كتبت هند السليمان مقالا بعنوان “أسطورة مانديلا أم أسطورة الحق الكامل” تعليقا على مقالي “صناعة نيلسون مانديلا“. في تعليقها تحدثت عن القضايا التالية:
١- أنني متناقض. ففي الوقت الذي أطالب فيه بـ”نزع الأسطرة” عن مانديلا، أقوم بممارسة “الأستذة”. وعقليتي- المتأستذة هذه- هي التي ستقوم الكاتبة من خلالها باكتشاف “الدوافع الكامنة” وراء كتابتي للمقال/الهرطقة الذي هو المسّ بالأسطورة/الصنم مانديلا.
٢- أن تغيّر أفكار مانديلا طبيعي، فهو في النهاية إنسان، وهو إنسان عاش مائة سنة فطبيعي أن تتغير أفكاره وألا تبقى ثابتة. (هذا الكلام يفترض فيه أن يكون ردا على نقطة أن مانديلا تنصل من مشروعه الانتخابي إلى مشروع اقتصادي بديل).
٣- أن نضال مانديلا المسلح ليس سرا، فمانديلا نفسه اعترف فيه في مذكراته.
٤- أني متناقض مرة ثانية، وذلك لأني في الوقت الذي “أنتقد” مانديلا لأنه مارس العنف، أعود لانتقاده على الموافقة على التسوية.
٥- لا يوجد حل ثالث غير النضال المسلح أو التسوية، الحل الثالث هو طرد البيض من جنوب أفريقيا، وهذا ليس منه مصلحة لأنهم “الطبقة المتعلمة التي تدير الاقتصاد والبلاد”.
٦- أن ما يحركني هو رفض التسوية.
٧- أن أسطورة “الحق المطلق” هي الأشد خطرا، إذ أن- وهذا كلامها- “أجيال سُرق عمرها، وموارد اقتصادية أُهدرت؛ لأننا ظللنا نردد الحق الكامل وكل تلك الشعارات التي ترفض التسوية. حيث صُوّرت لنا التسوية بأنها التسوية “الملعونة” والتي تعد انتهاكا لكرامتنا وشرفنا العربي. وهذا ما جعلنا نصل إلى ما نحن عليه: نرجسية مجروحة ومتضخمة وتنمية بشرية متعطلة”.
تناقضات أم عدم فهم؟
كم كنت أود لو أن الكاتبة طرحت اعتراضات على كلامي أنا حتى نستطيع أن ندخل سوية في نقاش فعّال. إن كل ما فعلته الكاتبة هو أنها عرضت آرائي بطريقة مغلوطة، ونفس هذه المخيلة التي أنتجت هذه الآراء الجديدة المنسوبة لي هي نفسها التي بدأت تفترض وجود تناقضات بين هذه الآراء.
قد يكون السبب في سوء الفهم هذا هو كلامي أنا، قد تكون صياغتي للكلام لا توصل المعاني التي أردت إيصالها. لكن هذا غير صحيح، فعلى سبيل المثال عبدالسلام الوايل في مقالته “انتقاد أسطرة مانديلا” عرض آرائي بشكل قريب جدا- إن لم يكن مطابقا- لما أردت إيصاله. لا يتبقى إذن سوى احتمال أن الأخت هند قرأت كلامي بشكل متعجل، أو أنها ببساطة لم تفهمه.
ما سأفعله الآن، لن يكون أكثر من دور مشابه لدور الأستاذ، حيث سأكرر كلامي بطريقة أبسط وأوضح من أجل أن أبين كيف أساءت هند فهمي من أول مقالتها إلي آخره.
١- فكرة مقالتي بسيطة: هناك عملية أسطرة لمانديلا. ذكرت مثالين: الأول أنه كان مناضلا سلميا، الثاني أنه قاد عملية مصالحة ناجحة. وذكرت شواهد من جهات متنوعة بما يتسع له مساحة المقال على ترديد هذه الأساطير.
٢- وضحت زيف الأسطورة الأولى بسردي لقصة نضاله المسلح. ووضحت زيف الأسطورة الثانية بإعادة تصوير ما حدث أثناء عملية المصالحة.
هذه الفكرة باختصار، كيف أساءت هند الفهم؟ سنوضح بنقاط سريعة:
١- هند فهمت من توضيحي لزيف أسطورة النضال السلمي، أني أنتقد في مانديلا أنه لجأ للعنف. لا يوجد في المقالة أي إشارة على ذلك، وفي الحقيقة أن الجانب الوحيد الذي يعجبني في سيرته هو أنه لجأ للعنف.
كما ذكرت أن مانديلا نفسه ذكر في مذكراته أنه لجأ للعنف. أنا لم أقل أنه نفى ذلك، بل هذا يثبت حجتي: أنه رغم إثباته لكونه مارس العنف، ما تزال الآلة الإعلامية التي تصنع منه أسطورة تصر على ربطه بالنضال اللاعنفي.
٢- هند فهمت من كلامي عن استبداله لمشروعه الانتخابي الاشتراكي بمشروع آخر نيوليبرالي، أني أعيب عليه “تغيّر أفكاره”، ولهذا جاء جوابها بأن البشر يتغيرون وما إلى ذلك. على الناقد عندما يريد أن ينتقد أمرا، أن يقرأ كلام منقوده بتمعن حتى لا يقع في أخطاء فجة مثل هذه.
أنا قلت أنه أثناء حملته الانتخابية تبنى مشروعا اقتصاديا اسمه “إعادة البناء والتنمية”، ولم يتم العمل به إلا فترة قصيرة ليتم استبداله بمشروع آخر نيوليبرالي لا يخدم الفئات المحرومة التي كان كل النضال الماضي من أجلها. أي أنه كان واجهة سياسية لترسيخ الوضع القائم، لا تغييره ولا تعديله. هذا ليس تغيرا في الأفكار، هذا تغير في المواقف، وهذا التغير في المواقف ليس نتيجة ضغوط خارجة عن إرادته، بل نتيجة سلسلة من التسويات.
هذا بخصوص سوء الفهم، وهو الذي شكل مجمل مقالة هند، يبقى الآن قضيتين:
الأولى، تقول هند عندما قارنت بين زيمبابوي وجنوب أفريقيا: “بمقارنة سريعة بين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لكل من جنوب أفريقيا وزيمبابوي نستطيع أن نتلمس أي الخيارين كان صائبًا سياسياً.” تقصد خيار التسوية الذي اتخذه مانديلا.
هذه المقارنة خاطئة، المقارنة الصحيحة تكون بين جنوب أفريقيا بعد المصالحة وقبلها. سألخص بعض النقاط التي أوردها الجنوب الأفريقي روني كاسريلس في مقالته “كيف باع المؤتمر القومي الأفريقي فقراء جنوب أفريقيا في صفقته الفاوستية “:
١- ففي عام ٢٠٠٨، كان ٥٠٪ من السكان يحصلون على ٧.٨٪ من الدخل الكلي. هذا يعني أن الثروات متركزة في قلة قليلة من السكان، وأن الأغلبية الساحقة تعيش على الفتات.
٢- يشكل البيض ما نسبته ٨٣٪ من بين الـ٢٠٪ الأعلى دخلا. هذا يعني أنه بالإضافة لوجود تفاوت طبقي كبير بين الأغنياء والفقراء، أن أكثر الأغنياء بيض. أي أنه لا يوجد تمايز طبقي فقط، بل تمايز عرقي أيضا.
٣- معدلات البطالة في جنوب أفريقيا حوالي ٢٦٪ ، رغم أن النمو يتزايد. ماذا يعني أن يتزايد النمو دون أن تتزايد الوظائف معه؟ هذا يعني ما تعنيه الأرقام السابقة: تركز للأموال والثروات في فئة قليلة من لون واحد، هو نفسه اللون الذي كان حاكما أيام الأبارتهايد.
الثانية، حديث هند عن “أسطورة الحق الكامل”. وهنا لدي ملاحظتين:
١- تقول أن هذه الأسطور قادت إلى ضياع أعمار واستنزاف ثروات. سؤالي أنا: ما هي الأعمار التي ضاعت والثروات التي استنزفت؟ كلامها مجرد حشو غير مسند بأي دليل.
٢- أنا لم أرفض التسوية في المقال. أنا قلت بالحرف الواحد: “وفي سياقنا العربي، سياق الربيع العربي والتحولات الإقليمية، فإنه من الضروري ألا يتم الاحتذاء بالتسوية التي قام بها مانديلا، أي ذلك النوع من التسوية الذي يقوم بإدماج حركة المعارضة، لأجل تحييد الثوّار، ومنح المعارضة إمكان الوصول إلى السلطة على حساب الفقراء.”
أي أنني هنا أرفض نموذج محدد للتسوية يشابه الما حدث في جنوب أفريقيا، ووصفته بشكل واضح “ذلك النوع من التسوية الذي يقوم بإدماج حركة المعارضة، لأجل تحييد الثوّار، ومنح المعارضة إمكان الوصول إلى السلطة على حساب الفقراء”.
وعندما أتحدث عن “سياق الربيع العربي”، فأنا أتحدث عن محاولات أجزاء من الأنظمة المستبدة في الدول التي شهدت ثورات للدخول بصفقات مع الحركات المعارضة من أجل وأد هذه الثورات وعدم تحقيق مطالبها. إلا أنه على ما يبدو أن هند فهمت كلامي عن التسوية هنا بأني أرفض عملية السلام بين العرب والإحتلال الصهيوني، وتطالب العرب أن يقدموا “تسويات” مع الإحتلال. حسنا الرد هنا بسيط:
أ- نعم، لا يوجد أي معنى من الحديث عن “تسوية” مع احتلال، إلا إذا كانت تسوية هنا تعني استسلام.
٢- أن المحاولة العربية “للتسوية” التي تم تدشينها منذ التسعينات لم تقد إلى شيء: عام ١٩٩٦ شنت اسرائيل حملة عناقيد الغضب ضد لبنان، بداية الألفين قمعت بشكل وحشي الانتفاضة الثانية، بعد ذلك تم اجتياح غزة، بعدها تم قصف لبنان، بعدها ضربت غزة..إلخ. هذا هو الطرف الذي تريدنا الآنسة هند أن نقدم له “تسويات”.
منذ عام ٢٠٠، تقتل إسرائيل سنويا ما معدله ١٢٠ طفل فلسطيني، منذ عام ٢٠٠٠ قتلت إسرائيل ٥٢٥ فلسطيني سنويا، منذ عام ٢٠٠٠ تسببت إسرائيل بأذى جسدي ل٣ آلاف و٩٠٠ سنويا. هذا هو الطرف الذي تريدنا الآنسة هند أن نقدم له “تسويات”.
تسجن اسرائيل الآن ٥ آلاف فلسطيني، وهدمت من البيوت ما يقارب ٢٧ ألف منزلا، وبنت ما يقارب ٢٦٠ مستوطنة خاصة باليهود فقط. هذا هو الطرف الذي تريدنا الآنسة هند أن نقدم له “تسويات”.
موضوع رائع ومميز
مدونة جميلة.. ننتظر جديدك
أتمنى تنزل رآيك في موضوع النسبية الأخلاقية لأن حميد الدين منزل كذا مقال عن الموضوع،والجماهير حابة تسمع رأيك يالعلامة.
وشكرا