميه ”الإرهاب“، لنرى أن الإرهابي يقدم بهذه الصفات: مجرم خارج على القانون، شرير، أي لا يستحق صفة ”إنسان“، ولهذا يتم تبرير التعامل معه بطريقة مشابهة لطريقة صيد الذئاب والدببة والوحوش التي تهدد القرية، أي الطريقة التي نراها مجسدة في سجن جوانتنامو وقتل الناس بطائرات بدون طيار وغيرها. إن هذا المعنى للإنسانية – أي هذه الخلطة القانونية/الأخلاقية/البيولوجية- هو الذي يخلع على بعض الأفعال، فانطلاقاً من هذا المعنى المحدد تصبح المعونة الأخلاقية: مساعدة إنسانية، ويتحول التدخل العسكري من أجل حماية المدنيين ”تدخلا إنسانيا“، وتصبح عمليات الإبادة جرائم ”ضد الإنسانية“. إن الإنسانية في هذه العبارات تعني أن هذه المساعدات وهذا التدخل وهذه الجرائم ليست ”لغايات سياسية“ بل ”لأجل الانسانية أو ضدها“. ونفي وصف ”السياسة“ هنا لا يلغي ”التسييس“ إذ أن السياسة في هذا السياق فقدت معناها وتحولت لمعنى من قبيل “السعي خلف المصالح الخاصة“، في حين أن الإنسانية هي السعي لما فيه صالح ”النوع الإنساني“- المعرف تعريفا أخلاقيا وقانونيا محدداً- بشكل عام. أي أن هذه المقابلة بين الإنسانية/السياسة، تقوم بتسييس الإنسانية ونقل السياسة من مجالها – أي مجال الصديق/عدو- إلى مجال الاقتصاد – أي حسابات المصالح الخاصة والأرباح والخسائر.
هذا الخطاب الإنسانوي يعاني من ثلاثة مشاكل، أولها: أنه يقوم بتحويل الانتماء البيولوجي للنوع الإنساني إلى انتماء سياسي، ويقوم بإذابة الجماعات السياسية البشرية المتنوعة إلى جماعة سياسية واحدة كبرى اسمها ”الإنسانية“، محكومة بقوانين طبيعية وتتمتع بحقوق ”إنسانية“، وبالتالي تُعتَبر قضية فلسطين قضية ”إنسانية“، أي أنها صراع بين ”الجماعة السياسية الإنسانية“ وبين ”إسرائيل“ التي سيفهم من هذا السياق أنها لا تنتمي إلى الإنسانية وأن أفرادها فاقدين لها. تقول حنة أرندت ”ليس الإنسان من يعيش على هذا الكوكب، بل الناس“، وما تؤكد عليه أرندت في هذه العبارة هو ما يسعى الخطاب الإنسانوي إلى مصادرته: أي التنوع البشري، أن البشر متنوعون كأفراد وجماعات وموزعون على لغات وتواريخ وتقاليد ودول متنوعة، وأن خطاب ”الإنسانوية“ هذا، لا يقوم بأكثر من تحويل ”الإنسان“ إلى صنم، يستخدم لطمس هذا التنوع واستبداله بنمط واحد مكرر من نسخة واحدة لـ“الإنسان“.
بالإضافة لهذه النزعة الشوفينية المتضمنة في هذا الخطاب الإنسانوي، فإن ثاني مشاكل هذا الخطاب تتمثل في أنه من الناحية العملية ليس أكثر من يوتوبيا، أي محض حلم لا يمكن تحققه مع وجود هذه الدول والأمم والجماعات السياسية المتنوعة الموجودة في العالم، إلا أن اليوتوبيا- لأنها تحديداً غير قابلة للتحقق- تصبح مبررا لكل أنواع العنف والقهر والاستغلال، فهي بهذا الشكل لا يستفيد منها تقريباً إلا جهتان فقط: الولايات المتحدة الأميركية من جهة، والشركات العابرة للقارات من جهة أخرى. الأولى عبر توظيف هذا النوع من الخطاب لانتهاك سيادة الدول والأمم الأخرى واعتبار الممانعين لسياساتها ”إرهابيين“ و“محور شر“، أي لا يستحقون صفة ”إنسان“، أما الثانية فعبر الاستفادة من تنميط البشر- باعتبار أن هذا التنميط هو الإنسانية، فيبدأ الحديث عن ”أعياد انسانية“ و“مناسبات انسانية“- الأمر الذي يقتضي تنميط أذواقهم وعاداتهم بحيث يكونون نسخ مكررة من بعضهم، وهو الأمر المرافق لفتح أسواق جديدة، بعد تقليص القدرات السيادية للدول والأمم على أسواقها.
أما المشكلة الثالثة فهي في الفهم المختل لمعنى المساواة السياسية. فهذا الخطاب- عبر تسييسه للتمايزات البيولوجية والاخلاقية والقانوني- يسعى لإنهاء كل التمايزات الأخرى في المجال السياسي، فهو يتعامل مع تمايز الفرنسي والصيني والعربي والإسرائيلي على أنها إما ”تمايزات لا معنى لها“ أو أنها ”عنصرية“، ففي هذا الخطاب التمايز الوحيد المقبول هو ذلك الذي بين الإنسان/الخيّر/البريء وبين الحيوان/الشرير/المجرم، وهذا هو الجذر الحقيقي لعداء الطويرقي وغيره من الإنسانويين للقوميات. المساواة السياسية لا تكون بين الناس، بل بين المواطنين، والمساواة بين المواطنين تتضمن في ذاتها عدم تساويهم مع الغرباء والأجانب والأعداء، فالمساواة السياسية لها مضمون، وهي تتضمن في ذاتها لامساواة: المساواة بين المواطنين لا تكون ممكنة إلا إذا تضمنت لا مساواة مع الأغراب، فالمواطن الأمريكي مساوٍ للمواطن الأمريكي الآخر بمعنى أن المقيم والأجنبي ليس مساوياً لهم. يقول كارل شميت عن المساواة بين البشر بصفتهم بشراً، أي المساواة بلا مضمون، بأنها ”ستكون مساواة بدون اللامساواة الضرورية لها، أي أنها بالمحصلة ستكون من ناحية سياسية ومن ناحية المفهوم بلا معنى، بأنها مساواة لامبالية… إلا أن المساواة ذات المضمون لن تختفي من العالم ومن الدولة، بل سينتقلون إلى مجال آخر، ربما تنفصل عن السياسة وتتركز في الإقتصاد، جاعلة من هذا المجال ذا أهمية حاسمة واستثنائية، وفي ظروف المساواة الإنسانية السياسية، فإن مجالاً آخر حيث المساواة ذات المضمون تسود (كالمجال الاقتصادي على سبيل المثال اليوم) سيهمن على السياسة“ (المقدمة الثانية لأزمة البرلمانات، ص ١٢). أي أن الهاجس العُصابي الكامن في هذا الخطاب الإنسانوي في القضاء على كافة التمايزات السياسية، لن يقوم بأكثر من نقلها إلى مجالات أخرى كالأخلاق والاقتصاد والدين وتسييسها، ومهما كانت الشرور التي قد تنبعث من الحروب بين الأمم والجماعات السياسية، إلا أن الشرور التي تنبعث من تسييس المجالات الأخرى لا تقل عنها إن لم تكن تتجاوزها بالإضافة للشرور الأخرى الناتجة عن إفساد المجال الأصلي نفسه عبر تسييسه.
الخطاب الذي يستند إليه الطويرقي في نسخته اللطيفة لا يمكن أن يقدم أكثر من رد السياسة إلى محض قانون والتعامل مع المختلفين بشكل فرداني عبر تمايز بريء/مجرم، أو أنه في نسخته الشاملة يعمد إلى تقسيم العالم إلى إنسان/خيّر/بريء و حيوان/شرير/مجرم. في الأولى لا يمكنه- في سياق القضية الفلسطينية- إدانة ”الاحتلال“ بل كل ما سيدينه هو بعض الجرائم واستخدام العنف ومن الطرفين، وفي نسخته الثانية فسيعتبر الانحياز لأحد طرفي الصراع هو انحياز مع الخير والبراءة والإنسانية ضد الإجرام والهمجية والشر.
صراع عربي-إسرائيلي
الآن، في حال رفضنا لهذا الخطاب الإنساني وإعادة الاعتبار للمجال السياسي، وفي حال رفضنا للنظر للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية قانونية بين أفراد بل قضية سياسية بين جماعات سياسية، فإنه بالإمكان الحديث الآن وبشكل واضح أن هاتين الجماعتين السياستين هما: العرب من جهة، والإسرائيليون من جهة أخرى. هو ليس صراعاً فلسطينياً-إسرائيلياً، لأن اسرائيل تحتل أراضٍ عربية- احتلت أراضي من لبنان ومصر وسوريا والأردن وفلسطين- ولأن إسرائيل لا تعتدي فقط على الفلسطينيين بل تعتدي على الدول العربية أيضاً: تقصف مفاعلا نوويا في العراق، وتقصف مقر منظمة التحرير في تونس. إنها تعادي العرب وتحتل أراضيهم، وعلى رغم أن هناك من يختلف مع جعل العرب هم الطرف الآخر في الصراع، إلا أنهم يتفقون على أن إسرائيل هي الطرف الأول. لهذا تجد أن الصراع يوصف تارة بأنه ”صراع فلسطيني-إسرائيلي“ أو ”صراع عربي-اسرائيلي“ أو حتى ”صراع إسلامي-إسرائيلي“، وهذا الخلاف على الطرف المقابل لإسرائيل يعود إلى ما يدعوه عزمي بشارة بالمسألة العربية، أي إلى كون الأمة العربية واحدة من أكبر الأمم المعاصرة التي لم تنل حق تقرير المصير. هذه الحالة، أي كون العرب لم ينالوا حق تقرير المصير، أفرزت العديد من الظواهر السياسية كالطائفية، والدولة القُطرية، بل يمكن تصوير الإنسانوية بنسختها العربية بأنها هي الجواب الليبرالي العربي عن هذه المسألة، وهي الحال التي تفرز عدم الوضوح هذا في تحديد الطرف المقابل لإسرائيل في الصراع، وما سأقوم به الآن هو الحديث عن مسألتين: الأولى هي توضيح أن المقصود بالعروبة والأمة العربية ليس تسييساً عرقياً، والثانية أن قضية فلسطين ليست ”قضية دينية“ وليست ”قضية فلسطينية“، بل قضية عربية، حيث ستتضمن هذه المسألة الثانية رداً على الموضوع الثاني الذي تناوله الطويرقي.
القومية العربية تعني أن العرب جماعة سياسية تقابل الأتراك والفرس والفرنسيين والألمان وغيرهم. هناك اتجاه يرى في العرب ”عرقاً نقياً“ أعلى من باقي الأعراق، ويعتبر أن العربي أفضل من غيره فقط لأنه عربي، وأن للعروبة معانٍ نبيلة وأخلاقية وجمالية، هذا الاتجاه عنصري، يقوم بنقل التقسيمات العرقية إلى مجال السياسة بعد خلطها بمجموعة من القيم الأخلاقية وغيرها، وهذا الاتجاه يزعم أنه بإمكانه اشتقاق أخلاق عربية وعادات عربية واقتصاد عربي من الانتماء لجماعة عربية، هو اتجاه يفهم ”الجماعة“ بشكل عضوي لا يدع مجالاً لحرية الفرد، وهو في حال وصوله للحكم سيقوم بكل الفظائع التي يقوم بها كل نظام عنصري.
إلا أن المغالطة التي يرتكبها كل من ينتقد ”القومية“ هو أنه يختصرها في هذا الاتجاه العنصري، فالدولة الألمانية قائمة على قومية ألمانية، لكن القومية الألمانية ليست هي النازية، ومحاولات الانقلاب على هتلر التي قام بها بعض ضباط الجيش الألماني إنما كانت من أجل إنقاذ ”ألمانيا“ من النازية، أي دفاعاً عن الجماعة السياسية ضد هذا الاتجاه العنصري. يوجد يهود قوميين، لكن هذا لا يجعلهم بالضرورة صهاينة، فالصهيونية- مثل النازية – حركة عنصرية وليست حركة قومية، وبنفس هذا المنطق يجب التفريق بين الاتجاهات العنصرية العربية والقومية، فالحركات القومية ليست بالضرورة بعثية.
إن المشروع القومي لا يحمل أجوبة اقتصادية واجتماعية ولا يتبنى شكلا محددا للنظام السياسي، فكما أن هناك أميركي شيوعي وأميركي لبرالي فكذلك هناك عربي ديمقراطي، وآخر سلطوي، وثالث ليبرالي، ورابع اشتراكي..إلخ، وإذا كانت القوميات الأوروبية استغرقت فترة زمنية طويلة للتشكل كاستجابة للتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والتطور في مجال الاتصال والمواصلات، فإن القوميات الأخرى احتاجت حركات وتضحيات في سبيل أن تنال استقلالها ووحدتها من الاستعمار، ومن هذا المنطلق يمكن النظر للقومية العربية باعتبارها مشروع سياسي يقوم بشكل رئيسي على التحرر من الاستعمار وبناء المؤسسات السياسية العربية، أي الاستقلال وبناء الدولة، إلا أن العرب، على مدى عقود، لم ينالوا حق تقرير المصير ولم يتحرروا كليا من الاستعمار، بل نالوا استقلالهم بشكل مُجَزَّأ على شكل دول قطرية، أي دول لا تمثل كل العرب بل تمثل أجزاء منهم. هذه الحال التي لا يمكن اعتبارها استقلالاً كاملاً ولا حتى تحرراً كاملاً، لا خروجاً من زمن الاستعمار ولا دخولاً في زمن الاستقلال، لا حرباً مع العدو ولا سلاماً معه، هي التي تتسبب في كثير من تبديد الوضوح الذي نعيشه هذه الأيام، إلا أن هذا الوضع لا يدفعنا إلى اعلان ”نهاية العرب“، بقدر ما يدفعنا إلى معالجة هذه المشاكل المستجدة والتفكير فيها انطلاقاً من كوننا عرباً، مثل مقاومة تسييس الهويات الفرعية كالهويات الطائفية وتحويل الطوائف إلى جماعات انفصالية أو حركات محاصصية، ومثل مقاومة الاحتلال الإسرائيلية ومعالجة القضية الفلسطينية باعتبارها قضية عربية، والسعي نحو اتحاد عربي بين الدول العربية بحيث تكون سياسات هذه الدول تستجيب لتطلعات الأمة التي يمثلونها، والحرص على بناء مؤسسات الدولة على أسس عربية، لا أسس طائفية أو عشائرية، وأخيراً احترام حقوق الجماعات السياسية الأخرى مثل الأكراد وغيرهم في تقرير المصير.
ليس الهدف هنا كتابة بيان للمشروع العربي القومي، إنما المقصود توضيح أن التأكيد على الانتماء العربي ليس ترديداً للغة خشبية ولا إحياء لتقليعة ماضية ولا انحيازاً لاتجاهات عنصرية تبرر سياسات استبدادية وقمعية لدى بعض الدول التي ترفع شعارات قومية.
ومن هذا المنطلق تصبح دعوى الطويرقي أن الخطاب القومي مشابه للخطاب الإسلامي من ناحية بنيوية لا معنى لها، ذلك أن الخطاب الإسلامي يقوم بتسييس انتماءٍ ديني، أي نقل الانتماء الديني إلى المجال السياسي. الانتماء الديني قائم على الإعتقاد والاعتناق، أي أنه مشروط بالاختيار الحر وخاضع للتبدل، وهو من ناحية أخرى عابر للثقافة والجغرافيا والدول، فالمسلمون يوجدون في مشارق الأرض ومغاربها. إن نقل هذا الانتماء الديني إلى المجال السياسي يؤدي إلى أربعة أمور: أولاً، يقوم باعتبار الشخص مسلماً بالولادة لا بالاختيار، بحيث يعتبر مسلماً من وُلد لأب مسلم بغض النظر عن اعتقاده، وهذا الأمر يؤدي لظواهر مضحكة كما هو حاصل الآن في لبنان، إذ تجد أن الهوية السياسية لشخص ما قد تكون ”سنية“ لكنه ملحد، فيصبح ”سني ملحد“. ثانياً، ولأن الانتماء الديني قائم على دعوى الوصول إلى الحق، ولأن البشر يختلفون فيما بينهم في وصولهم لهذا الحق، فإن تحويل هذا الانتماء إلى المجال السياسي يعني نقل هذه التمايزات في الوصول إلى الحق إلى تمايزات في الحقوق السياسية، فلا تعتبر مواطنة المؤمن كمواطنة المبتدع ولا تعتبر مواطنة الأخير كمواطنة الكافر، وتخضع المواطنة لتقييم دوري للتأكد من سلامة العقيدة. ثالثاً، ولأن الأديان تتوزع إلى فرق ومذاهب فيما بينها، فإن تسييس الانتماء الديني يعني تحويل أتباع المذهب الديني إلى جماعة سياسية، ومشكلة الطائفية ليس أنها تحمل في طياتها نزعات انفصالية أو محاصصية، بل مشكلتها أيضاً – كما لاحظ ذلك عزمي بشارة- أنها تقضي على الفرد أيضاً إذ تذيبه في الطائفة، فحماية الطائفة للفرد مشروطة بذوبانه فيها. أخيراً، فإن الخطاب الديني هو خطاب شمولي، يقوم على دعوى تقديم حلول لكل شيء، فهناك شكل محدد للدولة، وهناك اقتصاد اسلامي، ومعرفة إسلامية، وسياسة شرعية…إلخ، وهي بهذا المعنى تكون متشابهة مع الحركات العنصرية لا مع الحركات القومية التي يفشل الطويرقي دائماً في التمييز بينها.
وكما أن القضية الفلسطينية لا يمكن اعتبارها قضية إسلامية- إلا اذا اختصرنا قضية فلسطين بالتهديدات التي تتعلق بالحرم المقدسي والمساجد الإسلامية في فلسطين، وإن قمنا بهذا الاختصار فاننا لا نستطيع أن نرى الاحتلال كمشكلة بل ما يقوم به فقط تجاه هذه المؤسسات- فإنها أيضاً ليست قضية ”الفلسطينيين“ بل قضية ”العرب“. فاعتبار الهويات القُطرية هويات بديلة للهوية العربية يتضمن عدداً من المشاكل التي لا تنتهي، فمن ناحية مبدئية هذه الهويات هي أحد نتائج المستعمر وليست مضادة للإستعمار، فالحدود التي تفصل لبنان عن سوريا عن العراق والتي تفصل مصر عن السودان والتي تفصل دول الخليج عن بعضها هي حدود مصطنعة، ومن صنعها هو الاستعمار، فبناء هوية فوقها يعني الخضوع للمنطق الاستعماري. أما من ناحية أخرى، فهذه الهويات لا تحمل في داخلها شرعية إذ أنها مرتبطة بالأنظمة السياسية القائمة التي هي الأخرى منحازة طائفياً وعشائرياً ومناطقياً، وهو الانحياز الذي يوفر بيئة خصبة لنشوء معارضات طائفية ومناطقية وعشائرية، معارضات انفصالية أو محاصصية، ولا يُفهم من هذا الكلام بالضرورة المطالبة بإلغاء الحدود والمطالبة بالوحدة العربية الشاملة، بل كل ما يؤكد عليه أن هذه الدول لا تستمد شرعيتها إلا بصفتها دولا ”قُطرية“ أي أنها تمثل جزءاً من الأمة العربية، وبالتالي فإن عملية بناء الدولة والمؤسسات السياسية فيها لابد أن يكون مرتبطاً ببناءها على أساس عربي لا على أساس ”وطني“ – الذي لن يعني إلا مناطقي وعشائري وطائفي- وأن سياستها الخارجية يجب أن تكون سياسات عربية، أي ليست سياسات تطبيعية أو سياسات خاضعة للهيمنة ومتحالفة مع الآخر ضد الدول العربية الأخرى.
خاتمة:
كما يبدو واضحا، فأنا في هذه الورقة حرصت أن أقدم نقداً شاملاً لمجمل الخطاب الانسانوي المنتشر في أوساطنا العربية مؤخراً، وقمت بتوظيف مقال محمد الطويرقي ليكون نموذجاً لهذا الخطاب، لكن لم أحصر النقد به بل حاولت أن أجعله عاماً وشاملاً، ومن هذا المنطلق اشتمل النقد المقدم هنا على ثلاثة جوانب: الأول، هو التأكيد على أن رد السياسة إلى قانون لن ترى في الخلافات والأزمات السياسية إلا الانتهاكات والجرائم الفردية، لكن لا يمكن أن ترى ظواهر سياسية مثل الاستعمار والاحتلال، ولهذا السبب تحديداً تفشل هذه المقاربة في التعاطي مع السياسة التي لابد من النظر إليها انطلاقا من أن العالم مكون من جماعات سياسية، أما الجانب الثاني، فقد وضحت فيه مدى تهافت الخطاب الانسانوي وكيف أنه في محاولته لإلغاء كافة التمايزات السياسية الموجودة اليوم يقوم بتسييس انتماءات بيولوجية وأخلاقية وقانونية تتضمن عدداً من المشاكل والمآزق والأخطار. أخيراً، وبعد إعادة الاعتبار للمجال السياسي وللجماعات السياسية، وضحت أن الجماعة السياسية المتضررة في قضية فلسطين هي الجماعة السياسية العربية، ليست الفلسطينية ولا الإسلامية، وأن وصف الجماعة السياسية بالعربية لا يتضمن تسييساً عرقياً ولا تنظيراً عنصرياً مع توضيح الفرق بين العنصرية والقومية.
قبل أن ألغي معرفي في تويتر تناقشت معك نقاشا حادا اعترف انني كنت متحاملا فيه. وأظن انك “بلكتني” بعده :). بعد أن ألغيت حسابي وجدت أن أمامي وقت كافي وهاديء لمراجعة أفكاري وقرأت عدة كتب عن الهوية مثل “مسأل الهوية” للجابري و “أن تكون عربيا..” لعزمي ومجموعة كتب لبرهان غليون المتعلقة بالهوية. وأخيرا هذه المقالة العبقرية يا سلطان التي ساهمت بشكل كبير ( خاصة الجزء المتعلق بالفرق بين القومية والاسلامية) في وضوح التوجه والرؤية بالنسبة لي.
ممتن لك يا سلطان. وأتمنى لو ألتقيك يوما ما حتى اجد المزيد من الاجابات. شكرا مرة اخرى 🙂