قديماً، كانت «قضية المرأة» في الغالب ساحة صراع «ذكورية»، لقد كانوا رجالاً من يتجادلون حول المرأة، سواء أولئك الذين يريدون «الحفاظ» عليها أم غيرهم من الذين يريدون «تحريرها»، في الوقت الحاضر، وعلى رغم أن الكثير من الرجال ما زالوا منخرطين في مسألة المرأة، إلا أننا نرى يومياً تنامياً كبيراً لوجود النساء أنفسهم في هذا الصراع، بعض هؤلاء النسوة يسمين أنفسهن «نسويات».
في هذه المقالة، لن أحاول الدخول في ساحة الصراع هذه، بل ما سأقوم به هو طرح عدد من الملاحظات الرئيسة حول موضوع الانتماء إلى النسوية في بلدان مثل البلدان العربية.
من الناحية الأولى والجوهرية لا بد من التذكير بحقيقة بسيطة، لا توجد في البلدان العربية مواطنة، والمواطنة هنا ليست ورقة إثبات، أي ليست جواز سفر أو بطاقة مدنية، المواطنة هنا تعني الاعتراف بحقوق شعوب هذه البلدان السياسية وتنظيم مشاركتها وتفاعلها في الفضاء العام. مثّل الربيع العربي، وما زال يمثّل بمعنى ما، محاولة جادة لهذه الشعوب لاقتحام، سواء في شكل سلمي أم عنيف، هذا الفضاء وكسب الاعتراف به، ولأن نتيجة هذه المحاولة ليست واضحة في شكل كافٍ بعد، فإننا سنتجاهلها قليلاً هنا.
ماذا يقتضي عدم وجود المواطنة هذا؟ إنه يعني أمراً بسيطاً وكثيراً ما يتم تجاهله، إنه يعني أن مطالبة جزء من المجتمع بـ«المساواة» السياسية مع جزء آخر هو تهريج لا معنى له.
إذ إن مطلب «المساواة» يفترض أن الطرف المطلوب المساواة معه «يتمتع بحقوق»، وهذا الافتراض، كما ذكرنا، غير متحقق، عندما يطالب السود في حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأميركية بالمساواة مع البيض، فإنهم يطالبون بمطالبة ذات معنى، إذ إن البيض هناك فعلاً يتمتعون بحقوق مواطنة، حق تصويت فعلي لا شكلي على سبيل المثال، لا يتمتع السود بها. هذا يعني أن مطالبة «النسويات»، أو حتى الطائفيين أو غيرهم من الذين يقومون بالمحاماة عن جزء من المجتمع وتسييس هويته بالمساواة السياسية، هي مطالبة لا معنى لها، لأن لا أحد يتمتع بها.
كيف تم ويتم تجاهل حقيقة واضحة مثل الشمس كهذه عند النسويات؟ أعتقد أني أملك إجابتين على هذا السؤال. الإجابة الأولى، أن النسويات يرون «فروقاً» بين وضعية الرجل في هذه الدولة أو تلك ووضعية المرأة، فيقومون بالمطالبة بإلغاء هذه «الفروق» تحت يافطة «المساواة». المشكلة في هذه الفروق ليس كونها غير موجودة، بل كونها «فروقاً اجتماعيةً» أو فروقاً خدميةً أو- في شكل عام- كونها نوعاً من «المنح»، وهبتها هذه الدول للرجل، ولم تهبها للمرأة.
هذا يعني أن المطالبات «النسوية» بالمساواة ليست مطالبة بالمساواة في المواطنة بل مساواة في المنح، أي أنه نوع من المطالبة بإعادة توزيع المنح التي تقدمها الدولة أكثر من كونه عملاً يسعى إلى تأكيد حقوق المواطنة الأساسية، أي أنه عمل ليس موجهاً للدولة بل إلى أجهزتها الخدمية والبيروقراطية.
الإجابة الثانية، تتمثل في خرافة «عالمية قضايا المرأة». فالحركة النسوية بدأت أساساً باعتبارها حركة غربية، تشكلت وتمت صياغتها من نسويات غربيات لمواجهة الذكورية المتأصلة في الثقافة الغربية، ما لم تتخلص منه بعض الأجيال الأولى من النسويات الغربيات وبعض المعاصرات هو «المركزانية» الغربية، أي افتراض أن «قضاياهن» هي «قضايا النساء في كل مكان»، وأن الحلول التي يدفعون بها هي حلول صالحة للجميع بغض النظر عن تمايز السياقات الثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.
هذا الافتراض تم الكشف عن تحيزاته ونقده في شكل مكثف من النسويات المنتميات إلى الدراسات ما بعد الاستعمارية كالأستاذة شيلا بولبيك في كتابها «إعادة موضعة النسويات الغربيات: تنوع المرأة في عالم ما بعد الاستعمار»، وهذا الافتراض متى ما قامت النسوية العربية بالأخذ به على علاته من دون مراعاة الاختلافات الشاسعة بين السياقين العربي والغربي، فإنها ستجد نفسها مدفوعة مباشرة، لتجاهل مسألة اختفاء المواطنة.
فالحركات النسوية الغربية نشأت في دول فيها معنى للمواطنة، لكنه محتكر أو مهيمن عليه من فئة من المجتمع أو أن مواطنة المرأة، وإن كانت نظرياً مساوية للرجل، إلا أنها عملياً، لظروف اجتماعية واقتصادية، أقل منه. فهي حركات تطالب بالمساواة مع مواطنة موجودة و«ممأسسة».
وعندما تقوم النسوية العربية بنسخ هذه التجربة، وتطالب بالمطالبات نفسها تجد نفسها فجأة تتحول من «مواجهة السلطة» إلى مواجهة الرجل والثقافة والدين وغيرها من طواحين الهواء في معارك دونكيشوتية لا تستفيد منها إلا الدول التي تحرم شعوبها من المواطنة.
تجد نفسها مرتبطة بالمنظمات الغربية التي تسمي نفسها «دولية» أكثر من ارتباطها بالنسوة التي تحاول الدفاع عنهن، تجد نفسها، أخيراً وشيئاً فشيئاً، تفكر في هويتها الأنثوية تفكيراً طائفياً أي تحولها إلى هوية سياسية تكون أساساً للعمل السياسي، عوضاً عن المواطنة الغائبة.
لا يعني هذا الكلام الخلوص إلى نتيجة مفادها أنه لا يمكن الحديث عن حركة نسوية في ظل غياب المواطنة، إن ما يعنيه هذا الكلام هو الحذر من الفصل بين النضالين بتبريرات «براغماتية» بحجة التدرج وما إلى ذلك، إذ إن عزل المحاماة عن المرأة ضمن إطار عام من المحاماة عن المواطنة يعني تلقائياً تحالفاً مع السلطة، ويعني موضوعياً ترسيخاً للوضع القائم، عوضاً عن أن يكون تغييراً له.