الكلفة الحقيقية للتدخل الانساني
الحقيقة المريرة لفكرة نبيلة
بقلم بنجامين ڤالنتينو
حين كانت القوى المناهضة للقائد الليبي معمر القذافي تحكم سيطرتها على طرابلس في الأيام الأخيرة من أغسطس ٢٠١١، بدأ الكثير من الخبراء بالتحدث عن نصر، ليس فقط للمتمردين، بل وأيضا للتدخل الانساني. دعاة التدخل في ليبيا يجادلون أن رئيس الولايات المتحدة باراك أوباما وجد الصيغة الموفقة للتدخل: دعم إقليمي ودولي واسع، وتوزيع حقيقي للعبء مع الحلفاء، وقوات محلية مؤهلة تشن الحرب على الأرض. بل ذهب البعض إلى التبشير بأن هذا التدخل مُؤشر على بزوغ “مبدأ أوباما”.
جلي أنه من المبكر التحدث عن انتصار كهذا بالنظر إلى أن الكلفة النهائية للتدخل الليبي لم يتم حسابها بعد. فما تزال البلاد على شفير حرب أهلية، والحكومة الجديدة قد لا تكون أحسن حالا من سابقتها. وفي الوقت الجاري، تظهر بوادر مُقلقة لاقتتال في صفوف المتمردين، إضافة لأنباء ذات مصداقية عن انتهاكات لحقوق الإنسان تقوم بها قوات من المتمردين.
وحتى لو أدى التدخل في ليبيا في النهاية إلى ولادة ديمقراطية مستقرة ومزدهرة، فإن هذه المحصلة لن تبرهن على صحة خيار التدخل الليبي، ولا على أن تدخلات شبيهة في أماكن أخرى يجب أن تجري. ولأجل هذا يجب مقارنة الخسائر الكاملة للتدخل مع منافعه، والتساؤل عما إذا كان بالإمكان إنجاز هذه المنافع بكلفة أقل. تجربة العقدين الماضيين ليست مُشجعة. في حين أن التدخل الانساني، بلا شك، أنقذ حياة العديدين، فإن الكثيرين يفشلون في تثمين الكلفة الأخلاقية والسياسية والاقتصادية المنطوية على التدخل.
التواضع على التدخل
بانتهاء الحرب الباردة تنبأ عديد محللي السياسة الخارجية بعودة الولايات المتحدة لسياسة الانعزال، فقيل أنه بانعدام الحاجة لمناهضة الاتحاد السوفييتي سيتجه الأمريكان إلى الداخل. وما من داع لقول أن هذه التنبؤات لم تتحقق. فعلى مدى التسعينات استمرت الولايات المتحدة بلعب دور القائد للعلاقات الدولية، مبقية على قواعدها العسكرية حول العالم، متدخلة باستخدام القوة العسكرية بصورة متواترة. ولم تفعل هجمات ٩/١١ سوى تدعيم هذه السياسة. سياسيو الحزبين الديمقراطي والجمهوري يعدون نشر القوات جزء من تقاليد العلاقات الدولية.
لم يكن الأمر على هذا الحال دوما. ورغم أن سياسة الانعزال بدأت في الاندثار من صفوف المحافظين منذ الخمسينات، أثناء الحرب الباردة وخصوصا بعد حرب ڤيتنام، لبث الليبراليون مناهضين لاستخدام القوة العسكرية حتى في سبيل غايات إنسانية. لكن بُعيد انهيار الاتحاد السوفييتي بدأ الكثير من اليساريين باعتناق فكرة أن القوة العسكرية الضخمة يمكن استخدامها في انقاذ الحيوات بدل ازهاقها. كان تبخر القوة السوفييتية عاملا لتذليل استخدام القوة، بازالته لأكبر قيد على نشر القوات الأمريكية في الخارج. لقد أقنع النجاح الباهر للعسكرية الأمريكية في حرب الخليج الكثيرين بأن الأمريكان ما عادوا ماقتين للتدخل الخارجي، وأنهم تخلصوا من “عقدة ڤيتنام” للأبد. حينها بدى أن كلفة استخدام القوة قد انخفضت بصورة مبهرة.
أدت نهاية الحرب الباردة لاندلاع حرب أهلية دموية في يوغسلافيا، في صراع هو الأضخم في أوروبا منذ ٥٠ سنة. ورغم أن المصالح الأمريكية في تلك المنطقة كانت منعدمة تقريبا، أدت الطبيعة الدموية للقتال لدعوات عديدة للتدخل، أتت غالبا من اليسار. لم تُحرك هذه النداءات جورج بوش للتدخل في البلقان، لكن قراره بإرسال قوات إلى الصومال عام ١٩٩٢، كان في جزء منه محاولة لتبيين أنه مستعد لاستخدام الجيش في مهام إنسانية في حال كانت الظروف مؤاتية. خطت الولايات المتحدة خطوة أبعد في عهد الرئيس بيل كلينتون، فشرعت في تدخلات إنسانية في البوسنة وهاييتي وكوسوفو. عدد لا يستهان به من صنّاع الرأي اليساريين، من بينهم بيتر بينارت وتوماس فريدمان وكريستوفر هيتشنز وآن-ماري سلوتر، ساندوا لاحقا غزو العراق في العام ٢٠٠٣، على أساس قناعة بأنه سينهي عقودا من خرق حقوق الانسان على يد صدام حسين.
كذلك دعى ديمقراطيون بارزون الولايات المتحدة لاستخدام القوة العسكرية لانهاء المجازر في دارفور السودان. كان جو بايدن سيناتورا في عام ٢٠٠٧ حين قال للجنة الشؤون الدولية في مجلس الشيوخ: “سأستخدم القوة الأمريكية الآن.. بإعتقادي أنه ليس وقت التخلي عن التفكير باستخدام القوة، بل علينا التفكير باستخدامها، وعلينا أن نستخدمها”. في السباق الرئاسي داخل الحزب الديمقراطي عام ٢٠٠٨ كررت هيلاري كلينتون الدعوة لفرض منطقة حظر طيران في السودان. وفي مارس الماضي دافع أوباما عن التدخل في ليبيا قائلا: “ستكون هناك حالات لا يكون أمننا فيها مهددا بصورة مباشرة، ولكن التهديد يكون موجها لمصالحنا وقيمنا؛ في هذه الحالات يجب ألا نخشى التدخل”. الرأي العام كان موافقا على هذا، ففي استطلاع أجري بعد بداية الضربة الجوية ضد ليبيا وجد أنه على الرغم من وجود حربين جاريتين، أن غالبية الديمقراطيين والجمهوريين يدعمون العمل العسكري. فقط الذين يصفون أنفسهم بالمستقلين كانوا ميالين إلى عدم الموافقة.
إحصاء الكلفة
مناصرو تدخلات كهذه يُقِيمون قضيتهم على المسؤولية الأخلاقية للولايات المتحدة، ورغم ذلك فإن الكلفة الأكبر لهذه التدخلات العسكرية – على الأرجح – هي كلفة أخلاقية. فالوضوح والصفاء الأخلاقي النظري لدعوى دعاة حقوق الانسان في هذه القضايا، متمثلا في إنقاذ الأبرياء؛ يستحيل ضبابية وغشاوة في ظل واقع مشتبك ومُربك.
بادئ ذي بدء، فإن مساعدة المدنيين العُزّل قد عنى دائما تمكين وتقوية فصائل مسلحة تدعي تمثيل هولاء الضحايا، وهي فصائل مسؤولة بدورها عن انتهاكات كبرى لحقوق الانسان. ورغم أن دعاة التدخل الانساني في التسعينات كانوا يقارنون فضائع تلك الحقبة بالهولوكوست، إلا أن التقدير الأخلاقي للتدخل في هذه الصرعات كان مُشكلا بلا شك. ضحايا التوتسي في روندا والبوسنيون المسلمون والكوسوفيون الألبان أبرياء كبراءة ضحايا اليهود في الحرب العالمية الثانية، ولكن خيار مساعدة هذه المجموعات المضطهدة يستلزم دعم فصائل مسلحة لا تتمتع بالفضيلة والاستقامة.
على سبيل المثال لا الحصر، في البوسنة دعمت الولايات المتحدة قوى كرواتية وبوسنية مسلمة لصد عدوان الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفتش، هذه القوات كانت أقل وحشية من القوات الصربية بلا مقارنة، ورغما عن ذلك تورطت هذه القوات في العديد من الفضائع. مثلا في أغسطس ١٩٩٥، قامت القوات الكرواتية بترحيل أكثر من ١٠٠٠٠٠ صربي من منازلهم في إقليم كراچينا في كرواتيا، وقتلت المئات من المدنيين في حادثة وصفتها النيويورك تايمز بـ”أكبر حادثة تطهير عرقي فردية في الحرب”. لقد تبين لاحقا أن وزارة الخارجية الأمريكية سمحت لمستشارين من الجيش الأمريكي بتدريب الجيش الكرواتي أثناء الإعداد لهذه العملية. في إبريل هذه السنة، اثنان من القادة العسكريين الكروات الذين كانوا في الحملة تمت ادانتهم بجرائم ضد الانسانية في لاهاي.
على نحو مماثل، بعد أن ساعدت حملة قصف الناتو عام ١٩٩٩ في إجلاء القوات الصربية من كوسوفو، قام جيش التحرير الكوسوفي بقتل المئات من الصرب المقيمين في الإقليم وفي مقدونيا المجاورة، وتشريد الآلاف منهم. ومنذ نهاية الحرب دعت مجموعات حقوق الإنسان والمجلس الأوروبي بشكل متكرر في التحقيق مع ضباط ذوي مناصب رفيعة في جيش التحرير الكوسوفي متهمين بتورطهم في اعدامات واختطافات وتعذيب، بل وحتى الاتجار بأعضاء بشرية.
مجموعة أخرى من التكاليف الأخلاقية نابعة لا من السلوكيات البغيضة للجماعات التي يتم منحها الحماية، وإنما من التبعات الحتمية للتدخل العسكري. قد تكون غايات هذا التدخل إنسانية بصورة جلية، لكن الوسائل لا يمكن لها أن تكون إنسانية. استخدام القوة لأجل انقاذ حيوات يقتضي ازهاق أخرى، بعضها بريء. ما تزال الأسلحة الأكثر تقدما غير قادرة على محو الأضرار الجانبية. يتذكر أكثر الأمريكيين موت ١٨ جنديا أمريكيا في الصومال عام ١٩٩٣ في حادثة “سقوط الصقر الأسود”، قليلون هم الذين يعلمون أن القوات الأمريكية وقوات الأمم المتحدة قتلت في ذلك اليوم ما لا يقل عن ٥٠٠ صومالي، وما يفوق ١٥٠٠ في بقية المهمة، أكثر من نصف القتلى كانوا نساء وأطفالا.
في كوسوفو، بالإضافة إلى ما بين ٧٠٠ وعدة آلاف من القتلى في الجيش الصربي، تقدر الهيومن رايتس واتش سقوط أكثر من ٥٠٠ قتيل من المدنيين جرّاء قصف الناتو. طيارو الناتو، الذين يطيرون فوق علو ١٠٠٠٠ قدم لأجل تقليل خسائرهم، يجدون صعوبة في التفريق بين العدو والصديق على الأرض. كذا قُتل ١٦ مدنيا عندما قصف الناتو محطة تلفازية صربية متهمة بنشر الدعاية الحكومية. هذه الحوادث، وأخريات، جعلت الهيومن رايتس واتش تستنتج أن الناتو في إدارته للحرب خرق القانون الدولي الإنساني، وجعلت منظمة العفو الدولية تتهم الناتو بارتكاب جرائم حرب.
مع أن التدخلات العسكرية تهدف لرفع كلفة انتهاك حقوق الإنسان على من ينتهكها، فعلى الأرجح أن التدخلات تأتي بنتائج معاكسة. فببساطة قد ينحو الجاني باللوم على الضحية بما تسبب به التدخل من معاناة وهزائم، مما يغريه بالانتقام من الضحايا، بل حتى قد يحضى انتقامه بدعم شعبي. التدخل العسكري الأجنبي بإمكانه أن يجعل الضحايا يبدون كأعداء خونة وأقوياء، قادرون على الانتقام أو الاستحواذ على السلطة أو الإفلات من الدولة، بدلا من كونهم مجرد مصدر إزعاج. في ظل هذه التهديدات من الأرجح أن يحظى خيار اتخاذ إجراءات حازمة وقاسية بالقبول حتى في أوساط المعتدلين. وبما أن أغلب المهام الإنسانية تعتمد على القوة الجوية لتفادي الخسائر في صفوف القوات المتدخلة، فإن الضحايا المحتملين للرد على التدخلات يبقون بلا حماية.
ففي كوسوفو أدت حملة قصف الناتو إلى تصليب الرأي الشعبي الصربي ضد الكوسوفيين الألبان، وإلى حصول ميلوسوفتش على دعم شعبي واسع، على الأقل في البداية.
الكثير من الصرب طبع قمصانا تحوي إشارة الهدف، وشهد حفلات روك مناهضة للناتو، تعبيرا عن التضامن مع نظام ميلوسوفتش ضد الغرب. أخبر أحد الصرب مراسلا: “كنت ضد ميلوسوفيتش حين كان طاغية، أنا الآن ضد الناتو لأنه قوي ونحن ضعفاء”. ما يزيد الطين بلة، أن القصف أدى لتصاعد العنف، على الأقل منح ميلوسوفتش مبررا كان يحتاجه لتنفيذ خطته المبيتة بتطهير المنطقة عرقيا. وعلى أية حال عندما تصاعدت هجمات الصرب على الكوسوفيين، كانت طائرات الناتو تُحلق بارتفاع وسرعة فائقة لا تمكنها من حماية المدنيين على الأرض.
احتمال قدوم تدخل عسكري أجنبي قد يشجع الضحايا على التمرد، بما يعرضهم لخطر ماحق إن لم تكن القوات المتدخلة مسلحة بشكل مناسب، أو تأخرت في القدوم، أو لم تأت البتة. ربما المثال الأشد سطوعا هو ما جرى بعيد حرب الخليج. فخلال الحرب دعى بوش العراقيين إلى “أخذ زمام الأمور بأيديهم، وإجبار الديكتاتور صدام على التنحي”. استجاب الكثير من الأكراد والشيعة لندائه، معتقدين أن الولايات المتحدة سترسل قواتها لمساعدتهم، أو على الأقل لحمايتهم، من انتقام صدام، وهذا لم يحدث. فعدم رغبة بوش في التورط دعته لإنهاء الحرب بعد مرور ١٠٠ ساعة من بداية الغزو البري. استجاب صدام للتمردات المحلية بوحشية لا مثيل لها، فقتل ما يقرب من ٢٠٠٠٠ كرديا و٣٠٠٠٠-٦٠٠٠٠ شيعيا، غالبيتهم مدنيين.
مجموعة أخرى من التكاليف المرتبطة بالتدخل ذات طبيعة سياسية. التدخل الإنساني الأمريكي اكسب البلاد قلة من الأصدقاء الجدد، ودهور علاقاتها بعدة أمم قوية. أمن الولايات المتحدة على المدى البعيد يعتمد على روسيا والصين، أكثر من أي بلاد أخرى على الأرجح، لكن التدخلات المدعومة أمريكيا أدت لزعزعة الثقة بين واشنطون وهذه الأمم. كلا البلدين يواجهان تهديدات إنفصالية جادة ويناهضان تدخل الولايات المتحدة في البوسنة وكوسوفو، خوفا من حدوث سوابق غير مرحب بها. حادثة قصف السفارة الصينية في بلغراد عام ١٩٩٩ تسببت بمقتل ثلاثة مواطنين صينيين، وأدت إلى مظاهرات حاشدة خارج السفارة الأمريكية في بكين، واهتزاز شديد في العلاقات بين البلدين استمر طيلة سنة. أما الصراع مع روسيا حول كوسوفو فما زال قائما حتى اليوم.
المخاطر السياسية ليست محصورة في القوى المنافسة للولايات المتحدة. فالبرازيل والهند أكبر حلفاء الولايات المتحدة الديمقراطيين في العالم النامي يعارضون تدخلها في كوسوفو ويرفضون الاعتراف باستقلالها. مؤخرا انضمت هذه البلاد إلى روسيا والصين في شجب التدخل في ليبيا، على أساس أن ممارسات الناتو تجاوزت بشكل ملحوظ تفويض مجلس الأمن.
أحد التكاليف السياسية غير المحسوسة لهذه التدخلات هو أثرها المدمر لسلطة المنظمات الدولية، كالأمم المتحدة. ففي حالة كوسوفو، لتجنب احتمالية اعتراض الصين وروسيا في مجلس الأمن على مشروع قرار للتدخل، أصر العديد من مؤيدي التدخل أن المهمة ليست بحاجة لتفويض الأمم المتحدة. بعد مرور عدة سنوات وجد مؤيدو التدخل أنفسهم يجادلون ضد تدخل الولايات المتحدة في العراق، على أساس أن واشنطون فشلت في الحصول على موافقة الأمم المتحدة. بما أن الولايات المتحدة تجاهلت الأمم المتحدة في حالتي كوسوفو والعراق، فمن الصعب عليها مستقبل أن تشجب استخدام القوة من دول أخرى لم تستطع الحصول على موافقة الأمم المتحدة.
* ملاحظة: الترجمة كانت لأجزاء من المقالة الرئيسية وليست لها بالكامل.
1 Response