كتب عبدالله حميد الدين ردا على تدوينتي الأخيرة. في التدوينة قدمت الحجج التالية ردا على أطروحة حميدالدين:
١- هو فرّق بين الهويات التي تبنى على “أفكار”، وبين الهويات التي تبنى على أساس الحدود. أنا وضحت له أن الحدود أيضا أفكار وبالتالي تفريقك هذا لا معنى له.
٢- هو يعتبر الدولة مصدرا للهوية. ووضحت له أن هذا أولا إلغاء للتاريخ، وثانيا تجاهل لحقيقة التحيزات الموجودة في الدولة السعودية الحالية، وثالثا انتماء للمدرسة الفاشية التي تعتبر الدولة هي من تحدد من نحن.
٣- أنه يصرّ على الربط بين العروبة وأحد مشاريعها السياسية ويخلط بين نقدها ونقد هذا المشروع. فبيّنت له أن هناك فرق بين الهوية والمشروع، وهذا التفريق الذي ينطبق على الفكر القومي لا ينطبق على الفكر الفاشي- الذي يعتبر الدولة هي الهوية أو بدونها تتلاشى الهوية- الذي يصدر عنه.
فيما يلي سألخص رد حميدالدين على كل نقطة ثم أقوم بالرد عليه:
١-الفرق بين القومية والحدود:
بالنسبة لمسألة التفريق بين فكرة القومية وبين الحدود، قال: “هي جميعا في نهاية التحليل قضايا توجد في الذهن. ولكن فرق بين “فكرة” تمتمد وتتسع وبين حدود أرضية ثابتة. ولن أخوض هنا كثيراً لأن سلطان لم يناقش الفرق بين العروبة وبين الحدود ولكنه فقط ناقش طريقتي في تسميتها. وهذه طريقة من طرق نقاشه وخروجه عن الموضوع الذي لا يملك عليه إجابة.”
أي أنه:
أ- تراجع عن تفريقه الأول وأقر معي أنها جميعها أفكار، أو “قضايا توجد في الذهن”.
ب- طرح فرقا بينهما وهو أن “الأفكار تتمتد وتتسع” بينما “الحدود أرضية ثابتة”.
جـ- رفض الاستمرار بطرح فروقات بينهما، مفضلا الانتقال من موضوع النقاش لشخص محاوره، حيث ذكر أن سبب رفضه هو أن “سلطان لم يناقش الفرق بين العروبة وبين الحدود ولكنه فقط ناقش طريقتي في تسميتها. وهذه طريقة من طرق نقاشه وخروجه عن الموضوع الذي لا يملك عليه إجابة“.
وتعليقي سأختصره بثلاث نقاط:
أولا، أنا لم أفرق بينها، بل حميد الدين الذي فرق بينهما. فكيف يطالبني بطرح فروقات؟ هو من جعل هناك “فرق نوعي” بينها، لدرجة أن الأولى تسمى أفكارا والحدود لا تسمى ذلك. ورغم تراجعه عن عدم اعتبار الحدود فكرة، إلا أنه يصر على اعتبار هناك فرق نوعي يجعلها تختلف عن الدين والقومية.
ثانيا، الفرق الوحيد الذي طرحه حميدالدين بين الحدود والقومية، هو أن القومية “فكرة تتمتد وتتسع”. حسنا، هذا أيضا ينطبق على الحدود أيضا. وسأقدم له أربعة أمثلة:
١- الولايات المتحدة الأميركية، بدأت كدولة حدودها حدود الولايات الثلاث عشرة المؤسسة لها، والآن “تمددت” حدودها “وتوسعت” لتشمل خمسين ولاية.
٢- بريطانيا، كانت تسمى يوما “الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس” لأن حدودها يشمل رقعة تمتد من مشارق الأرض إلى مغاربها، وقد كانت قبل ذلك مجموعة جزر، وهي الآن مجموعة جزر.
٣- الكيان الصهيوني، بدأ محتلا الأرض العربية التي تغطي حدود حرب عام ١٩٤٨م، ثم تمتد ليشمل الأراضي العربية التي احتلها عام ١٩٦٧، ثم تمتد ليشمل أراض عربية جديدة في لبنان بعد اجتياحها له عام ١٩٨٢م.
٤- الدولة السعودية الحالية: بدأت بحدود الرياض، ثم خلال ثلاثين سنة، تمددت لتشمل نجد والأحساء، ثم ضمت حائل والشمال، ثم عسير، ثم الحجاز، ثم جازان ونجران.
كل هذه الدول حدودها “تمددت وتوسعت”، بل بعضها “توسعت ثم انكمشت”. فكيف يقول أن الفرق بين القومية والحدود أن القومية “تتمدد وتوسع” والأخيرة لا تفعل ذلك؟
ثالثا، بل يمكن عكس هذا الفرق إذ نقول إن تغير حدود الأمة- لأنه مرتبط بجماع قيميّ- أبطأ وأصعب من تغير حدود الدولة. وسأضرب مثالين:
١- القوميون العرب من مائة سنة وهم يعتبرون حدود الأمة العربية من المحيط إلى الخليج. ظل هذا ثابتا، ولم يتغير كثيرا. بالمقابل، نجد أن حدود الدول العربية تغيرت كثيرا في المائة سنة الماضية: فجزيرة العرب كانت سبع دول، توحدت كلها في دولة واحدة اسمها السعودية. والإمارات العربية كانت عدة إمارات وتوحدت كلها في دولة واحدة، واليمن كان منقسما ليمنين، ثم توحد لدولة واحدة. والكيان الصهيوني تمدد وابتلع اراض عربية جديدة، ومصر والسودان تقسمت، ثم السودان تقسمت. وليبيا كانت ثلاث دول فصارت دولة واحدة.
فإن كان هناك ثبات، فهي حدود انتشار الأمة، وليس حدود الدول الخاضعة لصراع القوى.
٢- المثال الثاني ألمانيا، فبعد الحرب العالمية الثانية، تم تقسيمها لألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية، ثم تم توحيدها بعد انهيار جدار برلين عام ١٩٨٩م، فالحدود تغيرت خلال خمسين عام مرتين، لكن الأمة الألمانيا لم تتغير، وكانت هي الأساس الذي تم إعادة التوحيد على أساسه.
فهذا الفرق الذي ذكره حميد الدين غير صحيح أبدا بل إنه ينطبق على الحدود أكثر من إنطباقه على أي شيء آخر. وبالتالي فهو بين أمرين: إما أن يقر أنه لا شيء “استثنائي” و”مميز” في الحدود حتى يتم اعتبارها أساسا أفضل للدول، أو أن يأتي لنا بفروق جديدة تبرر له تفريقه. فهو صاحب دعوى التفريق، وعليه البيّنة.
٢- بالنسبة لمأزق إلغاء التاريخ: فكان رد حميد الدين كالتالي:
١- أعاد تأكيد أنه يلغي التاريخ.
٢- قام بترديد الكلام المعروف أن التاريخ صناعة وليس موضوعيا.
٣- قال أن “إلغاء التاريخ لا يعني – كما يريد سلطان – أن البديل هو الأمر الواقع”. حسنا، ماذا يعني؟ جاء جوابه كالتالي (وليعذرني القارئ في نقل كلامه مطوّل):
“فالهوية السياسية كما قلت مرارا .. وقلت له أكثر من مرة .. إن الهوية السياسية اختيار قائم على مصالح معينة. هذا الاختيار يتحوّل إلى مشروع. فينجح أو يفشل. وهذا الاختيار قد يصادم الواقع وقد يوافقه.
وقلت له أنه يمكن لأحد أن يختار الهوية القومية العروبية كهوية سياسية أو أي هوية أخرى. اي لم أنف شرعية ولا حق أن يختار أحد العروبة. ولكن ما لا أقبله ولا أتفق عليه هو أن هناك هوية لها قيمة ذاتية أو قيمة خارج قيمة المصلحة. العروبة قيمتها لمن يؤمن بها هي في أنها تمثل مصالح سياسية معينة. فقط لا غير. ومثل ذلك الهوية السعودية. اليمنية. العراقية. إلخ.”
وتعليقي سيكون كالتالي:
حميد الدين إذن يقول: ١- يجب إلغاء التاريخ من الهوية السعودية. و٢- وهذا لا يعني الركون للأمر الواقع. إلا أني لم أفهم بالضبط ما يقصده في حديثه عن الهوية، ولهذا سأطرح الاحتمالات التي يمكن أن يكون يقصدها وأبدي رأيي فيها:
الاحتمال الأول، أنه يقصد “ما يحدد الهوية هو المصلحة ولا شيء آخر”.
إذا كان هذا قصده، فهو يعلن تراجعه عن كل كلامه السابق. فكل طرحه كان قائما على تحديد الهويّة بالدولة. إذ قال لنادين البدير أن ما يجمع السعوديين هم الدولة، وقال في رده الأخير هذا أن الدولة ركيزة الهوية الوطنية. الآن يتراجع عن كل هذا، ويقدم محددا جديدا للهوية هو “مصلحتنا”.
هذا من جهة، من جهة ثانية عندما نقول أننا “يجب أن نحدد هويتنا بناء على مصلحتنا”، فهذا تناقض. لأن “نا” في كلمة “مصلحتنا” تعني إشارة إلى مجموعة محددة، أي مجموعة لها هوية.
ولأوضح ذلك أكثر سأبين المعضلة بشكل أكثر تفصيلا. حميد الدين يقول “يجب أن نحدد هويتنا بناء على مصلحتنا”. نأتي نسأله: “من هم نحن المقصودين بمصلحتنا؟”. هنا سيكون عليه تحديد مجموعة ما، لنفرض أنه قال: “السعوديين”. هنا سنسأله: من هم السعوديون؟”. ومهما يكن جوابه على هذا السؤال، فسيكون هو محدد الهويّة عنده وليس المصلحة كما ادعى في بداية الكلام.
فتحديد الهوية تسبق المصلحة. لا يمكن الحديث عن “مصلحتنا” قبل تحديد من هم “نحن”.
الاحتمال الثاني: أنه يقصد “يجب علينا نحن الموجودين في حدود الدولة السعودية أن نختار هوية تتناسب مع مصلحتنا”
هذه الصياغة الجديدة تنجو من الاعتراضين السابقين فهي لا تتضمن تراجعا، ولا تناقضا. إذ أنها تحدد الـ”نحن” بحدود الدولة السعودية. لكن مشكلتها أنها تحصيل حاصل. بعابرة أخرى، فهو يقول أنه يجب علينا نحن السعوديون أن نكون سعوديون. وعندما نسأله ماذا يجمع السعوديون؟ يقول الدولة. وهنا سنعيد طرح نفس الإشكاليات مرة أخرى: أن تحديد الهوية بالدولة يلغي التاريخ، بمعنى أنه يستسلم للأمر الواقع، ويواجه مشكلة أن الدولة نفسها ليست محايدة ثقافيا وتاريخيا، ويواجه مشكلة الفاشية التي تجعل من الدولة تخلق المعنى والحق.
الاحتمال الأخير: أنه يقصد “أن البشر الموجودين في حدود ما يعرف الآن بالدولة السعودية لديهم هويّات متعددة: من بينها الإسلام والعروبة والسعودية، والأفضل لتحقيق مصالحهم المشتركة أن يختاروا الهوية السعودية”.
وهذه العبارة هي ما يمكن أن نعتبرها محاججة سليمة. لكنها محاججة تعاني من مشكلتين رئيسيتين:
الأولى أنها تحيل إلى ما هو موجود، تحيل إلى هويات موجودة لا هويات في طور الصناعة. والهويات الموجودة هي هويات لها تاريخ. وهذا يتعارض بشكل رئيسي مع تحديد حميد الدين للهوية السعودية بأنها يجب أن تكون بلا تاريخ.
الثانية أنه إذا قرر أخيرا التضحية برفض التاريخ والقبول بالهوية السعودية الحالية الموجودة، فهو سيكون وجها لوجه أمام ما يرفضه فيها: أنها قائمة بشكل رئيسي على الوهابية، وأنها مرتبطة بشكل رئيسي بالاستبداد، فهي من اسمها تشير إلى اسم عائلة. أي أن هذه الهوية السعودية الحالية تجعل مني أنا القصيمي النجدي الوهابي في وضع أفضل منه هو اليمني القاطن في الحجاز الزيدي المذهب، أي أنها تخدم مصلحتي أنا أكثر من مصلحته هو، ولا أظن أنه- خصوصا أنه يقدس المصالح- سيقبل بهوية تجعل منه مواطن درجة ثانية.
٣- بالنسبة للإلزام بنظام الحكم السعودي الحالي
حميد الدين قال أن مرتكزات الهوية السعودية الحدود والنظام الاساسي للحكم وما يمكن أن يتطور عنه والمشاركة. فبينت له أن النظام الأساسي للحكم متحيز وتاريخي، فكيف ستنزع منه التاريخ؟ وبينت له كيف أنه يتضمن جوانب دينية واستبدادية واضحة.
جاء رده بأنه: ١- لديه موقف من علاقة الدين والدولة. ٢- وأنه اعتبر النظام الأساسي وثيقة الإنطلاق.
وتعليقي سيكون كالتالي:
أولا، هو قفز على النقطة التي وضعتها ولم يجب عليها. هو يقول أن النظام الأساسي وثيقة الانطلاق لبناء هوية سعودية بلا تاريخ. أنا قلت له أن وثيقة الانطلاق هذه محملة بالتاريخ، محملة بالارتباط بالدين، محملة بالتحيز، محملة بكثير من استمداد الشرعية من تجربة التأسيس التاريخية. فعليه أن يوضح لنا كيف يمكن أن يعتبر هذه الوثيقة نقطة انطلاق إلى هوية بلا تاريخ.
ثانيا، وإذا كان لحميد الدين موقف من الدين وعلاقته بالدولة، ويطالب بتأسيس هوية جديدة لا يكون فيها الدين ولا التاريخ دور، ويسعى لتدشين دستور جديد للدولة يلغي عنها ارتباطها بالدين وبالتاريخ وكافة تحيزاتها. دستور جديد يلغي الاستبداد ويكفل للمواطنين المشاركة بالقرار السياسي. ألا يعتبر هذا “تقويضا للدولة” التي اعتبرها أساسا للهوية؟ أم أن “تقويض الدولة” عند حميد الدين ينحصر بتغير الحدود فقط؟ وعند هذه الحالة سيواجه معضلة أخرى وهي شرعية هذه الحدود وتمسكه بها.
وألا يعتبر حلم تغيير الدولة السعودية إلى الشكل المثالي الذي يطرحه حميد الدين، حلما صعب التحقيق، بل إنه أصعب بمراحل من إنشاء حلم تحويل الجامعة العربية إلى اتحاد عربي بين الدول العربية؟
ثالثا، وهو الأهم، كل حديث عن الهوية السعودية هو عن مشروع مؤجل، عن شيء سيأتي فيما بعد، أي عن شيء ليس موجودا الآن. وكون الهوية غير موجودة الآن، فلا يمكن لنا تحديد مصالحنا. وكوننا لا نستطيع تحديد مصالحنا، لا نستطيع القيام بأي شيء. فكل قرار تتخذه الحكومة السعودية هو قرار مبني على مصالح غير مصالح السعوديين بحسب الهوية التي يسعى حميد الدين إنشائها. وهذا الإلزام يجعل من مشروعه غير عملي أصلا.
٤- الهوية والمشروع السياسي
في هذه النقطة تبيّن أنه لا يوجد خلاف، وبالتالي من الآن وصاعدا سنتوقع من حميد الدين عندما يناقش الهوية العربية أن يتخلص من عقدة عبدالناصر. وأن يركز الموضوع على الهوية نفسها على المشاريع. بالمقال، عليه أن يبين لنا- حتى يتبرأ من المدرسة الفاشية- كيف يفصل بين الهوية السعودية ومشروع الدولة السعودية.
٥- ملاحظة أخيرة:
أثناء تصفحي لمدونة حميد الدين لفت نظري مقالة بعنوان “عمان ومجلس التعاون” إذ يقول في آخر سطر فيها التالي: “ففي الأخير فإن بين السعوديين والعمانيين جوار، وهم أيضاً قوم واحد، ومصيرهم العيش المشترك”. شككت لوهلة أن الترجمة للعربية كانت خاطئة، فرحت للنص الإنجليزي فوجدته يقول أكثر من ذلك، إذ النص الإنجليزي يقول التالي:
“For in the end, Saudis and the Omanis are neighbors. We are one people, destined to live with each other.”
وترجمته الحرفية: “ففي الأخير فإن بين السعوديين والعمانيين جوار، ونحن شعب (أو قوم) واحد، قدرنا أن نعيش سوية”.
لا أعلم الآن ماذا أقول. كل كلام حميد الدين السابق يرتكز على ركيزتين كبريين:
١- الهوية محصورة بحدود الدولة السعودية.
٢- الهوية السعودية الحالية المرتبطة بالدين والتاريخ مرفوضة، ويجب الإنتظار حتى تشكيل هوية جديدة بلا تاريخ ولا ثقافة ولا دين.
والآن في نصه هذا ينسف كلامه نفسه، فهو يعتمد على هوية حالية موجودة، ولا يعتبرها محددة بالحدود، بل هي تتجاوز ذلك لتضم معها حدود الدولة العمانية. وكلنا نعلم أنه لا يوجد مذهب يجمع السعوديون والعمانيون، ولا توجد حدود تضمهم سوية، الشيء الأكبر الذي يجمعهم هو أنهم عرب.
رد مفحم .. لم تترك شارده ولا وارده .. ولكن نريد مقالة عن
كيفية التعامل من الاقليات غير العربية في الدول العربية وايضا أن
كثير من المغاربة لا يعتبرون نفسهم عربا وانما امازيغيين .. والا ترى
أن المصريين من الممكن أن يكون لهم قوميتهم الخاصة المستقلة عن
العروبة كما يطرحها بعض المصريين ؟
شاكر لك تعليقك، وهذه الأسئلة التي طرحتها ستتم معالجتها قريبا ان شا الله.
تحياتي
تصدق اني مافهمت موضوع الهوية الا بعد نقاشاتكم انت والشباب في الفترة الأخيرة
ختام 2013 اعتبره جيد بالنسبة لي ثقافيا